عربي21:
2024-12-17@04:35:40 GMT

الحرب الإسرائيلية على الانقسام اللبنانيّ

تاريخ النشر: 29th, September 2024 GMT

ثمة، حيال كل ما يتعلق بقضايا لبنان وحروبه من يقيس كل شيء بمعيار الطوائف مأخوذة جملة. يتعامل مع الطوائف كما لو أنها الشكل الذي يتكثّف فيه تصادم الحضارات في مجتمع تعددي.
وثمة، من تجد لديه صعوبة في إقرار الواقع على طوائفه. فتراه يُكثر من تجميع ما أوتي من أقيسة وشواهد وصيغ قولية ومفاهيم مطوّعة لغرض القول إن الطوائف ليست منظاراً لقراءة هذا الواقع في حركة تطوره وتفاعله مع سواه، وإنما هي منظار للإغماض والحجر على هذا الواقع والتعتيم على تناقضاته الفعلية والتحدّيات الأساسية فيه.

وبالتالي، لا تعدو الطوائف حينها سوى أخيلة وأشباح مضللة، لا أصل لها في بنية الاقتصاد نفسها، ولا إمكانية من الأساس لصرفها على المشرحة الجيوبوليتكية لنزاعات المنطقة، إلا كحجج ومسوّغات لهذا المشروع الهيمني أو ذاك.

ثمة في كل من هذين الحدّين القصويين كثير من الشطط والغلو، لكن الأكثر مكابرة على الواقع، في غالب الأحيان، هو المنظار الذي يشطب الطوائف عن البنى التحتية الاقتصادية الاجتماعية، أو عن العمق الأنثربولوجي للتعددية المجتمعية، أو عن أي أثر على جيوبوليتيك النزاعات شرق المتوسط.
وهذه هي الحال بالنسبة لواقع الأتون الذي أُدْخِل إليه لبنان اليوم. إذ لا يسمح التعالي على الانقسام اللبناني الداخلي العميق، ذي البعد الطائفي المحتقن، بفهم زاويتين على الأقل يستند إليهما المشهد ولا يختصر بهما.

الأولى أن «حزب الله» اختار الدخول منذ نحو العام في «حرب إسناد» حماس / قطاع غزة بالمراكمة والمكابرة على انقسام مزمن في الواقع اللبناني حول سلاحه، ومن يقرر الحرب والسلم في لبنان، وفي ظل اعتماد الحزب لمعادلة أن سلاحه في غنى عن الإجماع الوطني، وإصراره في الوقت نفسه على إسباغ هذا السلاح بصفة الشرعية في بيانات وزارية تنص على ما سمي «المعادلة الثلاثية» تحت عنوان «لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته» وهي البيانات إياها التي تنص جميعها على الالتزام بالقرار 1701 الذي ينيط الوضع جنوب الليطاني بقوات الطوارئ الدولية اليونيفيل المعززة وسلاح الشرعية اللبنانية. يعيش لبنان منذ اليوم التالي لحرب صيف 2006 في «نظام التباس» يمكن اختصاره بضم اليونيفيل لهذه المعادلة الثلاثية. أي هو نظام رباعية «لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته ويونيفيله».

طالما أن هذه الترتيبات سمحت بشكل عام بهدنة نسبية مزمنة جنوباً دامت سبعة عشر عاماً، كان من الممكن أن تجد من يسوّغ لدوام هذا الالتباس على أنه عملياً يخدم الغرض، غرض «تسكين الجبهة».

جرى التعامل إذاً مع ابتعاد الواقع جنوب الليطاني عن مندرجات القرار 1701 على أنه الشكل الواقعي لتنفيذ القرار وجرى التعامل مع الانقسام الداخلي حول سلاح الحزب، وحول جدية تنفيذ القرار 1701، على أنه تفصيل واه في لعبة الأمم.

