خيارات حزب الله عقب اغتيال نصر الله
تاريخ النشر: 29th, September 2024 GMT
جاءت عملية اغتيال الأمين العام لجماعة حزب الله اللبنانية حسن نصر الله؛ بعد أن تيقنت القيادة الإسرائيلية باستحالة التوصل إلى اتفاق مع الحزب بوقف حرب الإسناد وفصل وحدة الساحات والتخلي عن المقاومة في غزة وتأمين عودة المهجرين إلى مستوطنات الشمال. ويبدو أن القيادة الإسرائيلية قد اكتسبت الجرأة باغتيال نصر الله عقب سلسلة من العمليات الاستخباراتية والعسكرية الدقيقة والناجحة ضد حزب الله اللبناني، وبعد إصرار الحزب على الالتزام بوتيرة منخفضة من التصعيد ودون تغيير جذري على مبدأ الإسناد وقواعد الاشتباك.
ولا جدال في أن إيران مارست ضغوطات على استراتيجية حزب الله خشية الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة، فالسلوك الإيراني الذي لم يمل من تكرار عدم رغبته بخوض حرب ساخنة أدى في نهاية المطاف إلى تشجع إسرائيل على اتخاذ خطوات تصعيدية أكثر وحشية تجاه حزب الله ومحور المقاومة.
منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" التي أطاحت بركائز الأمن القومي الإسرائيلي وخلقت لدى المستعمرة الصهيونية حالة من الشك الوجودي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنه سوف يقوم بتغيير الشرق الأوسط، والذي تغيّر بالفعل على غير ما يرغب نتنياهو بعد صمود المقاومة الفلسطينية في غزة، ودون أن تتمكن حرب الإبادة من القضاء على المقاومة واستعادة الرهائن ودون أن تتمكن إسرائيل من وقف جبهات الإسناد. وعقب النشوة التي أصابت نتنياهو بعد اغتيال نصر الله أعاد ذات العبارات البلاغية الجوفاء بالقول: "إن القضاء على الأمين العام لجماعة حزب الله اللبنانية حسن نصر الله يمثل نقطة تحول تاريخية يمكن أن تغير ميزان القوى في الشرق الأوسط"، لكنه حذر في الوقت ذاته من "أيام صعبة" مقبلة.
ي حالة حزب الله، فإن اغتيال قياداته التاريخية يؤجج الرغبة في الصمود والانتقام لدى القيادات الجديدة ويدفعها إلى نهج أكثر راديكالية، أما الحاضنة الاجتماعية فتصبح أكثر تعاطفا ورغبة بالتضحية والالتحاق بالحزب والتجنيد بعد أن تحولت قيادات المقاومة إلى رموز وأيقونات
إن الإيام الصعبة التي تنتظر المستعمرة الصهيونية آتية دون ريب، فحزب الله الذي تعرض خلال الأسابيع الماضية لصدمة قاسية واختبار صعب بخسارة مجموعة كبيرة من قيادات الصف الأول، سوف يعمد إلى اختيار قادة جدد وإعادة هيكلة قد تتطلب بعض الوقت، ومن المرجح أن يتولى هاشم صفي الدين منصب الأمين العام، لكن عمليات القتل المستهدف لقيادات بارزة لن تقوض الهيكلية التنظيمية الصلبة والقدرات العملياتية الميدانية، كما أن عمليات القصف الوحشية لا تضعضع حواضن المقاومة الصلبة.
وفي حالة حزب الله، فإن اغتيال قياداته التاريخية يؤجج الرغبة في الصمود والانتقام لدى القيادات الجديدة ويدفعها إلى نهج أكثر راديكالية، أما الحاضنة الاجتماعية فتصبح أكثر تعاطفا ورغبة بالتضحية والالتحاق بالحزب والتجنيد بعد أن تحولت قيادات المقاومة إلى رموز وأيقونات. وإذا كان حسن نصر الله شخصية أيقونية فقد تحول إلى أسطورة ومثال عقب اغتياله في الضاحية الجنوبية ببيروت في 27 أيلول/ سبتمبر 2024. أما بقية القيادات العسكرية للحزب ممن لم يكونوا معروفين على المستوى الشعبي، فقد أصبحوا لدى القاعدة الشعبية سلسلة كبيرة من الرموز، أمثال القائد العسكري فؤاد شكر الذي اغتيل في 30 تموز/ يوليو الماضي، وقائد عمليات حزب الله إبراهيم عقيل في 20 أيلول/ سبتمبر، وفي نفس الوقت اغتيل القيادي في قوة الرضوان أحمد وهبي، وفي 24 أيلول/ سبتمبر قتل قائد وحدة الصواريخ والقذائف في الحزب إبراهيم قبيسي، ونائبه عباس شرف الدين، وقائد كبير من فرقة الصواريخ في حزب الله، هو حسين عز الدين. وقُتل قبل ذلك القائد الميداني الكبير في الحزب طالب عبد الله في 12 / حزيران/ يونيو.
