الشتائم البغيضة، تحريضُ انتماءات مذهبية على أخرى، قيح الجرح القديم الذي تنمو عليه جرثومة موتنا كل مرّة، الخطاب المثبط للهمّة في وقت حساس كهذا، اللغة التي تشيع الفرقة، وتقضي على مشتركاتنا العربية الإسلامية، كلها أسباب تجعل العدو يفتُّ عضد لحمتنا الواهي بيسر وخفة.
فنحنُ نعيد قصّ حكايات مُحملة بالبغضاء والكراهية والتشويه، تهيمن عليها الانحيازات العنيفة، فننشغلُ بعضنا ببعض عوض أن ننشغل بالوحوش الضارية التي تغرسُ مخالبها في أوردتنا فتنزُّ دما، وكأننا لا نفعلُ أكثر من إعادة إنتاج الخذلان، دون أن نسترشد بسمات الوعي الجديد.
الآخر لا يرانا مذاهب متعددة، يرانا أضحية جديرة بالموت والفناء، وكأنّ جراحنا المُلتهبة تستنهضُ وحوش الأساطير القديمة التي لا ينضب سيلان جوعها الاستعماري الاستحواذي الاستيطاني، فلا يُراد لأصوات مُعتدلة أن تبزغ إلى أن ينهشنا الخراب في أعمق نقطة من وجودنا.
إنّنا إزاء نسخة شديدة الشحوب عنّا كعرب ومسلمين، لكن لا يمكن لتشاؤمنا أيضا ألا يجعلنا ندرك الديناميكية الجديدة التي تعتمل في المياه الباطنية، تلك النزعة المُغايرة التي تلهثُ لاستبصار ملمح عصي في منعطف حاد، رغم ما يُدفع من موت ودموع.
في مقال للكاتب جورج أورويل بعنوان: "السياسة واللغة الإنجليزية" يقولُ شيئا يُعبر عن لحظتنا الراهنة: "اللغة المستخدمة في السياسة ترمي إلى أن تكسو الأكاذيب ثوب الصدق، فتجعل القتل العمد جديرا بالاحترام"، فانكشاف قصّة زيف الإعلام الغربي بعد أن قدّم نفسه كمالك أوحد للحقيقة، بعثر مسلمات عدّة، فاخترقت الصورة التي تخرج من فلسطين أو اليمن أو سورية أو السودان أو لبنان، اخترقت العالم كرصاصة، فجعلته مذهولا غير مُصدق.
أليس الأولى بنا أن نغادر نحن أيضا أوحال خلافاتنا منتهية الصلاحية؟ لصالح تنمية هويتنا المشتركة في هذه اللحظة التاريخية؟
البشرية منذ الأزل مجبولة على التحيز، تجاه جماعة ما أو لون أو عادات أو أفكار، وقد تكون هذه التحيزات ضيقة ومحدودة، أو أكثر امتدادًا مما نظن، ظاهرة وبارزة أو مضمرة ومتغلغلة، ولذا فقد تمّ اللعب على نسيج وعينا بخرافة الفرقة، فاخترعوا لنا الأعداء من تاريخنا وبثوا فيهم الحياة، جعلوهم أكثر وضوحا مما كانوا عليه في عصورهم ربما! جعلوهم أكثر قتامة وغلوا.
هل لنا أن نتصور أننا اليوم وعبر التقنيات الحديثة نتقاتل بفجاجة وصخب وشتائم حول خلافات شخصيات مضت منذ قرن ونصف؟ بل إننا على استعداد لكيل تهم التكفير، وبث الترويع لخلافات مرّت عليها دواليب الزمن الثقيلة!
إنّ عدم مغادرتنا لذلك الماضي، عدم استقرائنا له وتفنيده، هو ما يمنع ولوجنا لعصرنا الجديد -كما ذهبت العديد من الآراء- هو ما يجعل العدو يضع قدما على أخرى مُتفرجا على انشغالنا المريض ببعضنا، كأمّة تتفتتُ من داخلها دون حول أو قوة! والتبرير الذي قد ينتهجه بعضنا يُعمي بصيرتنا عن إدراك مصدر الشرور، فلا يلوح لنا أي مهرب أو مفر!
لسنا الآن في حاجة لجدل مجاني، من منا المصيب ومن منا المخطئ، أمام سيناريوهات الموت البشعة، لا سيما أن مخالب العدو في أشد صورها وضوحا وفتكا. يكفي الآن أن نرى العدوان عدوانا وأن نمنع وقوع المزيد من الظلم بالشعوب المسحوقة منذ عقود.