المهم، كان، أن لا يَقلب «الحزب» الطاولة على ترتيبات 2006 جنوباً، وله التحكم بعد ذلك بمفاصل النظام السياسي اللبناني شرط أن لا يلغي تماماً هذا النظام ويقيم واحداً جديداً على صورته ومثاله.
عاش لبنان في «جمهورية لعبة الغميضة» هذه منذ أغسطس 2006 وحتى الانفجار الكارثيّ للوضع الآن.

فحتى أشهر «حرب المشاغلة» منذ أكتوبر الماضي، ظلت تبقي على الحدّ الأدنى من لعبة «الاستغماء» تحت مسمى «قواعد الاشتباك».

لكن البون صار نافراً – في أمد «المشاغلة» هذا – وعلى نحو صارخ، وعالي الكلفة، بين الواقع جنوب الليطاني وبين القرار الدولي، الذي على أساسه أوقفت حرب 2006.

واستفحل كذلك الشرخ بين الواقع شمال الليطاني وبين النظام الدستوري والسياسي بالشكل الذي أقره «اتفاق الطائف» ـ الذي على أساسه أوقفت الحرب الأهلية، أقله في السردية الرسمية.

لم يسبق أن دخل مجتمع في حرب بهذه الدرجة من الانقسام الداخلي حولها، وحول من يخوضها، وفي ظل فراغ رئاسي، وتعطيل مؤسساتي، وإفلاس مالي، ووضع ضاغط لملف اللاجئين، كما في ظل اتساع الهوة التكنولوجية مع العدو، وظهور الشهوة الإبادية لديه بشكل مريع ضد أبناء قطاع غزة، وهشاشة مخيفة للنظام العربي الرسمي، هذا في وقت لا يجمع المجتمع السياسي الإسرائيلي على شيء اليوم بمقدار ما يجمع فيه على الحرب على لبنان/ حزب الله.

ينقسم اللبنانيون على حرب تُهدّد مصير بلدهم جميعاً، وإن كانت تستهدف طائفة واحدة منهم، لا داعي للتأني هنا في الاصطلاح.

من الوهم النظر الى هذه الحرب على أنها ملحمة انصهارية لشعب دخلها منقسماً حولها وبشدة.
لا يعني هذا في المقابل أن الانقسام هو في حلّ من ميزان القوى، أو أنه يتعالى على اللحظة أو الظرف. الانقسام أيضاً هو من النوع «المحتبس» التائه. عندما تندلع حرب من الوهم أن يكون بمستطاعك إيقافها لمجرد أنك ترفضها.

ليس هناك أفق واضح لترجمة هذا الانقسام حول الحرب في زمن اقتراب الحرب من نقطة اللاعودة. لا يجعله مع ذلك انقساماً واهياً أو مفبركاً. هو انقسام له حيثيات راسخة ومثابرة، لكنه انقسام معطوب، إلى حين. هو كذلك، انقسام بين مجاميع من الهائمين على وجوههم، في كل اتجاه.
العنصر الثاني في المقابل هو أن الحرب الحالية وكلما اتجهت نحو قرين الحرب المفتوحة أو الكلية بين إسرائيل والحزب كلما راحت الأخيرة تحوّلها إلى حرب تطهير إثنو-مذهبي تستهدف طائفة كبرى من طوائف لبنان وليس فقط الحزب.

في يومين فقط جرى حمل نصف شيعة لبنان على النزوح إلى مناطق معظمها غير شيعية.
ما لم تثمر جهود تعطيل صاعق الحرب، وليس سهلاً تعطيلها الآن، فإن التنكيل بالمدنيين والتهجير للأهالي سيتحول أكثر فأكثر إلى النمط الأساسي للحرب الإسرائيلية.

وهذا اختبار حسّاس للواقع التعددي اللبناني برمّته. فهذا الواقع منقسم حول الحرب، لكن كل ركن فيه يدرك على طريقته خطورة أن تستهدف الحرب الإسرائيلية بشكل أكثر همجية من حرب 2006 طائفة برمتها، حيثما وجد أبناؤها على المساحة اللبنانية.