وجاءت سلسلة الاغتيالات بعد تفجيرات دامية لأجهزة اتصال كان يستعملها عناصر حزب الله، في 17 و18 أيلول/ سبتمبر، في عملية خلفت نحو 39 قتيلا وأكثر من 3000 مصاب.
إن التوترات بين حزب الله وإسرائيل ليست جديدة فهي تتصاعد منذ وقت طويل، وقد تعهد باستنزاف إسرائيل كجبهة إسناد تضامنا مع غزة، وتأكيدا لوحدة ساحات المقاومة. ومنذ عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر توعدت إسرائيل حزب الله الذي حافظ على وتيرة منخفضة من الإسناد من خلال إطلاق الصواريخ والطائرات بدون طيار عبر الحدود بشكل شبه يومي، وقد تسببت الهجمات المتبادلة المحسوبة بنزوح ما يقدر بنحو 80 ألف مستوطن إسرائيلي من منازلهم. وفشلت الجهود الدبلوماسية الأمريكية والأوروبية بوقف القتال من خلال الضغط ومطالبة حزب الله بوقف قصفه وإعادة نشر قواته بعيدا عن الحدود بدعوى تطبيق قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701، الذي أنهى الحرب بين إسرائيل وحزب الله في عام 2006، والذي يحظر رسميا على حزب الله العمل في المناطق القريبة من الحدود، وهو ما جعل مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي يعلن عن نواياه للتصعيد في العمليات الاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية ضد حزب الله.
إن الأهداف الإسرائيلية العميقة من التصعيد مع حزب الله تنشد توسيع نطاق الحرب وإجبار إيران والحزب على رد واسع يجبر الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين على الانخراط في حرب إقليمية واسعة. وعلى الرغم من المخاطر التي قد تترتب على رد حزب الله الانتقامي، فإن حكومة نتنياهو تبدو عازمة على مواصلة تصعيد هجماتها على الحزب وإجباره على إعادة الانتشار والانسحاب إلى خلف الليطاني، وإضعاف البنية التحتية العسكرية لحزب الله وتحجيم ترسانته، وتعطيل هيكل قيادته، وإضعاف هيمنة الحزب على الشؤون السياسية والأمنية الداخلية في لبنان. لكن ثمة شبه يقين أن أهداف إسرائيل صعبة التحقق، فالعمليات الجوية التي تتوسع في سياسات الأرض المحروقة وقتل المدن، لن تؤدي إلى نزع قدرات حزب الله، وتفكيك ثقته، وشل قدرته على الردع، بل إن الأهداف الأكثر تواضعا بفصل ساحات المقاومة والابتعاد عن إسناد غزة تبدو عصية المنال، فحزب الله راسخ بقوة وعمق في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية في لبنان، ويشكك معظم الخبراء بقدرة إسرائيل عسكريا على شل حركة الحزب.
رغم الضربات الجوية الإسرائيلية القاسية على لبنان، وشروع إسرائيل بمد حرب الإبادة، إلا أنها مترددة حول خوض حرب برية، فالعملية البرية ضد حزب الله الذي يمتلك قدرات كبيرة على الأرض قد تسفر عن أعداد كبيرة من الضحايا في صفوف القوات الإسرائيلية، كما حصل في حرب 2006، ولكن عقب اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وفي ظل قيادة جديدة، ربما يصعد الحزب من هجماته الكمية والنوعية ويتخلى عن حدود استراتيجيته المحسوبة، بضرب أهداف استراتيجية محددة كما فعل بهجماته على قاعدة رامات دافيد الجوية ورافائيل، وهي شركة تصنيع رئيسية لتكنولوجيا الدفاع، عقب حادثة أجهزة النداء أو الاتصالات اللاسلكية، فتصعيد حزب الله بتوسيع نطاق الاستهداف واستخدام أسلحة جديدة كان في غاية المحدودية والبراغماتية المحسوبة.
