التعافِي الوطني شروطه وضرُورته «1»
تاريخ النشر: 29th, September 2024 GMT
التعافِي الوطني شروطه وضرُورته «1»
ورقة مُساهمة مُقدمة من:
نضال عبد الوهاب
لكل الشعب السُوداني وقواه السياسِية وفصائله الفاعِلة…
فتحت هذه الحرب الحالية، أو ما أُصطلح على تسميتها بحرب الخامس عشر من أبريل باباً للعديد من الأسئلة الهامة، والتي دون شك تحتاج إجابات، وبرُغم أنها ليست الحرب الأولى أو الوحيدة في السُودان، وقد سبقتها عدد من الحروب، والتي لم تتوقف في السُودان ومُنذ استقلاله إلا في فترات محدودة جداً، شهدت استقراراً وسلاماً، ولكنه لم يكُن سلاماً دائماً، وبعد كل توقيع لاتفاق سلام، تعود بعده الحرب أشدّ وأشرس، وقد حدث هذا في حرب الجنوب التي امتدت على فترات وكانت الحرب الأطول، ثم حرب دارفور المُستمرة مُنذ أكثر من 20 عاماً إلى الآن، وحروبات أقاليم النيل الأزرق وجنوب كُردفان وجبال النوبة، إضافة إلى الشرق، بينما تميّزت عنهم الحرب الحالية بأنها حرب شاملة، امتدت وبدأت بالمركز في الخرطوم ثم إنتقلت إلى أجزاء واسعة أخرى في دارفور والجزيرة وجنوب وغرب وشمال كردفان والنيل الأبيض وإقليم النيل الأزرق، ولاتزال مُستمرة حتى اللحظة.
أهمّ الأسئلة التي أوجدتها هذه الحرب هي هل سيستمر السُودان بذات القوام السياسِي وذات الطريق للحُكم؟، حتى وإن قُدر لأحد الطرفين المُتقاتلين تحقيق انتصار عسكري على الآخر؟، وهل سيستمر السُودان بذات التركيبة السُكانية خاصة بعد هجرة ونزوح الملايين؟، وهل سيحل آخرون من مناطق أخرى مكانهم (تغيير ديمُغرافي)؟، وهل سيستمر السُودان بذات أجزائه وحدوده الحالية؟، أم سيفرض واقع الحرب تقسّيماً جديداً لأقاليم ظلت في حالة من عدم الاستقرار والصراعات المُسلحة حتى قبل الحرب الحالية؟، وهل سيتم التقسيّم على أساس السيطرة على الأرض للأطراف المُتحاربة وشرّعية الأمر الواقع لكليهما؟، وخلق واقع يعترف ويتعامل معه المجتمع الدولي؟، أم سيتم هذا بالاتفاق والتفاوض بين الأطراف المُتحاربة؟، هل سيتعامل السُودانيون مع واقع جديد يُفرض عليهم ويقبلوا بذلك؟، سواء بالتقسيّم، أو حتى الاحتلال، أو بالقبول بالهجرة عنه والنزوح والبحث عن أوطان بديلة؟، هل سيستسلموا أو من تبقى منهم لعودة الإسلاميين والكيزان لسُلطة الامر الواقع العسكرية المُستبدة مرة أخرى؟، أم هل سيقبل السُودانيون بمليشيا الجنجويد والدعم السريع كسُلطة أمر واقع إن هي وجدت دعماً دولياً أو قبول خارجي؟، أم هل سيقبل السُودانيون بطرفي الحرب معاً حتى وإن شاركوا المدنيين في السُلطة والحُكم مرة أخرى؟، هل سيتخلى السُودانيون عن الثورة وحُلمهم في التغيير على أن تتم مُقايضة ذلك بالأمن كما يحاول العسكر وبعض الإسلاميين والكيزان فرض ذلك عليهم من خلال مُعطيات الحرب الحالية ومآلاتها ونتائجها التي يسعون إليها والقضاء على الثورة؟، هل سيتعامل الشعب السُوداني مع قوى سياسِية يعتقد البعض أنها شريكة في الحرب الحالية وتدعم أطرافها؟؟، والسؤال الكبير والجامع هو إذاً هل سيكون السُودان وبعد هذه الحرب الحالية كما كان قبلها؟؟؟.
سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة، والمحاولة للوصول لنتائج تفيّد وتخدم قضايا وقف الحرب واستدامة السلام والاستقرار والتغيير للأفضل في بلادنا.
لاشك أن تاريخ الصرّاع السياسِي طويل في السُودان ومُعقد ومُتشعب، وأن جوهر هذا الصرّاع ظلّ يتخذ طابع الصرّاع على السُلطة والثروة والموارد في السُودان، ولكنه ليس محصوراً فيها فقط، فقد اتخذ أوجه أخرى من الصرّاع، صرّاع ثقافي وإجتماعي وديني، نتيجة للتنوع الكبير والتعدد الإثني والقبلي، ورغم التاريخ المُشترك والتعايش الكبير بين كافة المكونات السُودانية، ولكن لوجود بعض التمييز والتفريق وكنتيجة رئيسية للسيطرة على السُلطة واحتكار الوظائف والهيمنة الاقتصادية، وإفرازات الأنظمة المُتعاقبة الحاكمة سياساتها، وغياب الديمُقراطية والدستور الوطني الديمُقراطي والاحتكارية السياسِية والخلل في السياسات واختلالات التنمية وغياب العدالة وعدم توفر مشروع وطني تفلح معه الإدارة الصحيحة للتعدد والتنوع في السُودان، ظهرت الفوارق والاختلالات والتمييز، وغياب العدالة الإجتماعية، مما أنتج الفقر والتهميش والبطالة، وفي ذات الوقت لعب الصرّاع حول السُلطة حصرها في فئات سياسِية وإجتماعية مُحددة، ولعب الموروث الإجتماعي والثقافي أدوار سالبة في تكريس الطائفية والتمييز على الأساس الأُسري والإجتماعي والقبلي، ثم على أساس الهوية والمناطقية والثقافة والدين، وكُل هذا ولّد صراعات سياسِية ثم أدى لرفع السلاح وتحول الصرّاع إلى صراعات مُسلحة وحروب مُشتعلة ومُستمرة، وبالتالي ضحايا وضعف عام للدولة في وجود كافة إفرازات الحروب السالبة، ففشلنا بالمجموع وطوال الحقب السابقة في وضع الطريق لسُودان مُستقر سياسِياً، فكان الناتج سُودان غير ديمُقراطي، غياب الدستور الوطني الديمُقراطي، فُتح الباب مُشرّعاً وبسبب عدم الصبر على الديمُقراطية وعدم القبول بالآخر أمام الاستبداد السياسِي والحُكم العسكري الديكتاتوري الشمولي، وحُكم القِلة والفرد، فظهر القمّع والبطش والقهر وكبت الحريات التي صاحبت كُل الأنظمة العسكرية التي حكمت بلا استثناء إبتداءً بحكم الفريق عبود مروراً بمايو وانتهاءً بنظام الإسلاميين في 1989 بانقلابهم ثم حتى إلى عهد ما بعد الثورة المُتمثل في البرهان وحميدتي والمكون العسكري الميلشياوي.
