ما تزال أصداء الحروب وخاصة الحرب العالمية الثانية تظهر جلية في العديد من الأفلام السينمائية ولا يمر عام إلا ويتم إنتاج العديد من الأفلام التي تحاكي تلك الحرب أو تنقل قصصا واقعية حدثت في أثنائها.

هذا الصراع الوجودي بقي حاضرا في ضمير الإنسانية ولهذا انعكس على الشاشات بشكل مؤثر، ولهذا يستمر الولع بمثل هذه الأفلام ومنها هذا الفيلم للمخرج تيري لوان، الذي يعرض في صالات السينما الآن وهو يقدم مقاربة إنسانية مؤثرة غير مباشرة لقصة الحرب مستندا إلى إنزال النورماندي الشهير.

هذه المقاربة المختلفة تتعلق بواحد من المحاربين من أيرلندا حيث يعيش آرتي كروفورد – يقوم بالدور الممثل بيرس بروسنان وها نحن نشاهده وهو نزيل في إحدى دور رعاية المسنين، فالرجل يقف وهو في شيخوخته بحاجة إلى أن يتذكر الأحداث التي لا يمكن نسيانها والتي أثرت فيه وتغلغلت في بناء شخصيته وهما في الواقع حدثان متزامنان وجدانيان، وهما انخراطه جنديا ضمن الجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية وعلاقته بماجي - الممثلة ستيلا ماكوسكر- التي صارت زوجته فيما بعد.

الحب والحرب يتزامنان ويحفران عميقا في شخصية ارتي ولكن ها هو يودع زوجته في دار رعاية المسنين وقد لفظت أنفاسها وبهذا لم تبق له سوى ذكريات الحرب ووجوه أصدقائه التي تحوم من حوله من خلال سلسلة من مشاهد الفلاش باك فتارة يلتقط أحدهم صورة له ولصديقته وهما في ريعان الشباب وتارة تتوالى صرخات الجنود المحاربين.

هذا البناء السردي هو الذي تم التأسيس عليه في تقديم قصة إنسانية – عاطفية مؤثرة فيها العديد من المحطات التي تعيد إلى الذاكرة مأساة ضحايا الحروب واكتشاف ارتي أنه ليس إلا المحارب الأخير بين أولئك المحاربين الذين قرر أن يتفقدهم لمناسبة مرور 80 عاما على إنزال النورماندي.

إنه الهجوم الذي نفذته القوات الأمريكية والبريطانية والكندية من خلال ما عرف بعلمية "أوفرلورد" بشمال غرب أوروبا، والتي شارك فيها مئات الآلاف من الجنود المتدفقين على سواحل النورماندي قادمين من 15 دولة وها نحن من خلال شخصية ارتي نسترجع قصة أكبر عملية إنزال في التاريخ العسكري؛ شنها الحلفاء في 6 يونيو 1944 - انطلاقا من بريطانيا - على سواحل منطقة النورماندي شمال غربي فرنسا، لفتح جبهة جديدة ضد ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. وشارك فيها أكثر من مليوني جندي و300 ألف مركبة عسكرية.

هذه الحقيقة التاريخية تدفع ارتي لمغادرة دار المسنين في أيرلندا خلسة في سيارة اللوندري ويتمكن من الوصول إلى الحدود مع فرنسا لتساعده أم وأطفالها في الدخول إلى الأراضي الفرنسية بسبب نفاد جواز سفره وهكذا تمضي رحلته فيما يشبه سينما الطريق متنقلا بين الكثيرين الذين يروي لهم سبب رحلته وهو يضع نياشين الحرب على صدره.

تتلاشى بالتدريج تلك الصورة المسترجعة للحرب العالمية الثانية ونبقى في إطار قصة إنسانية تتعلق بهذا المسن الفخور بنياشينه وقد تجاوز التسعين من عمره وهو يفر من نفسه وذكرياته وكأنه يتوق إلى صباه وشبابه في سلسلة من الانتقالات الدرامية والتغيرات المكانية.

هذه الانتقالات التدريجية في المكان فيما ارتي يسابق الزمن ليصل إلى حيث تقام احتفالية النورماندي، في مشاهد تم بناؤها إخراجيا في نطاق سردي ليس فيه كثير من الحركة أو الانتقالات السريعة وإنما بكثير من الشجن الواقعي والسرد المبني على الحدث الآني ومن هنا يمكننا فهم العلاقة السائدة بين ارتي والمكان الذي شهد الحرب بل إن من المفارقات أن يلتقي ارتي القادم من أيرلندا والذي قاتل في جيش الحلفاء، مع أحد النازيين القدامى وهو مولر – يؤدي الدور الممثل يورغن بروشناو- الذي يتفاخر بماضيه غير مدرك أن الشخص الذي يجلس أمامه ربما قاتله يوما عندما تصدت جيوش الحلفاء للألمان النازيين.

ولنمض في هذه الدراما الفيلمية التي يمكن أن نسمي علامتها الفارقة هي التنقل بين أجيال مختلفة إذ إن ارتي الكهل يرتكز على شباب يصادفونه عبر الطريق فيتطوعون لمساعدته وتقديم الإرشاد له عن الطريق التي عليه أن يسلكها لغرض الوصول إلى النورماندي وهو في الواقع ينقل فيلميا ماذا يعني الفوز في الحرب بالنسبة لجيل جديد لم يعشها وإنما سمع عنها سماعا ولهذا يكون تعاطف الفرنسية جوليت – الممثلة كليمينس بويسي، هو من أجل إعلاء قيمة الكهولة ومكانة الذين ضحوا في الحرب ثم لتتطور الأحداث إلى نوع من المشاركة الإنسانية والوجدانية بين ارتي وتلك السيدة الفرنسية وأولادها، ويلاحظ هنا التأني الكامل في الانتقالات في أجواء شديدة التجانس والتعاطف الإنساني.

