تاك تاك تاك (في التَّذكُر والتَّذكير)
تاريخ النشر: 29th, September 2024 GMT
(1)
ليس في مقدور الليل أن يكون قدوة لكل أحد (ما دام الليل يفترس الجميع).
(2)
هذا سؤال ميثاقيٌّ بين أنا وأنا (فحسب): أصبح الموت بعيداً مثل النَّجمات اللائي يتقافزن وينبثقن بسرعةٍ تكاثريَّة، واحدة بعد أخريات، وأنا مستلقٍ على ظهري، على "السَّجم"، مُصَوِّباً ضوء المصباح الكهربائي المحمول (كنا نسميه: "البجلي") نحو السَّماء كي أحسب عدد النُّجوم.
والآن، أمسى الهلاك أدنى، غارَ الماء أبعد، لم تعد هناك سماء، غدت الكتابة أصعب، صارت الأصابع قصيرة، بات الليل أطول، فماذا أنت فاعل؟
(3)
في الشَّهقة التي تطردها الكلمات، في كتابة لا ترجوني بل تنتظر المواسم، في الجوع نافراً من القلب، في عشاءٍ من ماءٍ يغلي وأحجار في القِدر (إن صحَّت الرِّواية)، في كل ذلك.
(4)
لا أحد على الجسر، ولا أوز في البحيرة، ولا ماء في المواسم (لذا لم تعد النُّزهة الأخيرة تحتمل المزيد من التَّسويف).
(5)
عندي حلقوم، ولديكم صيارفة، وعقود مغشوشة، )"والله خير الماكرين" سورة "الأنفال").
(6)
كلُّهم الوارد، بعيداً عن الأصابع، نأياً عن الأفئدة، قرب التَّدوين، وعند الشِّفاهة.
(7)
أدَّخرك ضياعاً في الشِّعر، والنَّثر، وكل ما لا أفقه.
أدَّخرك قبل اللَّعثمة، وبعد البحر.
(8)
لا يأخذني البحر إلى الماء، بل إلى المحبَرَة.
(9)
في وسعي أن أكون كهفاً آخر حين أكون في ظفار، في موسم الخريف.
(10)
يا هذا: لا ترجمني بتلك الحَجرة (هناك جبل كبير تدحرجنا منه).
(11)
لستَ واضحاً بما فيه الكفاية أيها الغريم، ولستَ واضحاً بما فيه العدل أيها القاتل.
(12)
الحُبُّ حاجة (وهذه هي الكارثة بالضبط).
(13)
الصَّباح نسيان (والنِّسيان مجرَّد اجتهادٍ آخر).
(14)
لغاية الآن -- حسب أفضل وأوثق ما لديَّ من معلومات -- لم تصدر موافقة الجهات العليا على وفاته.
(15)
أسلك الطريق، وأؤجِّل الحنجرة، وأربِّي الصمت، وأضيء النِّسيان.
(16)
--أ--
أستمسكُ بالطَّحالب، والآثام، والشِّعر، والغفران، وهوادج الفَرَاشات إلى البيت العتيق. لا أنا في وارد الاستخفاف بالشِّعر والروح، ولا أنا سأذهب إلى السَّدنة والمعابد، ولا أنا في حِلٍّ من مغفرة الاسم للاسم:
"لأمِّ القُرى حنَّت رِكابي وأمَّتِ
لأحظى بها من وجه ليلى بنظرةِ
سباني هواها فأتمرت بأمرها
ولولا هواها ما هَمَمتُ بزَورتي" )عبدالله بن محمد المعيني، من "القصيدة المكيَّة" أو "قصيدة الحج").
--ب--
"اسمي العبري هو أمشيل (Amschel)، وهو يشبه اسم جدِّي لأمِّي الذي توفي يوم كانت أمي في السادسة من عمرها. تتذكر أمي أن جدَّها كان رجلاً ذا لحية بيضاء، عالماً، ورعاً، وتتذكر كيف أمسكت بأصابع أقدام جثته وهي تتوسل إليه أن يسامحها عن أي أخطاء ارتكبتها بحقه" (كافكا، "اليوميات").
(17)
لا تُصَدِّقهُ، بل ثِق بما لا يقول، ولن يكذب عليك.
(18)
يجهشون في السَّاقية، ويهلكون بالتَّزكية.
(19)
في الحُبِّ، وفي الشِّعر، هذا كل ما أستطيع، وأريد العودة إلى التُّراب والبحر.
(20)
ليتهم كانوا بلا أفئدة (أولئك القَتَلَة).
(21)
س: من سيموت حين أذهب؟
ج: ألبوم الصُّور.
(22)
تأتي الفاكهة قبل النَّار، وتصير الفواكه الجحيم.
(23)
يتشاورون ويَستفتون على الحبال والخناجر.
(24)
لا أحد (هذا كلام غير دقيق ما دمت قد كتبت "لا أحد").