وحتى الفترات القليلة التي كانت فيها أنظمة ديمُقراطية عانت من عدم الاستمرارية، والتطوير والصبر عليها، وعانت كذلك من الفهم الخاطئ للديمُقراطية نفسها وسلوكها الصحيح في الأفراد والدولة، وكانت بها هي نفسها العديد من التشوهات، نتيجة لوجود أحزاب تقليدية وموروثة وذات أساس طائفي وبيوتات، لم تمارس العدالة في الحُكم ولا في وضع دستور ديمُقراطي به كافة حقوق المواطنة المتساوية الحقيقية، بل مالت في خلق التقسيّم والتمييز، وأدخلت الدين والهوية واللغة في الصرّاع السياسِي، في بلد لا يصلح أن يتم حكمه بدستور ديني، ولا بهوية أُحادية تُفرض على الجميع المتنوع المُختلف، فكان الدين نفسه أحد أدوات الصرّاع السياسِي والذي تم به إجهاض الديمُقراطيات والتأسيس والتكريس للإقصاء والعزّل السياسِي وعدم القبول بالآخر المُختلف، ونسف مبادئ الحريات في العقيدة والتفكير والتنظيّم السياسِي، كُل هذه الأخطاء صاحبت التجارب القليلة الديمُقراطية، وميّزت الأحزاب السياسِية خاصة التقليدية الدينية والطائفية، فشهدنا ديمُقراطيات كسيحة ومنقوصة ومُختلة وهشة، وسلوك بعيد عن الديمُقراطية وعدم مؤسسية، حتى داخل الأحزاب السياسِية، فتحت الباب نحو الفساد والمحسوبية، وانعكس ذلك في السياسات المُتبعة، وآثارها على الاقتصاد والمجتمع، وتم تحزيب وتسييس المؤسسة العسكرية نفسها، ولأن الانقلابات العسكرية والأنظمة المُستبدّة الحاكمة بها كانت ليست حكراً على السُودان ولكنها كانت موجودة في كُل دول العالم الثالث وتلعب استخبارات الدول الكُبرى أيضاً أدواراً في تصديرها لتلك الدول وتحويلها لدول تابعة لها في مرحلة ما بعد الاستعمار وبعد الحرب العالمية وفترات التحرر الوطني ووجود المُعسكرين والقطبين الشرقي الاشتراكي الشيّوعي والغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المُتحدة والاتحاد السوفيتي، وإفرازات الحرب الباردة وحالة الاستقطاب العالمي، كُلها ساهمت أيضاً في خلق الأنظمة التابعة وعلى رأسها الأنظمة الانقلابية العسكرية، فتكامل إذاً في عدم الاستقرار السياسِي والصرّاع العاملين الداخلي والخارجي، وتأرجحت السياسات حتى للأنظمة العسكرية الانقلابية التي حكمت ما بين المُعسكرين الاشتراكي الشيّوعي والرأسمالي الغربي ومحاورهما، ولم نكن بعيدين كذلك ومُنذ زمن مُبكر لدخول النفوذ الإقليمي الاستخباراتي وسياسات الاحتواء، خاصة من مصر، وليبيا ثم تلتها لاحقاً دول الخليج العراق والسعودية والإمارات، قبل أن تدخل إيران وقطر وتركيا في الصورة خاصة في عهد الكيزان والإسلاميين، ثم دخول دول أخرى إقليمية في هذا الصرّاع وأسهمت في عدم الاستقرار السياسِي أو أوجدت بذور لتغذيته ولصالح دول كبرى أخرى، مثل يوغندا وكينيا وإثيوبيا وإريتريا وتشاد، أي معظم جيران السُودان والتي حول حدوده ما قبل الإنفصال للجنوب وبعده، ولا ننسى وجود إسرائيل كذلك القوى ومُعظم الصرّاع الذي نشأ في منطقتي الشرق الأوسط والبحر الأحمر إضافة للقرن الأفريقي.
