اللبنانيون لشاشةِ المجد الضائع.. «لا تقولي وداعاً»
تاريخ النشر: 12th, August 2023 GMT
«أربع مجانين وبس» مسلسلٌ إشتهر به «تلفزيون لبنان» في بداية الحرب الأهلية. عن أربعة مجانين يهربون من مستشفى مخصَّص لمعالجة الحالات النفسية، على غرار مستشفى «العصفورية» الذي كان قائماً في منطقة الحازمية، حيث كان مقر تلفزيون لبنان.
«أربع مجانين وبس» للكاتب أنطوان غندور وأغنيته التي أَحَبَّها لبنانيون كثر، تكاد تكون عنواناً لخبرِ توقف البث في «تلفزيون لبنان» ثم العودة عنه في اليوم عيْنه في بلادٍ عَصَفَتْ بها الأزمات المجنونة من كل حدب وصوب.
«المركزي» اللبناني يتخلّى عن أسوار «القلعة الحصينة» منذ 17 دقيقة «تلفزيون لبنان» خارج الخدمة... مَن أطفأ شاشته؟ منذ يوم
الأربعة مجانين هم نموذجٌ لِما صار عليه لبنان اليوم في ظل إنهيار مؤسساته الرسمية وصولاً إلى الموت السريري لتلفزيونه الرسمي، وسط تَضارُب الأخبار يوم أمس حول إقفال وزير الإعلام للتلفزيون، ونفيه الأمر لاحقاً متحدثاً عن «تجميدٍ» حصل للبث، وذلك بعد معاناةٍ طويلة وتعثُّر الوضع المالي لشاشة «أيام العزّ» بسبب عقودٍ من الإهمال والفساد وغض نظر الحكومات المتعاقبة عن هذه «الثروة» الوطنية.
فتلفزيون لبنان ليس تلفزيوناً رسمياً بالمعنى الحصري للكلمة كناطقٍ باسم السلطة. هو ذاكرة اللبنانيين الذين عبّروا أمس عندما أطفأت الشاشة التاريخية أنوارَها عن حزنهم. هو جيلُ ما قبل الحرب وخلالها الذي عرف مجد التلفزيون الشعبي وليس الرسمي، والذي كان وحيداً في مجاله قبل أن تصبح محطات التلفزيون وبترخيص رسمي موزَّعة حصصاً بين أحزاب وميليشيات شاركتْ في نهب التلفزيون الأمّ وسرقة أرشيفه والإفادة منه.
التلفزيون الذي أَطلق من بيروت (العام 1958) عالماً سحرياً وجَذَبَ إليه كبار الأسماء من الفنانين اللبنانيين والعرب، كان باكورةَ الإعلام العربي التلفزيوني في قوْلبة الأفكار والتغطيات الإخبارية والبرامج الحوارية والمسلسلات التلفزيونية التي كانت تصل شهرتها إلى العالم العربي فيُعرف أبطالها وحكاياتهم.
إستعانَ تلفزيون لبنان في أيام مجده بكبار الأسماء من صحافيين عَرفوا كيف يطوّعون فكرة البرنامج الحواري ليكون صناعةً ثقافيةً راقيةً في الوقت نفسه، من ليلى رستم إلى نجيب حنكش، وكيف يحوّلون البرنامج الترفيهي إلى حالة قائمة في ذاتها مع رياض شرارة، ومن ثم «إستديو الفن» الذي أطلق نخبةَ الفنانين اللبنانيين كماجدة الرومي ومنى مرعشلي ووليد توفيق وعبد الكريم الشعار، وتحوّل لاحقاً عبر الشاشات الخاصة معبر الفنانين بالعشرات إلى الشهرة. لكن بقيَ لـ «إستديو الفن» مع الراحلة صونيا بيروتي ومادلين طبر ألقه الدائم على مرّ السنين.
أدخل التلفزيون أسماء لامعة في عالم الأخبار التي تحوّلت إلى منصة موزونة في نقْل الخبر وعبر برامج حوارية جدية، من عادل مالك إلى جان خوري، وسعاد قاروط العشي وجاندارك فياض وعرفات حجازي وجاك واكيم، وصولاً إلى أجيال لاحقة، صارتْ لامعةً في التلفزيونات العربية واللبنانية. في حين أطلق خط مذيعات الربط اللواتي تحوّلن نموذجاً للأناقة والموضة والثقافة كـ كابي لطيف التي إنتقلت لاحقاً إلى إذاعة مونتي كارلو بعدما عرفتْ شهرةً واسعة.