جاء دخول حزب الله في اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى" في إطار الإسناد ومواجهة محسوبة بهجمات عير صواريخ ومسيرات منسقة ومتدرجة، ولم تتوقف تهديدات إسرائيل لحزب الله منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وأجرى الجيش الإسرائيلي عدة مناورات عسكرية في شمال فلسطين، وأعلن في 18 حزيران/ يونيو 2024، أنه "تمت المصادقة على الخطط العملياتية لشن هجوم في لبنان".
خيارات حزب الله في مواجهة التصعيد الإسرائيلي لا تنفصل عن رؤية إيران، فالحزب هو الأكثر صلة بإيران من كافة أطراف محور المقاومة، وقد عبرت إيران بوضوح شديد بأنها لا تريد الانخراط في حرب مفتوحة ساخنة، فهي تعتقد أن شبكة محور المقاومة تتضرر لكنها لن تُكسر، وهي لا تخاطر بالدخول في حرب مباشرة مع إسرائيل التي تتمتع بمساندة الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية، والتي ستدخل في الحرب إلى جانب إسرائيل، ولذلك فإن النهج الإيراني هو الصبر الاستراتيجي
ورغم اختلال ميزان القوة بين إسرائيل وحزب الله، فإن الحزب قوة لا يستهان بها وقادرة على إحراج المستعمرة وإلحاق الضرر بأمنها. فقد طور الحزب من قدراته القتالية واكتسب خبرة ميدانية طويلة، ولم تعد إسرائيل قادرة على اجتياح لبنان كما حدث عام 1982، الذي شهد ولادة حزب الله، فقد تحول الحزب على مدى عقود إلى قوة لا يستهان بها وفق منطق الحروب اللا متكافئة. وشكّلت حرب 2006 محطة فاصلة، مهدت لمرحلة الاستنزاف الاستراتيجي التي تقوم على "إنتاج توازن استراتيجي يرتكز على توازن ردع متبادل" حيث بلور حزب الله مفهوما عملياتيا يستند إلى قدرات نارية متطورة ودقيقة، إلى جانب تطوير منظومات القيادة والسيطرة، وتعزيز الكفاءة العملياتية لوحداته القتالية، وبشكل خاص قواته الخاصة المسماة وحدة "الرضوان".
يعد حزب الله أكبر جماعة عسكرية غير حكومية تسليحا في العالم، وتشير أغلب التقديريات إلى إن الحزب يملك ما بين 50 و100 ألف مقاتل، ونحو 150 ألفا من الصواريخ القصيرة والمتوسطة وبعيدة المدى. وثمة شكوك في قدرة نظام الدفاع الجوي "القبة الحديدية" في التصدي لترسانة حزب الله الضخمة من الصواريخ والطائرات بدون طيار، وثمة اعتقاد راسخ بأن الحزب بنى شبكة أنفاق تحت لبنان يقول محللون إسرائيليون إنها أكثر اتساعا من تلك التي تستخدمها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، وعلى عكس غزة المعزولة جغرافيا عن داعميها في طهران، شيّدت إيران طرق إمداد برية وجوية تؤدي إلى لبنان عبر العراق وسوريا، يمكن استخدامها لدعم قوات حزب الله في حال اندلاع حرب شاملة مع إسرائيل.
خلاصة القول، إن خيارات حزب الله في مواجهة التصعيد الإسرائيلي لا تنفصل عن رؤية إيران، فالحزب هو الأكثر صلة بإيران من كافة أطراف محور المقاومة، وقد عبرت إيران بوضوح شديد بأنها لا تريد الانخراط في حرب مفتوحة ساخنة، فهي تعتقد أن شبكة محور المقاومة تتضرر لكنها لن تُكسر، وهي لا تخاطر بالدخول في حرب مباشرة مع إسرائيل التي تتمتع بمساندة الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية، والتي ستدخل في الحرب إلى جانب إسرائيل، ولذلك فإن النهج الإيراني هو الصبر الاستراتيجي الذي يشير إلى أن إيران تفوز فعليا في حرب الاستنزاف.