(25)
لستِ في الهودج، والحبُّ لا يمرُّ دوماً عبر الواحات.
(26)
ليس من أجل الخلود، بل لخاطر التَّذكُّر.
(27)
تمضي الزَّواحف نحو قانونٍ أقل، ويصرُّ الإنسان على تدوين ذلك.
(28)
يقيم الأب دوماً في البيت الوحيد الذي يسكن فيه ويعرف جيداً انه غير مرحبّ به فيه: بيته الذي لم تكن فيه قَط.
(29)
في تاريخ "العائلة المعروفة" أنت الوريث الوحيد، وأنت الأوحد الذي لا يحقُّ له الكلام، ولا يكف عن الألم.
(30)
يحاولون تشذيبه بما تبقى من حياد الإعصار وتشابك الأشجار (ونهداك أرنبان مذعوران عند ساقية الضُّحى، والخبز، والرِّيح).
(31)
كان كلما سمع أنين الجياع ظنَّ أنه نباح الكلاب التي في قصره. ولذلك كان الملك يرمي عظاماً من بقايا مائدته حتى صار الوطن شعباً تامَّاً من الكلاب كاملة النُّباح.
(32)
--أ--
"الخصائص أو السِّمات المميِّزة لعملي مستمدَّة، قبل أي شيء، من مشاهداتي للسِّينما لسنوات طويلة. لسنوات عديدة، شاهدت كل أنواع السِّينما من حولي وامتصصتُ واستوعبت كل ما وجدته ممتعاً ومثيراً للاهتمام. وعندما حاولت، لاحقاً، الكتابة وصناعة الأفلام، عادت كل هذه الأشياء إلى السَّطح، وأصبحت أسلوباً".
--ب--
"ليس بإمكاني فعلاً أن أخبرك عن مغزى اليد الحجريَّة التي سُحِبت خارج ميناء "سالونيكي" [في فيلمي "منظر طبيعي في السَّديم"]".
--ج--
حقاً، من غير ثيو أنغِلوبوس يمكن أن يُعرِّف "الأسلوب" ببراءة وثقة كما ورد في الاقتباسين أعلاه؟
(33)
"تاك تاك تاك" (النَّص)
"طَرْقٌ:
تاكْ تاكْ تاكْ تاكْ
تاكْ تاكْ تاكْ تاكْ
تاكْ تاكْ تاكْ تاكْ
تاكْ تاكْ تاكْ تاكْ
تـ
ا
كْ" (كيمبريدج، بريطانيا، 1985، من مجموعتي الشِّعريَّة "ليلميَّات").
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تاک تاک
إقرأ أيضاً:
مشروع رفيق الحريري... الذي انتقم له التاريخ!
في 14 شباط (فبراير) 2005، كان اغتيال رفيق الحريري. كان ذلك قبل 20 عاماً.
كان إيذاناً بحرب جديدة تستهدف إلغاء لبنان عبر قتل مشروع إعادة الحياة إلى البلد على غرار إعادة الحياة إلى بيروت بكلّ ما ترمز إليه. صدّ لبنان الحرب التي استهدفته. لم يربح بعد الحرب التي شنّت عليه باسم «المقاومة»، لكنّه خسر رفيق الحريري الذي يظلّ مشروعه المحاولة الوحيدة لإعادة وضع لبنان على خريطة المنطقة والعالم... وإعادة لبنان بعمقه العربي إلى اللبنانيين، جميع اللبنانيين إلى الشيعي والمسيحي قبل السنّي.قتلوا رفيق الحريري، القتلة معروفون. لكنّ هؤلاء القتلة لم يتمكنوا من مشروعه الذي هزمهم. إنّه المشروع الذي لا خيار آخر أمام العهد الجديد في لبنان غير العودة إلى خطوطه العريضة التي تستند إلى ربط البلد بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم... بدل أن يكون لبنان ضاحية فقيرة من ضواحي طهران.
خسر لبنان رفيق الحريري، لكنه لم يخسر نفسه بفضل ما بناه الرجل، بفضل رؤيته المستقبلية، التي عمّرت خمس سنوات تقريباً. بين نهاية 1992 ومنتصف 1998، عندما انتخب إميل لحود رئيسا للجمهورية في سياق حرب إيرانيّة - سوريّة على رفيق الحريري. جُنّد في تلك الحرب بشار الأسد، الذي كان يجري تحضيره لخلافة والده، تمهيداً لعملية وضع اليد الإيرانيّة على سوريا ولبنان في آن.