حقق تلفزيون لبنان شهرتَه في فرض نموذج من المسلسلات باللغة العربية الفصحى قبل أن يُدْخِل اللغة المحكية إلى برامجه، فكانت مسلسلات «عازف الليل» و«النهر» و«حول غرفتي» و«البخلاء» وقبْلها «المحكمة» ومسلسلاتٍ منقولة عن مسرحيات عالمية، وبرامج فكاهية قدّم فيها نخبة من الفنانين الذين إشتهروا في عالم الكوميديا البسيطة والسوداء. شوشو وفرقة أبو سليم التي رحل أخيراً أحد أعضائها عبدالله الحمصي الذي عُرف بأحد أشهر المسلسلات «دويك يا دويك» مع عبارة «صبحك بونجور ستنا بيروت».
طوّع التلفزيون المسرحيات العالمية ونَقَلَها إلى الشاشة، فكان «عشرة عبيد زغار» للطيفة وأنطوان ملتقى، ومن ثم نَقَلَ إلى التلفزيون مسرحيات لبنانية معروفة، تم تصويرها في إستديوهاته فبقيتْ أرشيفاً هاماً مثل مسرحيات «لولو» و«ميس الريم» لفيروز و«الفرمان» وإسكتشات ولوحات فنية لصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين.
إنتقل رجال المسرح، كأنطوان كرباج، ليكون أحد أعمدة تلفزيون لبنان ومسلسلاته، وأشهرها «بربر آغا» لينضمّ إلى جيل الممثلين التلفزيونيين، من أبو ملحم وأم ملحم، إلى ايلي صنيفر الذي برع في مسلسل «أحدب نوتردام» وعلياء نمري ولمياء فغالي وفيليب عقيقي وغيرهم من الأسماء التي توهّجتْ وأعطت للفن اللبناني رونَقَه. ومن ثم الجيل الثاني كهند ابي اللمع وعبد المجيد مجذوب ونهى الخطيب سعادة، وصولاً إلى تكريسه أسماء فنية طوّعها تمثيلاً في مسلسلات غنائية، على غرار ما فعل مع الفنانة سميرة توفيق في مسلسل «فارس ونجود» الذي عكس حياة القبائل في الصحراء، أو المسلسل الأشهر للأخوين رحباني من «يوم ليوم» بجزئيه الأول والثاني لهدى وأنطوان كرباج ووحيد جلال وإيلي الشويري. وأطلق نماذج لا تُحصى من الشخصيات على مدى سنوات، مثل مسلسل «الدنيا هيك» لمحمد شامل بشخصياته الطريفة، من فريال كريم إلى ماجد أفيوني وليلى كرم وغيرهم من الذين أعطوا الضحكة للمُشاهِدين.
وفي موازاة ذلك كان للتلفزيون عنوان ثابت في روزنامة المسلسلات والأفلام الأميركية التي كانت له حصة ثابتة فيها، وهو كان سبّاقاً في نَقْلِ البثّ الحيّ، من حفلات ملكات الجمال ومهرجانات وسهرات تلفزيونية ولا سيما في مواسم الأعياد. وأطلق موجةَ تصوير الأغنيات لكبار الفنانيين مستبقاً عصر الفيديو كليب، وتحوّلت هذه الأغنيات ثروة فنية، مثلها مثل مئات المسلسلات والبرامج التي فُقد جزء منها ووُجد جزء في تلفزيونات خاصة، وساهمتْ الحرب والإهمال في تدمير بعضها.
وقبل أيام «اللوتو» والجوائز. تحوّل برنامج اليانصيب اللبناني مع دواليبه الستة والصبايا اللواتي يبرمن الدواليب، موعداً مع الحظ يوم كانت الليرة في عزّها. وتحولت أغنية «يا نصيب شد وصيب دوري دوري يا دواليب» نشيداً للمنتظرين ثروةً تهبط عليهم.
عَرَفَ التلفزيون محطات رئيسية ومهمة تقنياً، هو الذي كان موزَّعاً بين قناتيْ 5 و7 في الحازمية وتلة الخياط والقناة 9 الناطقة باللغة الفرنسية. وإنعكست الحرب على التلفزيون فانقسم بين قناتيْ 5 و7 بحسب الإنقسام الجغرافي للقناتيْن، إلى ان توحّد مجدداً وصار ناطقاً بإسم السلطة اللبنانية، ولا سيما بعدما إشترت الدولة الحصة التي تملّكها الرئيس الرئيس رفيق الحريري من القطاع الخاص.
على مدى سنوات طويلة كان تلفزيون لبنان الواجهة الثقافية والإعلامية الراقية. ومع الحرب أصابته شظايا الإنقسام والتفرقة، لكن حنين الممثلين والفنانين الذين إنطلقوا منه، ظلّ قوياً فكانت محاولةُ إستعادة مجده، ليصاب الجميع مع كل محاولةٍ بخيبةِ أملٍ كبيرة. فظل يعاني في الأعوام الأخيرة ولم يعد هناك مَن يراعي وضعه، وخصوصاً مع تَصاعُد موجة التلفزيونات الخاصة والترهّل الذي أصابه.