وقد جاءت هجمات إسرائيل الإرهابية الوحشية على لبنان واغتيال قادة حزب الله وعلى رأسهم حسن نصر الله كمحاولة لدفع الحزب وإيران لشن هجمات واسعة على إسرائيل، وهو ما يبرر حربا إقليمية شاملة تنخرط فيها الولايات المتحدة والدول الغربية إلى جانب إسرائيل. ويبدو أن إيران وحزب الله سوف يعمدان إلى إعادة الهيكلة، ثم إجراء حسابات دقيقة حول مقدار الضرر الذي يمكن تحمله دون خسارة القدرة الحيوية والكرامة الإنسانية.
x.com/hasanabuhanya
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه اغتيال حزب الله الإسرائيلية التصعيد إيران إيران إسرائيل اغتيال حزب الله تصعيد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة محور المقاومة الأمین العام حزب الله فی الحزب على إلى جانب فی حرب
إقرأ أيضاً:
ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟
تتسم المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا الجديدة بنهج عدائي شديد الوضوح، فقد نظرت القيادة الإسرائيلية إلى التحولات الجيوسياسية الناشئة كتهديد للأمن القومي الإسرائيلي، حيث شرعت منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد بشن سلسلة من الاعتداءات والغارات الجوية وقامت بتوغلات برية أسفرت عن ضم واحتلال مزيد من الأراضي السورية. وقد أعلنت إسرائيل دون لبس أو مواربة عن عدائها للقيادة السورية الجديدة، وكشفت عن رغبتها وعزمها على إبقاء سوريا دولة هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية. وعبّرت إسرائيل بجلاء عن قلقها وخوفها من تنامي النفوذ التركي المتصاعد، وأكدت على خوفها وخشيتها من عودة وإحياء الإسلام السياسي السني الذي بات يسيطر على دمشق، وأثره وتداعياته على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.
شكّل سقوط نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مفاجأة غير سارة للكيان الإسرائيلي، لكنه كان خبرا سعيدا لتركيا، ففي الوقت الذي تريد تركيا أن تكون سوريا الجديدة دولة ناجحة، ترغب إسرائيل بوجود دولة سورية جديدة فاشلة، ولذلك سارعت إسرائيل بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، بشن سلسلة من الهجمات، ولم تكتف تل أبيب بالدخول إلى المنطقة العازلة، بل سيطرت على مرصد وقمة جبل الشيخ الاستراتيجية، وشنت أكثر من 300 غارة جوية أدت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية التي تركها النظام السوري ومستودعات السلاح والصواريخ الإستراتيجية ومراكز البحث العلمي والتصنيع العسكري.
انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت
ورغم أن تركيا وإسرائيل استفادتا بشكل كبير من تفكك المحور الذي تقوده إيران، وخاصة في سوريا، لكن تركيا كانت الرابح الأكبر، بينما تضاربت المشاعر الإسرائيلية وأفضت إلى نشوة مؤقتة أعقبها قلق دائم، فالعداء بين إسرائيل وتركيا لا يقارن بالصراع الطويل والدموي بين إسرائيل وإيران ووكلائها، والتحديات التي تواجه العلاقات التركية الإسرائيلية في الشرق الأوسط بعد الأسد تشير إلى تشكل منعطف حاسم في الجغرافيا السياسية الإقليمية، الأمر الذي يغير بصورة جذرية الديناميكيات التي طبعت العلاقات التاريخية بين تركيا وإسرائيل، والتي تأرجحت بين نسق من التحالفات البراغماتية والانقسامات الأيديولوجية، وقد أدى زوال عدوهما المشترك في سوريا إلى تحول في توازن القوى الإقليمي، وهو ما خلق تحديات جديدة وأخل بمرونة علاقاتهما الهشة.
إن انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت، فالدعم التركي العلني الذي يقدمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأعداء إسرائيل وفي مقدمتهم حركة حماس، قد يتطور إلى آفاق بعيدة.