استطاع رفيق الحريري، إعادة بناء جزء كبير من البنية التحتية بأقل مقدار ممكن من الاستدانة وأكبر مقدار ممكن من الفعاليّة. فعل ذلك على الرغم من كلّ الحملات التي شُنّت عليه من كلّ حدب وصوب. اغتيل سياسياً ومعنوياً قبل اغتياله جسدياً. تبيّن أنّه كان على حق عندما قال لي شخصياً مساء السبت، قبل أقلّ من 48 ساعة من تفجير موكبه: «من سيغتالني مجنون». كان ذلك في منزله في قريطم، حيث سألني عن مدى جدّية التهديدات التي تستهدفه، فأجبته إنّها «أكثر من جدّية». زدت على ذلك ردّاً على سؤال منه: «هل النظام السوري عاقل أم مجنون؟» إن هذا النظام «بقي عاقلاً إلى اليوم الذي قرّر فيه التمديد لإميل لحود، في رئاسة الجمهوريّة على الرغم من صدور القرار 1559».
في الواقع، ما كنت لأجازف بالقول إنّ النظام السوري لم يعد عاقلاً لولا لقاء لي مع بشّار الأسد، قبل وفاة والده بأسابيع. اكتشفت في اللقاء الذي استمرّ ثلاث ساعات، في حضور شاهد، أنّ بشّار، شخص متهور لا علاقة له لا بما يدور في المنطقة ولا بما يدور في العالم. يقول بشّار، الشيء وعكسه في غضون دقائق قليلة. زادت قناعتي بأنّه سيقدم على عمل مجنون مثل تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري، وجرائم أخرى. معلومات بلغتني لاحقاً من شخص موثوق به فحواها أنّ خليفة حافظ الأسد «معجب بحسن نصرالله وبات تحت تأثيره»!
ما حقّقه رفيق الحريري، للبنان كان أقرب إلى معجزة من أي شيء آخر. مضى عشرون عاماً على غيابه ولا يزال حاضراً أكثر من أي وقت، خصوصاً بعد كلّ ما شهده اللبنانيون في عقدين كان فيهما الهمّ الأوّل لـ«الحرس الثوري» الإيراني، عبر أداته اللبنانيّة، تدمير كلّ مؤسسة لبنانية وكل رموز لبنان. هذا ما فهمه رفيق الحريري، باكراً، أي قبل تسلّمه مهمات رسمية.
لذلك، دعم المجتمع اللبناني عن طريق التعليم. ثلاثون ألف شاب لبناني من كلّ الطوائف والمناطق تعلموا على حسابه. دعم أيضاً كلّ ما له علاقة بصمود لبنان مثل المؤسسة العسكرية التي تكفل في مرحلة معيّنة بجزء من رواتب ضباطها وعناصرها. دعم الجامعة الأميركية وأساتذتها في بيروت على كل المستويات وقبل ذلك الجامعة اللبنانية. دعم أيضاً جريدة «النهار» بكل ما تمثله في وقت مرّت فيه بظروف صعبة. أثار ذلك غضب بشّار الأسد، الذي طلب منه بيع أسهمه في «النهار». ما لبث بشّار، أن حرض على جبران تويني، الذي اغتيل في أواخر العام 2005، مع مجموعة الشرفاء، من سمير قصير، إلى لقمان سليم ومحمد شطح وباسل فليحان، مروراً ببيار أمين الجميل، وكلّ مَنْ ساهم في ترسيخ فكرة «لبنان أوّلاً» مثل وسام الحسن ووسام عيد وجورج حاوي ووليد عيدو وانطوان غانم وفرنسوا الحاج...
بعد 20 عاماً على اغتيال رفيق الحريري، بقي المشروع، مشروع قيامة لبنان... ورحل القتلة. ليس ما يدعو إلى الشماتة، مقدار ما أنّ ليس هناك ما يعوض خسارة رجل أمضى حياته القصيرة وهو يبني. بنى نفسه أولاً ثم انتقل، بدعم سعودي وعربي ودولي، إلى بناء بلد كان مهووساً به اسمه لبنان.
كان رفيق الحريري، مهووساً بسوريا أيضاً. لم يسع إلى إنقاذ لبنان فحسب، بل سعى أيضاً إلى إنقاذ سوريا. سألني بعد عودتي من دمشق إلى بيروت ومقابلتي بشّار الأسد، عن رأيي في الرجل، فاجبته إنّّه «يكرهك إلى أبعد حدود». أخرجني من الغرفة التي كنا فيها إلى حديقة المنزل في قريطم، ليسألني مجدداً: «إلى أي حد يكرهني بشّار؟». أجبته مستخدماً عبارة بالفرنسية معناها «كرهه لك في العظم». لم اتجرأ وقتذاك، في العام 2000، على القول إنّّه يمكن أن يصل الأمر ببشار إلى حد التحريض على اغتيالك.
ليس ما يعوض خسارة لبنان لرفيق الحريري. لكنّ الأكيد أن مشروعه لايزال حيّاً يرزق. انتقم التاريخ له. انتقم له في لبنان وسوريا التي كان رفيق الحريري، أيضاً حريصاً عليها حرصه على لبنان!