تشريح العنف: كيف يكشف علم الأعصاب عن جذور الجريمة
تاريخ النشر: 29th, September 2024 GMT
يُعَدُّ كتاب "تشريح العنف: الجذور البيولوجية للجريمة" للدكتور أدريان رين من أبرز الكتب التي تربط بين علم الأعصاب والجريمة، حيث يعرض الأساس العلمي لفهم السلوك الإجرامي من منظور بيولوجي عصبي. ويعتمد على أكثر من ثلاثين عامًا من البحوث والدراسات التي أجراها رين حول الأسباب العصبية والجينية للعنف والجريمة، والأسباب التي تدفع بعض الأفراد لارتكاب الجرائم، مركّزًا على استخدام تقنيات تصوير الدماغ لفهم نشاط المناطق العصبية المتعلقة بالعنف.
في هذا الكتاب، الذي صدرت طبعته الأولى في أبريل من عام 2013، يؤكد المؤلف أن بعض الأفراد قد يكونون أكثر عُرضة للجريمة بسبب عوامل بيولوجية تحدث في مرحلة مبكرة من حياتهم. يقدم الكتاب تفسيرًا علميًا لكيفية تأثير الاختلالات العصبية والجينية على اتخاذ القرارات والعواطف، مثل الشعور بالذنب والخوف. ويقدم المؤلف تشريحًا للعقل الإجرامي، مُسلطًا الضوء على الروابط بين العقل والبيئة، وكيف أن هذه العوامل معًا يمكن أن تؤدي إلى السلوك الإجرامي.
الدكتور أدريان رين هو عالم نفس وأستاذ علم الجريمة في جامعة بنسلفانيا، ويُعتبر من الرواد في مجال علم الجريمة العصبي، وهو المجال الذي يبحث في الأسس البيولوجية والعصبية للسلوك الإجرامي. حصل رين على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة يورك في المملكة المتحدة، وقضى عقودًا في دراسة الأسباب البيولوجية التي تدفع بعض الأفراد لارتكاب الجرائم، مركّزًا على استخدام تقنيات تصوير الدماغ لفهم نشاط المناطق العصبية المتعلقة بالعنف.
في الفصل الأول: "الجريمة والعلم العصبي"، يبدأ الكتاب بمقدمة حول مجال علم الجريمة العصبي، وهو الحقل الذي طوره رين. يشرح في هذا الفصل كيف يمكن لعلم الأعصاب أن يوفر الإجابات عن أسئلة حيرت العلماء حول أسباب الجريمة. يستعرض الكاتب كيف أن التكنولوجيا الحديثة، مثل تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي، يمكن أن تساعد في الكشف عن السمات الفريدة للعقل الإجرامي، مشيرًا إلى أن الجريمة ليست دائمًا نتيجة للعوامل الاجتماعية فحسب، بل يمكن أن تكون لها جذور بيولوجية.
في الفصل الثاني: "الجذور العصبية للجريمة"، يتعمَّق رين في تحليل العوامل البيولوجية التي قد تؤدي إلى الجريمة. يقدم عددًا من الدراسات التي أجريت على مجرمين معروفين مثل ريتشارد سبيك وتيد كازينسكي. يستعرض الباحث كيف أن تلف بعض المناطق في الدماغ، مثل "الفص الجبهي واللوزة الدماغية"، قد يؤدي إلى سلوك غير طبيعي. هذه المناطق تتحكم في القدرة على اتخاذ القرارات والشعور بالخوف والندم. يعرض الكتاب أدلة تشير إلى أن بعض الأفراد قد يكون لديهم اختلالات عصبية تجعلهم أكثر عرضة للعنف.