إنّ كل أفكارنا تصوراتنا عن أنفسنا وكياننا باتت على المحك لاختبارها واقعيا في ظل هذه الكارثة التي تحيق بوطننا العربي، وعلى معدننا الأصيل أن يُظهر أفضل سماته، كيلا نُفوت على أنفسنا فرصة الإمساك بزمام مجتمعنا الجامح، لترويض هيجانه الذي يُحولنا إلى مسوخ تنخرها المادة الإعلامية المزيفة التي تتلفُ آخر ما بيننا من مشتركات.
وكما يقول أمل دنقل: "إنّه ليس ثأرك وحدك، لكنه ثأر جيل فجيل، وغدا سوف يُولد من يلبس الدرع كاملة، ويُوقد النار شاملة، يطلبُ الثأر، يستولدُ الحق من أضلع المستحيل".
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
لغة استقلال الهند.. حرب اللغات في شبه القارة تستهدف الأردية المتأثرة بالفارسية والعربية
شهدت شبه القارة الهندية عدة صراعات على اللغات، حيث انفصلت بنغلاديش عن باكستان بدعم هندي بعد حرب دامية لاستعادة مكانة اللغة البنغالية. كما كان تصنيف اللغة السنهالية كلغة رسمية (لغة أكبر مجموعة عرقية في سريلانكا)، دون أي اعتراف رسمي باللغة التاميلية، ما كان أحد أبرز أسباب الحرب الأهلية في سريلانكا.
في المشهد الهندي، تتهم الولايات الجنوبية الحكومات المركزية المتعاقبة، سواء بقيادة حزب المؤتمر الوطني الهندي أو حزب بهاراتيا جاناتا، بفرض اللغة الهندية على عموم البلاد، حيث يُتهم المركز بمحاولة تصفية اللغات المحلية في الولايات الجنوبية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2المقامات الدينية الدرزية تستعيد نفوذها في السويداء مع تصاعد الاهتمام بالروحانياتlist 2 of 2حسن جلبي.. تألق فن الخط العربي في العصر الحديثend of listفي هذا السياق، تواجه اللغة الأردية، المنتشرة بين المسلمين في الهند، هجمات موجهة من القوميين الهندوسيين، وكان رئيس وزراء ولاية أوتار براديش، الراهب الهندوسي يوغي أديتياناث، آخر من هاجم اللغة الأردية، متهمَها بأنها تُستخدم لتعليم الطلاب المسلمين، ليصبحوا رجال دين متعصبين بدلاً من أن يكونوا علماء في المجالات العلمية.
ويذكر، أن اللغة الأردية تُستخدم إلى جانب اللغة العربية في شبه القارة الهندية لتدريس الإسلام في المدارس الدينية.
وجاءت تصريحات أديتياناث عقب طلب المعارضة في الجمعية التشريعية للولاية توفير إجراءات الجمعية باللغة الأردية، بعد أن أعلن رئيس الجمعية، أن الإجراءات ستتوفر باللغات المحلية، إضافة إلى الهندية والإنجليزية، دون أن تشمل اللغة الأردية ضمن اللغات المحلية.
يُذكر أن ولاية أوتار براديش تعترف بالأردية لغةً رسمية إلى جانب الهندية، ولكن حسب الدكتور محمد نعيم الرحمن، نائب رئيس أكاديمية اللغة الأردية التابعة لحكومة ولاية تاميل نادو، فإن سبب كراهية القوميين الهندوسيين اللغة الأردية يعود إلى اعتبارها لغة خاصة بالمسلمين.
إعلانقال الخبير في اللغة الأردية نعيم الرحمن، للجزيرة نت، "كانت اللغة الأردية لغة أم، وثقافة لكثير من الهندوس، والسيخ، والسندي، والجينيين عبر القرون، وقد ساهموا في إثرائها، كما تُرجمت كتبهم المقدسة إليها".
من جهته، أدان أسد الدين عويسي، البرلماني وزعيم حزب مجلس اتحاد المسلمين لعموم الهند، تصريحاتِ أديتياناث، معتبراً أن اللغة الأردية هي "لغة استقلال الهند".
كما أدان طلاب جامعة مولانا آزاد الوطنية للغة الأردية تصريحات أديتياناث، قائلين، "الأردية ليست مجرد جزء لا يتجزأ من الإرث اللغوي والثقافي للهند، بل لها مكانة خاصة عند المسلمين الهنود، وتصريحات أديتياناث ليست مجرد هجوم على لغة، بل تستهدف الإرث الفكري والسياسي والثقافي العميق للمسلمين المرتبط باللغة الأردية".