فالوهم الذي تشدّق به البعض بعد تفجيرات البيجر بأن الاستهداف بات من الممكن أن يكون «دقيقاً» ومحصوراً بكوادر ومسلحي الحزب تبخّر سريعاً، وبسرعة بات أكثر ضحايا الحرب الحالية من المدنيين الشيعة.

كيف يمكن للبنانيين الجمع بين وعي خطورة التطهير الإثني الإسرائيلي لطائفة منهم وبين واقعة أنهم منقسمون من الأساس حول الحرب وحول السلاح وحول كل أمر في نهاية المطاف؟ وحده المكتفي بانسجام الصيغ القولية له الحل لهذه المعضلة.

الواقع أكثر مرارة، وما هو متاح فعله الآن قليل. أفضل ما يمكن فعله هو عدم ترك الانفعالات تعطّل القدرة على رؤية الانقسام الفعلي من جهة، وعلى رؤية خطورة الحرب على طائفة بالنسبة لكل اللبنانيين من دون استثناء من جهة أخرى.

لا يلغي ذلك في المقابل أن غالبية الشيعة تعيش هي أيضاً في موقف مزدوج: لا تريد لنفسها أن تلاقي مصير سكان قطاع غزة، ولا تتعرف على نفسها وحتى إشعار آخر إلا من خلال خط الانحياز لحزب الله.

الانقسام «جواني» إذاً بين رغبتين في الفرد الواحد ضمن المناخ نفسه. رغبة في الإفلات سريعاً من هذا الأتون، ورغبة في الإبقاء على الحزب ومكانته لديهم. في حين أن الانقسام على الصعيد اللبناني العام «برّاني». فمعظم من لا يريد هذه الحرب من غير الشيعة لا يريد أيضاً دوام هيمنة «حزب الله» على قرار الحرب والسلم، وعلى أحوال البلد. وإن انقسمت الأمور هنا بين من يرى أن العدوانية الإسرائيلية لا تفسّر كردة فعل على حماس وحزب الله، وبين من يجنح إلى هذا الاختزال بشكل أو بآخر.

(القدس العربي)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه لبنان حزب الله لبنان حزب الله الاحتلال مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة على أنه

إقرأ أيضاً:

ما الذي اختلف بين سورية ولبنان في مواجهة العدوان “الإسرائيلي”؟

يمانيون../
تشهد سورية اليوم عدواناً “إسرائيلياً” برياً وجوياً واسعاً، وذلك بالتوازي مع توليف عملية تغيير جذري وواسع للسلطة، بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وحيث لم يتخط هذا العدوان الأسبوعين حتى الآن، لا يبدو أنه سوف يتوقف أو ينحسر أو حتى ينحصر قريباً.

عملياً، ودون أي شكل من أشكال المقاومة أو الدفاع او التصدي، نجحت وحدات العدو في تحقيق مروحة واسعة من الإنجازات الميدانية والعسكرية والاستراتيجية، تمثلت في النقاط الآتية:

– احتلال مساحات واسعة من الجنوب السوري ضمن ما كان محرراً من الجولان السوري، كما واستطاعت الاقتراب من دمشق ومن المعبر الرئيسي مع لبنان في المصنع، مع بدء إطلاق عملية توسع شرقاً نحو وادي اليرموك ومناطق في درعا، وفعلياً أيضاً، لا يبدو أن جغرافية منطقة السويداء جنوب شرق سورية، ستكون بمنأى عن هذا التوسع.

– تدمير (تقريباً) كل قدرات الجيش السوري وعلى المستويات والإمكانيات والأسلحة والمنشآت كافة، ووضعه في موقع ضعيف دون أية قدرة لا أمنية ولا عسكرية، وبعيد جداً عن موقع الجيش الذي كان من بين الأوائل في المنطقة، تسليحاً وعديداً وعقيدة ونفوذاً.