وبحسب تقرير لجنة "جاكوب ناجل" بشأن ميزانية الدفاع الإسرائيلية، الذي نُشر في السادس من كانون الثاني/ يناير 2025، فإن طموحات تركيا إلى "إعادة التاج العثماني إلى مجده السابق" تشكل تحديا أمنيا ملحا، وقد أوصت اللجنة في تقريرها إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالاستعداد لحرب محتملة مع تركيا، في ضوء مخاوف متزايدة لدى تل أبيب من تحالف أنقرة مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد. ونبهت اللجنة في تقريرها إلى خطر التحالف السوري التركي، الذي ربما "يخلق تهديدا جديدا وكبيرا لأمن إسرائيل"، وقد يتطور إلى شيء "أكثر خطورة من التهديد الإيراني"، وفقا للجنة التي تم تشكيلها عام 2023، قبل بدء الحرب على غزة، لتقديم توصيات لوزارة الدفاع الإسرائيلية بشأن مواطن الصراع المحتملة التي تواجهها إسرائيل في السنوات المقبلة، ويترأس اللجنة يعقوب ناجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي.
إن التهديد الذي تشكله تركيا لإسرائيل يشكل تحديا جديا كبيرا لأمن إسرائيل في ضوء التحولات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، وهو تحد بالغ الخطورة بالنسبة لإسرائيل، إذ يعد الجيش التركي أحد أكبر الجيوش وأكثرها قوة في الشرق الأوسط، ويتألف الجيش التركي من 425 ألف جندي نشط و380 ألف جندي احتياطي. ووفقا لمصادر أمنية، فإن النفوذ المتزايد لتركيا في سوريا كقوة مهيمنة يستلزم دراسة جدية لقدراتها العسكرية، وتشكل المليشيات العسكرية الموالية لتركيا في سوريا، مثل "الجيش الوطني السوري"، تهديدا محتملا لإسرائيل، وخاصة على طول الحدود السورية الإسرائيلية. ويمكن للرئيس أردوغان أيضا الاستفادة من مجموعات مثل هيئة تحرير الشام بقيادة الرئيس الحالي أحمد الشرع ضد إسرائيل.
وقد أعلن الجولاني، في السابق ذات مرة أنه "بعون الله، لن نصل إلى دمشق فحسب؛ بل إن القدس تنتظرنا". وكان أردوغان قد أصدر تهديدات مباشرة لإسرائيل، ففي 28 تموز/ يوليو 2024، صرح في مؤتمر لحزب العدالة والتنمية بالقول: "كما دخلنا قره باغ وليبيا، سنفعل الشيء نفسه مع إسرائيل".
إن السيناريو الإسرائيلي المفضل في سوريا هو التفتيت والتقسيم وخلق كيانات هشة ضعيفة على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة من خلال كيانها اليهودي العنصري. ففي سوريا تتحقق رؤيتها من خلال تأسيس دويلات هشة وضعيفة على أسس عرقية إثنية ومذهبية دينية، وهي ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية، فأُمنية "إسرائيل" هي رؤية سوريا مقسمة إلى بضعة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الغرب.
وكانت وكالة رويترز كشفت نقلا عن أربعة مصادر مطلعة أن إسرائيل تسعى للضغط على الولايات المتحدة من أجل بقاء سوريا ضعيفة ومفككة ودون سلطة مركزية قوية، بما في ذلك السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية لمواجهة ما سمته النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وأضافت المصادر أن إسرائيل أبلغت واشنطن أن من سمتهم الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا، المدعومين من أنقرة، يشكلون تهديدا لحدودها. ووفقا لرويترز، فقد ذكرت ثلاثة مصادر أميركية أن إسرائيل تشعر بقلق بالغ إزاء الدور الذي تلعبه تركيا كحليف للإدارة السورية الجديدة.