شهد القرن الثاني عشر ولادة اللغة الأردية، التي كان أحد أسمائها آنذاك اللغة الهندوستانية، عندما حاولت جيوش السلاطين المسلمين التواصل باستخدام الكلمات الفارسية والعربية مع السكان المحليين في شبه القارة الهندية.
وبحسب نعيم الرحمن، فإن هذه الولادة الجديدة جعلت الأردية تتأثر بأسلوب التحدث باللغة السنسكريتية، التي كانت مهيمنة آنذاك، إلى جانب استعارتها حروفاً وكلمات من الفارسية والعربية، اللتين كانتا من أهم اللغات في العالم الإسلامي.
وعن المكتبة الأردية، قال نعيم الرحمن للجزيرة نت، إنها تضم كتباً عالمية مشهورة، مثل بانجاتانترا، المعروف في العالم العربي باسم كليلة ودمنة، والكتب الهندوسية المقدسة، مثل ماهابهارتا، إلى جانب الإنجيل والكتب الإسلامية.
وأضاف، أن آلاف الشعراء أثروا اللغة الأردية، منهم أمير خسرو، ذو الأصل التركي، الذي كان متصوفاً من الطريقة الجشتية (نسبة إلى قرية جشت من أعمال هراة في أفغانستان) في القرن الثالث عشر، وحتى العلامة محمد إقبال، ولا يزال هذا التوجه مستمراً حتى اليوم، حيث أُثريت الأردية بنتاج شعري وأدبي غني.
في السياق، أشار الخبير الأردي إلى أن كثيرًا من غير المسلمين ساهموا في إثراء اللغة الأردية في الهند، مثل منشي بريم تشاند، الذي كان رائدًا في الأدب الخيالي، وبريج نارايان جكسبت، ورام براساد بسمل، اللذين نظما أشعارًا في الوطنية، ولا يزال هذا الاتجاه مستمرًا، حيث يواصل الشعراء والكتاب غير المسلمين المساهمة في الأدب الأردي حتى اليوم.
إعلانمع مرور الزمن، تصاعدت التوترات السياسية بين الهندوس والمسلمين في ظل الاستعمار البريطاني، ووفقاً لما أوضحه نعيم الرحمن، فإنه في وسط هذه التوترات بدأ الهندوس باستخدام الحروف الديفاناغارية لكتابة اللغة الأردية واستبدلوا الكلمات ذات الجذور الفارسية والعربية بأخرى سنسكريتية، لتنشأ بذلك اللغة الهندية.
"مع تصاعد التوترات السياسية بين الهندوس والمسلمين في ظل الاستعمار البريطاني بدأ الهندوس باستخدام الحروف الديفاناغارية لكتابة اللغة الأردية واستبدلوا الكلمات ذات الجذور الفارسية والعربية بأخرى سنسكريتية، لتنشأ بذلك اللغة الهندية"
بعد استقلال الهند وباكستان، تم الاعتراف بالأردية لغةً رسمية إلى جانب الإنجليزية في باكستان، بينما اعترفت الهند بالهندية لغةً رسمية إلى جانب الإنجليزية، كما أُدرجت الأردية ضمن اللغات المعترف بها رسمياً في البلاد إلى جانب العديد من اللغات المحلية.
وفي سياق آخر، أشار نعيم الرحمن إلى أنه رغم اعتبار أفلام بوليوود أفلاماً ناطقة باللغة الهندية، فإن الحوارات والأغاني تُكتب في الواقع باللغة الأردية حتى اليوم، باستخدام كلمات ذات جذور فارسية وعربية.
إلى جانب تصريحات رئيس وزراء ولاية أوتار براديش، أثار قرار حكومة ولاية راجستان، بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا، تبديل تدريس اللغة الأردية بتدريس اللغة السنسكريتية، حزن الخبير الأردي نعيم الرحمن، الذي عبّر عن حزنه لما وصفه بالتعامل مع الأردية كلغة من الدرجة الثانية.
وأشار إلى أن كل ولاية في الهند تتمتع بلغة محلية سائدة، تعمل حكومات الولايات على ترويجها وإثرائها، لكن الأردية لا تحظى بهذه الفرصة كونها لغةً أقلية في جميع الولايات الهندية، ولذلك، طالب بتعيين مزيد من مدرسي اللغة الأردية في المدارس للحفاظ عليها.
وختم الخبير الأردي: "لطالما كانت اللغة الأردية عاملاً لتحقيق الوحدة الوطنية في الماضي، ومن الممكن أن تساهم، مرة أخرى، في تحقيق هذه الوحدة بين جميع الأديان".