أما في الفصل الثالث: "الجريمة والتربية المبكرة"، فيناقش أهمية البيئة والتنشئة المبكرة، إلى جانب العوامل البيولوجية، في تطوير السلوك الإجرامي. يشير رين إلى أن الأطفال الذين يتعرضون لظروف بيئية قاسية أو يُهملون قد تتأثر عقولهم بطرق تزيد من احتمالية تورطهم في الجريمة. يتناول الكتاب تأثير التغذية السيئة، والإهمال العاطفي، والإساءة الجسدية على نمو الدماغ والسلوك. يجادل المؤلف بأن العوامل البيئية قد تؤدي إلى تغييرات هيكلية في الدماغ، مما يزيد من احتمالية تطور الشخصية الإجرامية.
وفي الفصل الرابع: "علم الوراثة والعنف"، يقدم دراسة موسعة حول الوراثة والجريمة. يوضح رين أن الجينات تلعب دورًا في تحديد الميل نحو العنف. ويعتمد المؤلف على دراسات تربط بين جينات معينة وسلوكيات مرتبطة بالعنف. على سبيل المثال، يشير إلى أن الأفراد الذين يحملون متغيرات جينية معينة قد يكونون أكثر عرضة لارتكاب الجرائم بسبب خلل في الوظائف الكيميائية العصبية.
ويقدم الفصل الخامس: "الوقاية والتدخل المبكر"، عددًا من الحلول المحتملة للتعامل مع السلوك الإجرامي من منظور بيولوجي. يقترح أن هناك إمكانية لتدخلات بيولوجية واجتماعية من شأنها أن تمنع السلوك الإجرامي قبل أن يبدأ. ومن هذه التدخلات: العلاج السلوكي المعرفي للأطفال المعرضين للخطر، التغذية الجيدة، وتطوير برامج تعليمية تعزز المهارات الاجتماعية والعاطفية. كما يناقش رين الأساليب الجراحية والعقاقير التي يمكن أن تعدل من النشاط العصبي، ما يقلل من احتمالية ارتكاب الجريمة.
وفي الفصل الختامي السادس: "الجريمة، القانون والأخلاق"، يتناول الكتاب التحديات الأخلاقية والقانونية التي تنشأ من الربط بين الجريمة والعوامل البيولوجية. هل يمكن محاكمة الأفراد الذين قد يكون لديهم ميل جيني أو عصبي للجريمة بنفس القسوة التي نعامل بها الأفراد الآخرين؟ هل يمكن استخدام المعرفة البيولوجية للتنبؤ بالجريمة ومن ثم الوقاية منها؟ يناقش رين المخاوف المتعلقة بالخصوصية والحريات الفردية، وكيف يمكن أن تؤثر هذه التطورات العلمية على النظم القانونية.
إلى جانب كتاب أدريان رين "تشريح العنف: الجذور البيولوجية للجريمة"، هناك عدة كتب وبحوث تناولت هذا الموضوع الحيوي من زوايا مختلفة تشرح العلاقة بين اضطرابات الشخصية السيكوباتية والهيكل الدماغي، والجوانب الوراثية والبيولوجية للعنف وميل بعض الأفراد نحو السلوك الإجرامي نتيجة لعوامل بيولوجية.
ختامًا، يُعَدُّ اتجاه "التشريح البيولوجي للعنف" من الإسهامات العلمية المهمة لفهم الجريمة من منظور جديد، حيث يدمج بين العلوم البيولوجية والاجتماعية ليكشف عن الجذور العصبية للجريمة. وبالاعتماد على هذه المعرفة، يمكن التطلع إلى تطوير استراتيجيات جديدة للتدخل والوقاية قد تسهم في منع الكثير من الجرائم قبل وقوعها.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: السلوک الإجرامی بعض الأفراد علم الأعصاب فی الفصل یمکن أن تشریح ا إلى أن
إقرأ أيضاً:
تطبيع الجريمة الإسرائيلية في غزة
في 17 تشرين أول/أكتوبر 2023 قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي – بقصف جوي – مئات المرضى والأهالي النازحين الذين كانوا يحتمون بساحات المستشفى المعمداني في غزة. نالت الجريمة قدراً كبيراً من الغضب العالمي والاحتجاج، رغم تبني الغرب الرسمي الرواية الإسرائيلية بتحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الجريمة. وفي 13 نيسان/أبريل الحالي قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المستشفى نفسه، ودمرت عدة أقسام فيه، وأخرجته عن الخدمة، غير أن الجريمة – هذه المرة – مرت مرور الكرام، إن جاز أن نصف الجرائم بالكرم.