– انتزعت “إسرائيل” من خلال هذا العدوان موقعاً إستراتيجياً مهماً، من خلاله، أصبحت قادرة على فرض نسبة تأثير ضخمة في أي سيناريو إقليمي أو دولي يمكن أن تُستهدف فيه سيادة سورية ووحدة أراضيها وموقفها من القضية الفلسطينية ومن مشاريع التطبيع مع كيان الاحتلال.

هذا لناحية نتائج العدوان “الإسرائيلي” على سورية، أما لناحية العدوان “الإسرائيلي” على لبنان، فيمكن الإضاءة على النقاط الآتية:

يمكن القول، إن العدوان “الإسرائيلي” على لبنان قد انتهى مبدئياً مع استمرار بعض الخروقات المتمثلة باعتداءات جوية ومدفعية موضعية، وباحتلال بعض المناطق الحدودية. ويرتبط الانتهاء من كل هذه الخروقات وانسحاب العدو من المناطق المحتلة، واكتمال مسار تطبيق اتفاق تنفيذ القرار ١٧٠١ بانتشار الجيش اللبناني وتنفيذه الخطة الأمنية موضوع القرار المذكور.

عملياً، في سورية تخطت “إسرائيل” اتفاقية فض الاشتباك بينها وبين سورية عام ١٩٧٤، والتي حصلت برعاية مجلس الأمن بعد توقف الحرب عام ١٩٧٣، ونجحت في سورية، وفي فترة وجيزة، بتحقيق ما ذكر أعلاه ميدانياً وعسكرياً وإستراتيجياً، بينما في لبنان، وبعد عدوان واسع استمر لأكثر من خمسة عشر شهراً، أقصى ما تحقق هو التزام الطرفين (اللبناني والإسرائيلي) بتطبيق القرار ١٧٠١، والذي كانت “إسرائيل” قد امتنعت عن تطبيقه منذ صدوره حتى اليوم، والأهم أنها فشلت في تحقيق أي هدف من الأهداف التي وضعتها لعدوانها، المعلنة منها وأهمها إنهاء المقاومة وإعادة المستوطنين والأمان إلى شمال فلسطين المحتلة، وغير المعلنة منها، وأهمها السيطرة على منطقة جغرافية عازلة، مماثلة للمنطقة العازلة التي احتلتها مؤخراً في الجنوب السوري.

من هنا، وفي ظل هذا الفارق الفاضح بين ما حققته “إسرائيل” في سورية بمدة وجيزة، وبين الهزيل مما حققته في لبنان بمدة طويلة، يبقى الفاصل الأساس هو ثبات رجال حزب الله في الميدان، ويبقى لصمود المقاومة في المواجهات المباشرة وعلى مسافة صفر، وللدماء الذكية التي نزفت بين أحياء وحارات ومنازل البلدات الحدودية المعروفة، التأثير الأكبر والحاسم في تحقيق انتصار صارخ بوجه عدو قادر وغادر، يحمل في فكره إستراتيجية تاريخية دينية، مشبعة بالأطماع وبأهداف التوسع والاحتلال.

العهد الاخباري ـ الكاتب : شارل أبي نادر

مقالات مشابهة

  • ما الذي اختلف بين سورية ولبنان في مواجهة العدوان “الإسرائيلي”؟
  • رئيس وزراء اليونان: نؤكد دعمنا للجيش اللبناني.. وسوريا أصبحت في بؤرة الاهتمام
  • إلى 45028 قتيلاً..ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة
  • قرى عكار في الشمال اللبناني تهتز بفعل الغارات الإسرائيلية العنيفة على سوريا
  • خلف الحبتور: الجيش اللبناني أثبت أنه العمود الفقري للوطن وقدم نموذجا يحتذى به
  • خبير عسكري: الحرب الإسرائيلية ستمتد إلى إيران والعراق واليمن
  • ميقاتي: الجيش اللبناني بدأ توسيع انتشاره في الجنوب
  • الأمن العام اللبناني يفرض قيودا جديدة على دخول السوريين
  • حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة
  • مواجهة جديدة بين هليفي ونتنياهو.. من هو الضابط احتياط فينتر الذي أثار الخلاف هذه المرة؟