في هذا السياق أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 شباط/ فبراير الماضي تحذيرا أشبه بإعلان حرب للإدارة الجديدة في دمشق، إذ قال: "لن نسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار جنوب دمشق"، وطالب بإخلاء جنوبي سوريا من هذه القوات بشكل كامل، وأكد نتنياهو على أن إسرائيل "لن تتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية" في المنطقة. وتزامنت هذه التصريحات مع سلسلة هجمات واستهدافات عسكرية شنتها إسرائيل في ريف دمشق وجنوبي سوريا، ولاحقا شنت إسرائيل سلسلة هجمات في 25 شباط/ فبراير الماضي على مواقع عسكرية في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة، كما توغلت برا في بلدات وقرى على الحدود الإدارية بين المحافظتين.
وقال وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس في بيان إن الهجمات "جزء من السياسة الجديدة التي حددناها لإخلاء جنوب سوريا من السلاح، والرسالة واضحة: لن نسمح لجنوب سوريا أن يصبح جنوب لبنان".
وعقب حالة التوتر في الأول من آذار/ مارس 2025، جراء اشتباكات بين عناصر أمن تابعين للسلطة السورية الجديدة ومسلحين محليين دروز في ضاحية جرمانا قرب دمشق، أسفرت عن مقتل شخص وإصابة تسعة آخرين بجروح، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس تعليمات للقوات الإسرائيلية "بالاستعداد للدفاع" عن مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، وقال بيان صادر عن مكتب كاتس إن المدينة "تتعرض حاليا لهجوم من قبل قوات النظام السوري"، وقال كاتس: "لن نسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإيذاء الدروز. إذا آذى النظام الدروز، فسوف نضربه". وأضاف: "نحن ملتزمون تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل ببذل كل ما في وسعنا لمنع إيذاء إخوانهم الدروز في سوريا، وسنتخذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على سلامتهم".
تستند إسرائيل في سياساتها العدوانية في سوريا إلى دعم أمريكي عسكري وسياسي مطلق، فما تقرره القيادة الإسرائيلية كضرورة للحفاظ على أمنها القومي تصادق عليه الإدارة الأمريكية، وتعتبر واشنطن ممارسات إسرائيل العدوانية بداهة استراتيجية من باب حق الدفاع عن النفس، فالمستعمرة الاستيطانية الصهيونية حجر الزاوية الأساس في مشروع الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، والاشتراطات الأمريكية على القيادة السورية الجديدة هو الالتزام بأمن إسرائيل ومحاربة أي مجموعة أو كيانات تناهض إسرائيل، وهو ما عبرت عنه واشنطن بوضوح، فعندما التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، كانت مسألة الحفاظ على أمن إسرائيل ومحاربة الجماعات التي تهدد أمن المستعمرة والتي تختزل بتسميتها بالإرهابية هي جوهر البحث والمداولة. فقد قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف عقب اللقاء:سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر إن أبو محمد الجولاني التزم خلال الاجتماع في دمشق بعدم السماح للجماعات الإرهابية بالعمل في سوريا وتهديد الولايات المتحدة والدول المجاورة (إسرائيل)، فالولايات المتحدة على مدى عقود، ترتكز في مقاربتها للمنطقة على ضرورة مكافحة الإرهاب (الإسلامي) وضمان أمن إسرائيل (الصهيوني).
خلاصة القول أن سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر يؤدي إلى تنامي النفوذ التركي المتصاعد، ويشير إلى عودة وإحياء الإسلام السياسي السني، الذي تخشى الولايات المتحدة من تداعيات انتشاره على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.
ولذلك لن تفلح تطمينات النظام الجديد في سوريا، وسوف يبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية الأمنية والسياسية. ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى تحت وطأة الضغوطات والتخريب بذريعة "الإرهاب"، ولن ترضى الإدارة الأمريكية والإسرائيلية عن الحكم الجديد دون شرط الخضوع التام، ولذلك فإن أولوية سوريا الجديدة هي تعزيز روابط التحالف مع تركيا، والعمل بجد على تأسيس جيش موحد قوي، وإخضاع كافة النزعات الانفصالية. فالرد على الكيان الاستعماري الإسرائيلي يجب أن يكون داخليا أولا باتخاذ قرارات وإجراءات قانونية وعسكرية وسياسية حاسمة تجاه المكونات الانفصالية؛ بدءا بقوات سوريا الديمقراطية ثم الانعطاف إلى بقية الكيانات الموازية.
x.com/hasanabuhanya