هناك عوامل عدة أدت إلى عدم تفاعل الرأي العام الدولي مع الجريمة الثانية، بعد تفاعله مع الجريمة الأولى، وبالطبع فإن من ضمن تلك العوامل حجم الضحايا في القصف الأول، غير أن هناك عاملاً مهماً ينبغي الالتفات إليه، وهذا العامل يتعلق بالطبيعة البشرية التي يمكن أن تألف الأحداث وتتعايش معها، وهذا ما يدركه المجرمون الذين يعولون على اعتياد الناس للجرائم، وإلفهم لها، وتعايشهم معها، مع مرور الوقت، الأمر الذي جعل استهداف منشأة مدنية أمراً يمكن تقبله، بسبب «إلف النفوس»، حسب تعبير ابن حجر العسقلاني الذي قال إن «النفوس تألف ما تكرر عليها، فإن كان خيرًا ألفته، وإن كان شرًا لم تستنكره».
إنه التعود، تطبيع الجريمة، «تبلد الإحساس»، وغيرها من كلمات مفتاحية فيما يخص التعامل مع الأخبار التي تصلنا من قطاع غزة الذي لا تتوقف الحرب الإسرائيلية عليه إلا لتبدأ، والذي لم تعد إسرائيل تخفي حقيقة بنك أهدافها فيه، وهي الأهداف التي تدور حول استنساخ تجارب 1948 في التطهير العرقي، كهدف أساسي، يتسنى لإسرائيل وداعميها – من خلاله – التخلص من هذا الصداع الذي روي عن إسحاق رابين مرة أمنيته أن يصحو يوماً ليجد غزة قد ابتلعها البحر.
خفت حدة المظاهرات المنددة بالجريمة الإسرائيلية في غزة إذن، لم تعد المظاهرات بذلك الزخم، لأسباب عدة، من أهمها «تطبيع الجريمة»
خلال عام تقريباً كانت المظاهرات لا تتوقف في مدن وعواصم العالم: ومن لندن لباريس لبرلين ونيويورك وواشنطن ومدن في أمريكا اللاتينية إلى استراليا وآسيا وأفريقيا، كانت حركات الاحتجاج تتسع، إلى أن بلغت الحرب الإسرائيلية ذروتها باستهداف لبنان، وما حدث من تراشق إسرائيلي إيراني مباشر، أو من خلال ميليشيات طهران، الأمر الذي جعل إسرائيل تبدو ضحية لعدة قوى تريد «محوها من الخارطة»، حينها بدأ العد التنازلي لحجم المظاهرات وحركات الاحتجاج، مع الإيهام بوقف الحرب، واعتياد الناس لحجم الجريمة، بمرور الوقت.
خفت حدة المظاهرات المنددة بالجريمة الإسرائيلية في غزة إذن، لم تعد المظاهرات بذلك الزخم، لأسباب عدة، من أهمها «تطبيع الجريمة»، هذا التطبيع الناشئ عن تكرار المشاهد الإجرامية، بشكل مستمر، الأمر الذي سوغ التعايش معها، إذ لم يعد الإحساس بها بالقدر ذاته من التوهج، حيث إن الإحساس بالجريمة كغيره من الأحاسيس يضعف بعوامل عدة، منها تغير التصورات والأفكار والقناعات، نتيجة للضخ الإعلامي والدعاية المضادة، ومنها تقلب الأهواء والأمزجة الذي يلعب دوراً في تغير درجات الإحساس بالجريمة، وكذا توالي الأحداث، وانتقال دائرة الاهتمام الإعلامي والسياسي من بلد إلى آخر، دون إغفال عامل الزمن ودوره في برود الحس أو خفوت توهجه، مع ما يمكن أن يصاحب العوامل المذكورة من تبلد في المشاعر والأحاسيس، ينتهي إلى التطبيع والتعايش ليس مع المجرم وحسب، ولكن مع الجريمة ذاتها.