كُل هذا العوامل والأسباب داخلياً وخارجياً أسهمت وساعدت في خلق عدم الاستقرار السياسِي للسُودان مُنذ استقلاله وإلى اليوم، وبفعل السياسات الداخلية للأنظمة المُختلفة المُتعاقبة في السُودان أعطت الفرصة للتدخلات الخارجية والإقليمية وحركة المصالح الدولية، والتي كان يتم تقديمها على مصالح بلادنا وسيادتها، ودخل الفساد السياسِي والاقتصادي المُرتبط بتلك الدوائر الخارجية، كُل ذلك أثر على بلادنا سلباً، ثم التحولات العالمية التي حدثت منذ حرب الخليج والحرب في العراق والغزو العراقي للكويت ودخول التحالف الدولي العسكري للمنطقة وتزامن ذلك مع السقوط المدوي للمُعسكر الاشتراكي ومرحلة العولمة وانتصار المُعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المُتحدة وهيمنة القطب الواحد وظهور الليبرالية الجديدة ونمط الاقتصاد المُرتبط بها وهيمنة الشركات العابرة للدول والقارات، ثم محاولة فك هذا الاحتكار ودخول روسيا والصين في هذا الإتجاه كمنافس قوي للولايات المُتحدة وحلفائها، وللسيطرة على ثروات الشعوب خاصة الأفريقية ودول العالم الثالث، إضافة لإنجلترا وفرنسا وألمانيا أقوى الدول الأوروبية وأصحاب النفوذ فيها، ومحاولات التقسيّم على أساس النفوذ واحتكار الثراوت، وظهور المحاور الدولية والإقليمية، وبروز الدول النفطية الخليجية اقتصادياً ولكن مُتحكم في سياساتها وترتبط بذات الصرّاع الدولي الموجود، ومحاولات إسرائيل لتمديد نفوذها في منطقة الشرق الأوسط وشعار إسرائيل من النيل للفرات، فكانت اتفاقيات السلام الإبراهيمية وخلق التحالفات الإسرائلية والتي ظاهرها اقتصادي وثقافي ولكن أساسها عسكري لتمديد النفوذ والسيطرة، فظهرت سياسة الحرب بالوكالة، والقضاء على الثورات وإجهاضها، وجُندت أموال ضخمة للاستقطاب والاختراق الأمني والسياسِي، وشراء من يسهُل شراؤه، كل ذلك يدخل ضمن منطق الصرّاع الدولي والإقليمي من أجل المصالح والثروات والنفوذ والهيمنة عليها واحتكارها، والسُودان بهذا المنطق هو داخل للأسف وبقوة في هذا الصرّاع، وكنتيجة مُباشرة لسوء وضعف الأنظمة السابقة والحالية ومن هم كانوا ولايزالون يديرون المشهد، فتم جرّ السُودان للتبعية، ليتم فرض ما يريده الخارج الدولي والإقليمي بناءً على مصالحهم وليس لصالح بلادنا بالقطع وشعبنا وحاضرنا ومُستقبل الأجيال القادمة، فسناريهوات الاحتلال أو التقسيّم وفرض الوصاية وتكريس التبعية وإضعاف أو انعدام سيادتنا كدولة أساسها هو هذا التكالب الدولي الإقليمي ومخالبها هم للأسف من أبناء البلد مدنيين وعسكريين سواء بوعيّ منهم وقصد ومصالح ذاتية أو دونه.
ونواصل…
الوسومالاستقلال الاشتراكية الامبريالية التعافي الوطني الديمقراطية السودان الشيوعية الطائفية العسكر المدنيين النظام الرأسمالي النيل الأزرق دارفور شرق السودان كردفان نضال عبد الوهابالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الاستقلال الاشتراكية الامبريالية التعافي الوطني الديمقراطية السودان الشيوعية الطائفية العسكر المدنيين النظام الرأسمالي النيل الأزرق دارفور شرق السودان كردفان نضال عبد الوهاب الحرب الحالیة عدم الاستقرار فی الس ودان السیاس ی الس لطة
إقرأ أيضاً:
دمشق التي تغادر زمن الوجع والمرارة
ما من مدينة أكثر أهمية إذا أردنا قراءة سمات النهوض والتطور من العاصمة السورية دمشق، فقد بقيت تستقطب على الدوام اهتمام الآخر، وعندما يتطلع المرء إليها فإنه يتطلع في الحقيقة إلى أصول الدنيا.
ويُجمع المؤرخون على أن الحياة دبت في دمشق وتواصلت دون انقطاع منذ الألف الثاني قبل الميلاد وازدهرت وتطورت، وأصبحت ملتقى القوافل التجارية الآتية من الجزيرة العربية وأفريقيا الشرقية والأناضول وآسيا الوسطى ومفترق الطرق القادمة من الهند والصين ومحطة رئيسية على طريق الحرير القديم.
وأسهم تعاقب الحضارات على أرضها في تنامي المظاهر الاجتماعية وتعدد دور العبادة وتطور نموذج السلطة الحاكمة، وعبّرت جميعها عن وجود شكل مبكر لحياة مدنية ذات بعد إنساني وصبغة روحانية اشتهرت بها المنطقة.