وأما إذا انتقلنا إلى الكيفية التي من خلالها تمت معالجة ذلك التواتر الزمني مع نوع من التشويق وتكريس الاهتمام الذي تشتغل عليه الصحافة في اقتفاء أثر ارتي فإن ما يحسب للفيلم أنه ينتمي إلى نوع الأفلام ذات الإيقاع الإنساني الذي يجذر الصلة بين الشخصيات حتى تشعر بأن رحلة ذلك الكهل والجندي السابق هي إلى الناس والأماكن الذين لم يعرفهم ولم يلتقهم قط ولكنهم كانوا بانتظاره ويمكن أن يساعدوه ويقفوا معه.

من جهة أخرى عالج الفيلم تلك الصلة التي قوامها الحنين والوفاء التي تربط ارتي وزوجته وهي في أرذل العمر فهو لا يتوقف عن رعايتها والاهتمام بها لاسيما وأنهما منفيان في دار للرعاية الاجتماعية على الرغم من أن لديهما أبناء وأحفادا إلا أن الأبناء والأحفاد لن يتذكروا الوالدين إلا صدفة عندما تظهر صورة ارتي على الشاشة وهي مفارقة أخرى في تلك السيرة المؤثرة.

وفي هذا الصدد يقول الناقد الان ميبان في موقع الان بيلفاست السينمائي، "عندما شاهدت العرض الاحتفالي لهذا الفيلم، شرد ذهني بسرعة إلى التفكير في الحرب والصراع في غزة تذكرت كل أولئك الذين ماتوا في الحروب. أنا لست أيديولوجيًا بما يكفي لكنني لن أنجذب أبدًا إلى تصنيف ما يسمى بالأطراف على أنها كلها جيدة أو كلها سيئة، أو مستقيمة أخلاقيًا أو خاطئة تمامًا. هناك على الأقل بعض الأفعال المؤسفة على جميع الجوانب. هناك أشخاص طيبون محاصرون في ظروف لا يمكنهم أو لن يهربوا منها. يعاني الأبرياء في كل مكان وهذا ما يجلبه لنا هذا الفيلم من شجن يتعلق بالحروب والصراعات المشتعلة في عالمنا ".

من هنا يمكن النظر إلى المقاربة الدرامية التي أراد المخرج وكاتب السيناريو إدخالها، التي ربما لا تروق لمن ينتظر إيقاعا سريعا وأحداثا حربية كارثية ومشاهد من إنزال النورماندي تستخدم فيها حشود ضخمة، بل إن المخرج اختصر كل ذلك في تلك الاستذكارات والمشاهد السريعة التي أراد بها ربط الماضي بالحاضر وخلال ذلك قدم الممثل بروسنان أداءا هادئا مقتصدا في كلماته ولكنه عميق الدلالة في إيصال الفكرة فهو في تلك المرحلة المتقدمة من العمر وقد سبقه زملاؤه المحاربون الراحلون لم يبق أمامه إلا الاحتفال الصامت بتاريخ النورماندي ولكنه احتفال مر ولم يحضره لأنه كان شبه فاقد للوعي وراقد في المستشفى ولتبقى الحرب مجرد صدى في عالم يتعثر بخطاياه وأخطائه الجسام.

...........

إخراج / تيري لوان

سيناريو/ كيفن فيتزباتريك

تمثيل/ بيرس بروسنان، كليمينس بويسي، يورغن بروشناو

مدير التصوير/ مارك مكاولي

مونتاج/ جون والترز

التقييمات/ آي ام دي بي 7 من 10، روتين توماتو 93%، ميتاكريتيك 93%

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العالمیة الثانیة من خلال

إقرأ أيضاً:

عمل كمستشار عسكري في الحرب الأهلية في سوريا.. الكشف عن هوية القيادي الإيراني الذي قُتل مع نصرالله

(CNN) -- ذكرت وسائل إعلام إيرانية رسمية أن القائد البارز في قوات الحرس الثوري الإسلامي في إيران، عباس نيلفروشان، كان من بين القتلى في الغارة الإسرائيلية التي استهدفت الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الجمعة.

وقالت وزارة الخزانة الأمريكية إن نيلفروشان كان نائب قائد عمليات الحرس الثوري الإيراني وكان مسؤولا عن قيادة عمليات الحرس الثوري الإيراني، وهي إحدى المنظمات الأمنية المسؤولة مباشرة عن قمع الاحتجاجات في إيران.

مقالات مشابهة

  • عادل عصام الدين: يايسله يعيش أيامه الأخيرة في الأهلي.. فيديو
  • عمل كمستشار عسكري في الحرب الأهلية في سوريا.. الكشف عن هوية القيادي الإيراني الذي قُتل مع نصرالله
  • تعليق على المنتج الأخير من إعلام (ام فريحانة) و(ام كضيضيبة)
  • ما الذي تمرد عليه الدعم السريع؟
  • تعليق على المنتج الأخير من إعلام «ام فريحانة» و «ام كضيضيبة»
  • من بغداد إلى بيروت.. رحلة الدواء والأمل وسط نيران الحرب
  • السودان يضع قدميه على طريق الخلاص
  • عاجل | حزب الله: ننعى الشهيد القائد محمد حسين سرور الذي ارتقى شهيدا على طريق القدس
  • إنفوغراف… لبنان يشهد ثاني أكثر أيامه دموية إثر الحرب الإسرائيلية