في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة كان كثير من أعضاء الكنيست الإسرائيلي والوزراء والقادة العسكريين والسياسيين يصرحون ويتصرفون تصرف من لا يهتم بالرأي العام العالمي، كما أنهم أبدوا قدراً كبيراً من الاستخفاف بالأمم المتحدة، وكانوا يؤكدون على أن مصلحة إسرائيل فوق القانون الدولي، وأن المنظومة الدولية برمتها تسير في اتجاه معادٍ للسامية، لمجرد أنها تدين جرائم جيش الاحتلال، وكانت التصريحات والتصرفات الإسرائيلية تصب في مجرى المحاولات المبرمجة لإعادة صياغة الوعي، وإعادة تعريف النظم والقوانين والمبادئ.
وقد بنيت الاستراتيجية الإسرائيلية – في هذا الشأن – على أساس أن التوجهات الدولية تتغير، حسب مجريات الأحداث، وعلى اعتبار أن القوة يمكن أن تعيد تعريف القيم، وأن المصالح والمنافع تعيد صياغة القوانين والاتفاقيات، وأن ـ وهذا مهم ـ ذاكرة الشعوب مثقوبة، سريعاً ما تتسرب منها الأحداث والتواريخ والتعاليم والوصايا، وأن ـ وهذا هو الأهم ـ الناس يتعودون على مشاهد القتل ويألفونها، ومن ثم تتضاءل نسبة تفاعلهم معها، أو استبشاعهم لها، مع مرور الوقت.
وبعد – بل وخلال – قرابة 18 شهراً من الضخ الإعلامي لمشاهد الدمار والقتل والتهجير والتطهير وغيرها من الجرائم التي تمارسها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة، تشكل مسار سلبي في التعاطي الجماهيري مع الجريمة، مسار ميّز تعاطي كثيرين ملّوا رؤية مناظر الدم، وتعللوا بأنهم لم يعودوا يحتملون ذلك، وأنه ليس في يدهم شيء يفعلونه، وأن الأمر أكبر من قدراتهم، فانصرفوا لمشاهدة ما يبهج من أخبار تعيد لهم التوازن النفسي، وتبعث على البهجة، بدلاً من الاهتمام بمشاهد القتل والدمار التي تسبب الحزن والاكتئاب.
ومع الوقت أصبح كثيرون لا يبالون بما يجري من جرائم بشعة في غزة، حيث لم تعد الجريمة تحرك فيهم ساكناً، بعد طول فترتها وتكرار مشاهدها، وهي حالة من «التبلد العاطفي» أصابت كثيرين، بفعل تكرار مشاهد الجريمة، ومراكمة حالات الإحباط واليأس، والشعور بالعجز.
كان الفقهاء المسلمون يتحدثون عن «إلف المنكر»، وهي حالة شعورية يتعايش فيها الإنسان مع الذنوب والجرائم، حتى يصبح «المنكر (الجريمة) معروفاً والمعروف (الاحتجاج ضدها) منكراً»، حسب الحديث النبوي، ذلك أن الجرائم «إذا توالت وكثُرت مباشرتها، أنِستْ بها النفوس، وإذا أنست بها النفوس قلّ أن تتأثر بها»، حسب تعبير أبي الحسن الزيات الذي أشار إلى «تأنُّس القلب» بالمنكرات، وهذا ما يبدو أنه الوصف الذي ينطبق على تعاطي الرأي العام العربي والإسلامي والدولي، إزاء واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ البشري.
المصدر: القدس العربي