ومثلما سمحت قدراتها على لعب أدوار متقدمة كمدينة مركز وعاصمة قومية باتت في فترات مختلفة مسرحا لتجاذبات أممية على جانب من الأهمية جعلتها تخضع لامتحانات صعبة في الحرب والسلام دفعت أثمانها غاليا، لكنها نجحت في تجاوز تحدياتها مع مرور الوقت.
ومع ذلك، لم تكن دمشق بمنأى عن لعبة الموت على مر العصور، فقد تعمدت بالدم منذ آماد بعيدة، كما تعرضت للخراب والدمار مرات عديدة، واختفت ورودها وأزهارها، وتعفر ربيعها بسنابك خيول ملوك بيزنطة وقواد الحملات الصليبية ومصفحات ومدافع الجيوش الفرنسية، وأخيرا بدبابات البعث وطائرات وصواريخ عائلة الأسد التي حكمت سوريا منذ عام 1970 حتى سقوطها في ديسمبر/كانون الأول 2024.
إعلان مدينة مليئة بالمسرات والمتعارتبطت دمشق طبيعيا بنهر بردى الذي ينبع من سهول الزبداني على بعد 50 كيلومترا من المركز، وقد ألهبت مياهه التي تسقي ما يصطف على ضفتيه من بساتين مشاعر الكثير من أدباء الغرب ومستشرقيه ممن زاروها.
وطوقتها بساتين وهضاب طبيعية، وأضافت إليها الحدائق وأفرع النهر مشهدا خلابا، مما دفع المؤرخ الطبري إلى أن يعتبرها أحد الأماكن الأربعة في العالم المليئة بالمسرات والمتع، في حين نظر إليها الفرنسي بيير ديلفيل هيلبير كمعجزة، ومعجزتها في الغوطة، هذه الواحة الواسعة والملاذ الظليل.
روح الشرقدخلت المسيحية دمشق في زمن بولس الرسول، وبحسب سفر أعمال الرسل دُعي المؤمنون بالمسيح، مسيحيون لأول مرة في أنطاكيا عاصمة البلاد آنذاك، وأقام في مدنها عدد من الرسل الـ70 الذين عينهم يسوع بحسب إنجيل لوقا، وكان من أبرزهم حنانيا الذي غدا أسقف دمشق.
وفي أواخر العقد الرابع من القرن السادس الميلادي وصلها الإسلام على يد أبي عبيدة بن الجراح، وعيّن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان واليا عليها، وعقب وفاته حل مكانه معاوية، وخلال فترة وجيزة انفردت دمشق بقيادة الدولة الإسلامية، وأصبحت عاصمة إمبراطورية مترامية الأطراف امتدت حدودها من جنوب الصين إلى إسبانيا والجنوب الفرنسي.
وسوف يمنحك تجاور المساجد والكنائس في الحواري القديمة وتمازج أصوات الأذان الشجية من شرفات المآذن مع أصوات أجراس النواقيس بإيقاعاتها المؤثرة انطباعا قويا عن عاصمة بقيت وفية لتقاليدها رغم تطورها المدني والحداثي.
فقد حافظت الشام على التآخي وأصول العيش المشترك بين أديان ومذاهب احتضنت بعضها البعض ضمن نسيج متماسك، خيط من أصول واحدة.
وتماهت العلاقة بين المسيحية والإسلام داخل أحياء وحارات متعددة، لم تكن تفرق في يوم من الأيام بين دين وآخر، ليس فقط على مستوى الجوار، بل على مستوى السلطة والحياة السياسية الوطنية في البلاد.
إعلانوفي هذا الصدد، تروي الصحفية الفرنسية أليس بوللو في يومياتها كيف حاول الفرنسيون إحداث شرخ بين السكان المسلمين وجيرانهم المسيحيين أثناء ثورة عام 1925 عبر بث الإشاعات لإحداث صدع داخل الجبهة المدنية الدمشقية، قائلة "وعلى الفور تلقى غبطة بطريرك الروم الأرثوذكس كتابا من قيادة الثورة يطمئنه بعدم صحة الإشاعات، ويتعهد له على لسان سلطان باشا الأطرش قائد الثورة بأن لا خوف ولا خطر على المسيحيين من الثورة الوطنية، فهي لا تقصد إيذاءهم أو ترمي إلى إساءة معاملتهم بأي حال".