إلا ان الحنين ظل ينده الجميع إليه، فكان كتاب الإعلامي زافين قيومجان الذي أطلّ للمرة الأولى عبر تلفزيون لبنان ومن ثم إنتقل إلى تلفزيون «المستقبل»، عن مئة لحظة في التلفزيون، وكان عنوانه «أسعد الله مساءكم» وهي العبارة الأشهر في نشرات أخبار تلفزيون لبنان. أما اللحظة الأجمل التي عادت إلى اللبنانيين مع ورود خبر إقفال التلفزيون، فهو كليب إعلاني بعنوان «أباً عن جَد» يروي في لحظات ساحرة مجد تلفزيون لبنان مع أهم الوجوه التي مرت فيه من فنانيين وممثلين ومؤدّين. إنها لحظات ساحرة يبقى وهجُها في أن اللبنانيين باتوا يعيشون على ذكريات المجد الضائع واللحظات السعيدة والأسود والأبيض، ويستعيدون عبر بثّ مسلسلاتٍ قديمة، الفرح الطالع من شاشة تعاند السقوط وتكاد تقول... وداعاً.
المصدر: الراي
كلمات دلالية: تلفزیون لبنان
إقرأ أيضاً:
من بحري إلى بيالي: قصة الموسيقار اللاجئ الذي يبحث عن الأمل في المنفى
في مدينة بيالي الأوغندية، بعيدًا عن ضجيج الحرب وضياع الأحلام في السودان، يروي آلاف اللاجئين السودانيين قصصهم التي تتأرجح بين المعاناة والنجاح في المنافي القسرية. من بين هؤلاء، تبرز حكاية الموسيقار سعود، الذي كان يسكن منطقة الخوجلاب بمدينة بحري قبل أن تدفعه الحرب إلى مغادرة وطنه، تاركًا خلفه ذكريات عمر كامل، ليبدأ رحلة جديدة في معسكرات اللجوء.
كمبالا: التغيير
الحرب التي تجاوزت عامًا ونصف أجبرت آلاف الأسر السودانية على النزوح القسري، حيث بحثوا عن الأمان داخل البلاد وخارجها. يعيش معظمهم في ظروف إنسانية صعبة، تعكس حجم المعاناة التي فرضها النزاع على حياتهم اليومية.
سعود، المتخصص في العزف على البيانو والجيتار والكمنجة، يصف مسيرته الفنية بأنها رحلة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، بدأت منذ طفولته في الحفلات المدرسية، واستمرت بالدراسة في معهد الموسيقى والمسرح، الذي أصبح لاحقًا كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان.
لحظة قاسيةيقول سعود: “الموسيقى كانت جزءًا من حياتي حتى قبل الحرب، لكن النزوح أضاف لها أبعادًا جديدة. رغم أصوات الرصاص التي أحاطت بنا، كانت الموسيقى دائمًا بداخلي؛ المعاناة كانت مصدر إلهام، وبدل أن تقيدني، فتحت لي آفاقًا للإبداع”.
عبر سعود مع أسرته الحدود إلى أوغندا، متجهًا إلى معسكر نيومانزي عبر منطقة اليقوا بجنوب السودان. يصف لحظة وصوله بأنها كانت قاسية: “كنا في حالة مزرية، وكانت ذكريات الوطن تطاردني. تركنا خلفنا كل شيء، ووجدنا أنفسنا أمام واقع جديد تمامًا”.
وسط هذه الظروف، كانت الموسيقى طوق النجاة. أطلق سعود مبادرة لدعم اللاجئين نفسيًا عبر الموسيقى، حيث شكّل فرقًا صغيرة من الأطفال والشباب لتقديم جلسات غنائية ودعم نفسي. يروي سعود: “في أول حفل نظمته، رأيت الدموع في عيون الناس، خاصة النساء. قالوا لي إن الأغاني أعادتهم إلى السودان، فبكيت معهم”.
تدريب الأطفالرغم التحديات، استمر سعود في تقديم تدريبات موسيقية للأطفال والشباب، على الرغم من انعدام الكهرباء وضيق المساحات في المعسكر. أنتج ست مقطوعات موسيقية خلال إقامته، لكنه لم يتمكن من تدوينها لعدم توفر النوتات الموسيقية.
يعاني اللاجئون السودانيون من أوضاع نفسية صعبة، حيث تلاحقهم ذكريات الفقد والنزوح القسري. ورغم ذلك، يواصل الكثيرون، مثل سعود، صناعة الأمل وسط الألم.
يقول سعود: “الموسيقى ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل هي رسالة أمل وسلام. سأستمر في استخدامها لتوحيد السودانيين وإعادة بناء الوطن”. في معسكرات اللجوء، تبقى أصوات الفنانين السودانيين شاهدًا على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى إبداع، وعلى قوة الموسيقى في خلق حياة جديدة حتى وسط أقسى الظروف.
الوسومآثار الحرب في السودان اللاجئين السودانيين في يوغندا معسكر بيالي للأجئين يوغندا