ومن الواضح أن العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط سكان حي باب توما- القصاع أكبر الأحياء المسيحية في دمشق بجيرانهم المسلمين -على سبيل المثال- تتجاوز حدود الجيرة في كثير من الأحيان، لتبدو أقرب إلى علاقة روحية تجسد مفهوم العائلة بمنطق القيم الأخلاقية والعرف والتقاليد.
فقد كانت المسيحية والإسلام وجهين لعقيدة لم ينظر الدمشقيون إليها إلا من خلال مصدر إلهي واحد حض أتباع كل ديانة على الرحمة والتآخي ورهافة القلب.
وزاد الإسلام حين جعل الاعتقاد بالأنبياء ونبوتهم جانبا مكملا للإيمان وشرطا من شروط صحته، وخص عيسى وأمه مريم بمكانة يدرك المسيحيون أنهم لم يألفوا ما يماثلها في أي معتقدات أخرى.
وبقيت المدينة متمسكة بتراثها الديني والإنساني، وحافظت على الروحانية التي تتمتع بها رغم الحروب والمآسي، إذ صنعت من أوجاعها صورة مشرقة لطالما هزت مشاعر الذين لا يعرفونها عن قرب، كما ترجمت بتسامحها روح الشرق، تلك الروح التي كثيرا ما عبرت عن ارتباطها بقوة عليا وانجذابها العاطفي نحو الخير والجمال والمعرفة.
المدينة المقدسةتقلدت دمشق قلادة العروبة في وقت مبكر، وحين كان ينظر إليها كعاصمة حكمت جنوب المتوسط تحت راية الخلافة ومنبع تفاعل الفكر والعلم ومدينة مقدسة تضم تربتها آثار عشرات الرسل والأنبياء مكث فيها المسيح مع أمه، ودخلها القديس يوحنا المعمدان، وغدت المكان الذي وصلته كلمة الله قبل أي مكان آخر، وكان ينظر إليها بمثابة مركز إشعاع قومي شهدت أرضها أولى خفقات العروبة وتجلياتها.
إعلانوعلى هذه الخلفية تواصل استهدافها، وبقيت محط أطماع الشرق والغرب، وقطعة الجبن التي يسيل لها اللعاب كلما داعبت نوازع الشر توجهات المال والسياسة.
لقد حاول الصليبيون احتلالها بعد أن استولوا على القدس لكنهم فشلوا، واستطاع عماد الدين زنكي أن يؤسس في تلك المرحلة مع ابنه نور الدين لزمن استعادت العاصمة السورية فيه مجدها وتألقت ونهضت علومها وإبداعاتها.
ثم تابع الأيوبيون ما أنجزته الأسرة الزنكية، وبرز نجم صلاح الدين الأيوبي باعتباره قائدا ومحاربا من طراز رفيع حكم بلاد الشام ومصر وحرر القدس، وتمكن من بعده الظاهر بيبرس القائد المملوكي من تحرير أنطاكيا وطرابلس وعكا، مسدلا بذلك الستارة على ما عرف بالعصر الصليبي، عصر التوحش والدماء.
دمشق تنافس إسطنبولحافظت دمشق على تألقها كمركز ولايات ثلاث خلال فترة الحكم العثماني لبلاد الشام بعد أن دخلها السلطان سليم في 27 سبتمبر/أيلول 1516 عقب انتصاره على سلطان المماليك قانصوه الغوري في معركة مرج دابق شمالي حلب.
وتؤكد الوثائق العربية والعثمانية ارتباط شمال جبال طوروس بجنوبها بعلاقات طيبة بعد أن أصبحت إسطنبول مقرا لخلافة الإسلام، وكان من الواجب على المسلمين أن يرتبطوا بسلطة أمير المؤمنين أو الخليفة دون تردد أو انتظار.
وخلال فترة قصيرة نافست شام شريف إسطنبول عاصمة الخلافة، وبقيت المدينة الأكثر إثارة في مخيلة رواد المعرفة وباحثي التاريخ ونشطاء الفكر والسياسة.
وكان إذا ما أريد حقا التعمق بهذه الروح ومتابعة خفقاتها -وفق الكاتب الفرنسي بيير لامازيير- فإنه يجب أن تكون وجهة المرء هي دمشق لأنها قلب سوريا ودماغها.
كيف غيرت عائلة الأسد وجه دمشق؟توسعت المدينة خارج حدودها القديمة في مطلع القرن الـ20، وشهدت الأطراف الملاصقة لسورها أحياء حديثة وشوارع ممهدة وأسواقا جديدة كالحميدية ومدحت باشا وناظم باشا وعمارات ذات مسحة غربية أخذت في الظهور على امتداد الطريق الواصل بين ساحة المرجة وحي الصالحية، حيث ينتشر مركزها التجاري.
إعلانوبخلاف العواصم العربية الأخرى مثل بغداد والقاهرة لم تكن العاصمة السورية التي دخلت سجل التراث العالمي في عام 1987 مدينة مترامية الأطراف، بل احتفظت على الدوام بطابع المدينة التقليدية التي ترتبط مع محيطها بعلاقة تكاملية دون اعتماد كلي أو تراجع في مسارها، فبقيت ودودة مع محيطها تربط بينهما علاقات دافئة ومشاعر متبادلة تزداد لحمة في أوقات الشدة.
وخلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في عام 2011 ضد حكم عائلة الأسد كان محيط دمشق أكبر رافعة للثورة، لكنه دفع ثمنا باهظا على غرار ما تعرضت له المدن الناشطة على يد القوات الحكومية من عمليات قتل وتدمير ممنهجة.
لم تتصالح دمشق مع البعث منذ انقلابه في عام 1963، وأعلنت في عام 1965 عصيانا مدنيا داخل الجامع الأموي بدعوة من الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي كان حينئذ يقود صراعا مع الملاحدة حتى العظم، فقابلته سلطة البعث بكل قسوة، ودفعت المدرعات العسكرية لتقتحم حرم الجامع وترتكب مذبحة وتعتقل عشرات المدنيين.
تواصلت المذابح طوال عهد عائلة الأسد، لكنها ازدادت ضراوة أثناء حكم الأسد الابن، إذ لم ينجُ منها حتى الأطفال الذين خرجوا يهتفون للحرية بشكل عفوي وسلمي في الشوارع والساحات.
وفي مفارقة مؤلمة، يروي الشيخ علي الطنطاوي أنه شاهد أطفالا يتظاهرون ضد الاحتلال الفرنسي لدمشق "يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء فر من مدرسته وحقيبته لا تزال معلقة بعنقه، وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبي اللحام وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعا وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة أناشيد وطنية".
ويتابع "وقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب، لقد رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب ثم انفتح برجها وخرج منه شاب فرنسي يبتسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر، ويداعبهم ويقدم لهم قطعة من الشوكولاتة ثم يعود إلى مخبئه".
إعلانفي القروسطية -التي تبوأت صدارة المشهد في ظل حكم آل الأسد- لا مكان للرحمة، فقد دعم العنصر الوراثي للعائلة الحاكمة سلوكا جرميا خطيرا، لم يكن من الوارد بحسب مقاييس الحكم الرشيد أن ينتج رئيسا عصريا يعمل لمستقبل بلاده.
فتغير تاليا وجه دمشق التاريخي والجمالي، وأمعنت معاول السلطة بتحالفها مع الزبائنية في عمليات الهدم لتغيب الديمقراطية والحريات السياسية خلف قضبان السجون والمعتقلات، وتفقد المدينة معظم معالمها الطبيعية والتاريخية، إذ لم يعد بإمكان المرء الذي يقف على جبل قاسيون أن يرى على امتداد النظر غير كتل إسمنتية رمادية اللون ابتلعت مساحاتها الخضراء الواسعة، وطقوس شعوبية تقتص من تاريخها العربي المضيء على نحو مبرمج وصريح.