أوضحت دار الإفتاء المصرية، رأي الشرع في تتبع العورات وانتهاك الحرمات ونشرها، قائلة إن إقدام بعض الأفراد على اقتحام الحياة الخاصة للغير دون علمهم، وكشف الستر عنها بطرق مختلفة، مثل: تصويرهم بأدوات التقنية الحديثة، أو التلصص البصري، أو استراق السمع، أو غير ذلك من الطرق، ونشرها على منصات الإعلام الرقمي، أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو غير ذلك، يعدُّ تتبعًا للعورات الواجب سترها، وانتهاكًا للحُرُمات الواجب صونها، وفضحًا للمستورات الواجب حفظها.

وأضافت دار الإفتاء أن هذه كلها أفعالٌ مستقبحةٌ لدى العقلاء عُرفًا، ومحرمةٌ شرعًا، ومحظورةٌ قانونًا، وموجِبةٌ للإثم والعقوبة الرادعة، وعلى الإنسان أن ينأى بنفسه عن الوقوع في هذه المهلكات، أمانًا لنفسه، وصونًا لمجتمعه ووطنه.

التحذير من تتبع العورات وانتهاك الحرمات ونشرها وخطورة ذلك

إنَّ مواكبة التقدم العلمي والحضاري في جميع المجالات، والاستفادة من الوسائل التكنولوجية الحديثة في كل ما هو نافع ومفيد، هو من الأمور المحمودة التي ينبغي للمسلم الاستفادة منها بالشكل الذي يتفق مع ضوابط الشريعة الإسلامية، والتي نهت عن كلِّ ما يؤثر بالسلب على الفرد أو المجتمع، من التجسس على خصوصية الآخرين، أو تتبع عوراتهم، أو التلصّص عليهم بأي شكل من الأشكال، واستغلال شيء من ذلك بما يؤثر بالسلب على أمن المجتمعات، وتعكير السلامة النفسية لأفرادها، والنيل من قيمها الأخلاقية والتربوية.

والأفعال التي ورد السؤال بخصوصها تحصل في الغالب على مستويين:

الأول: الرصد والمتابعة، حيث يتمّ ذلك من خلال تعقب الإنسان وتتبعه للآخرين للوقوف على أقوالهم وأفعالهم وما يسترونه من أمورهم ويكرهون أن ينكشف أو يطلع عليه غيرهم دون إذنهم، سواء بالتقاط الصور الفوتوغرافية، أو تسجيل المقاطع المرئية، أو التسجيلات الصوتية، أو غير ذلك من الوسائل الحديثة التي يُساء استخدامها من قِبَل البعض.

والثاني: التشهير، ويكون ببث ما تمّ الحصول عليه من تلك التفاصيل، وما وقعت عليه الأنظار من عورات، إما بطريق المشافهة، أو عن طريق الهاتف، أو بالنشر على منصات الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، ممَّا يتسبب في إحداث الفتن، وإشاعة الأكاذيب في المجتمع.

وكل ذلك من الأمور التي نهى الشرع الشريف عنها:

أما تتبع عورات الناس وانتهاك حياتهم الخاصة والتلصّص على أحوالهم المستورة وتحسس أفعالهم: فكُلُّها سلوكيات ورد الشرع الشريف بتحريمها والتحذير من الإقدام على فعل شيء منها وإن قُصِدَ منها إنكار المنكر، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، أي: لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك، كما قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (10/ 257، ط. دار الكتب المصرية).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: 12]، أي: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، كما قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (22/ 304، ط. مؤسسة الرسالة).

وقد تَوَعَّدَ الله سبحانه من يتجسس ويتتبع عورة أخيه ليفضحه، بأن جعل عقوبته من جنس عمله، فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ» أخرجه الإمام أحمد -واللفظ له- وأبو يعلى والروياني والشهاب القضاعي في "المسند"، وأبو داود والبيهقي في "السنن".

قال الإمام التنوخي في "شرحه على متن الرسالة" (2/ 449، ط. دار الكتب العلمية): [ولا يسرق سماعًا، ولا يستنشق رائحة، يتوصل بذلك إلى المنكر، ولا يبحث عما أخفى في يده أو ثوبه أو دكانه أو داره، فإنَّ السعي في ذلك حرام] اهـ.

وقال الشيخ البكري الدمياطي في "إعانة الطالبين" (4/ 209، ط. دار الفكر): [واعلم أنه ليس بواجب على أحد أن يبحث عن المنكرات المستورة حتى ينكرها إذا رآها، بل ذلك محرم، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾] اهـ.

ولا شك أنَّ تلك السلوكيات: تؤدي -لا محالة- إلى هدم القيم المجتمعية والأخلاقية والحضارية، وقد أقامت الشريعة الإسلامية سياجًا مانعًا وقويًّا من الأحكام الشرعية والآداب المرعية للحيلولة دون حدوث شيءٍ من ذلك من خلال الحثّ على التحلي بجميل الصفات من القيم الأخلاقية والتعاليم التربوية الراقية، ونهت عن ارتكاب الأفعال التي تشتمل على معاني التجسس وسوء الظن والانسياق وراء الشائعات والأخبار المكذوبة التي تسبب هدم العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية، وتزيد في التباغض بين الناس، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات: 12]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» متفق عليه.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (10/ 481، ط. دار المعرفة): [قوله: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ وذلك أنَّ الشخص يقع له خاطرُ التهمة فيريد أن يتحقق، فيتجسس، ويبحث، ويستمع، فنهى عن ذلك، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾. فدلّ سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة، لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن. فإن قال الظَّانُّ: أبحثُ لأتحقق؟ قيل له: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾. فإن قال: تحققتُ من غير تجسس؟ قيل له: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾] اهـ.

اقرأ أيضاًدار الإفتاء: ترويج الشائعات وبث الفزع بين الناس محرم شرعا

ما حكم تمويل الخدمات بالتقسيط؟.. «الإفتاء» توضح رأي الشرع

هل يجوز قضاء الصلاة الفائتة في جماعة؟.. الإفتاء توضح رأي الشرع

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: دار الإفتاء المصرية مواقع التواصل الاجتماعي تتبع العورات وانتهاک ا تتبع ا ذلک من الله ع

إقرأ أيضاً:

حكم التصرف في العربون قبل تسليم المبيع.. الإفتاء توضح

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها وذلك عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما حكم التصرف في العربون قبل تسليم المبيع؟ فهناك رجلٌ يعمل في تجارة الأجهزة الكهربائية.

 واعتاد بعضُ الناس معاملتَه بدَفْع عربونٍ غير مُستَرَد عند شراء السلعةِ على ذمَّة إتمام البيع وسداد باقي الثمن، مع استلامِ مُستندٍ تِجَاريٍّ (فاتورةٍ) بذلك، فهل يجوز له التصرف فيما يقبضه منهم كعربونٍ على بعض السلع قبل إتمام البيع وتسليم تلك السِّلَع؟". 

لترد دار الإفتاء موضحة: أن العُربون المدفوع للبائع مِن قِبَل المشتري من حين إبرام عقد البيع بينهما تنتقل مِلكيته إلى البائع بمجرد استحقاقِه إياه وقبضِه من المشتري بأصل العقد المشتمل على شرط العُربون، سواءٌ أكان جزءًا مِن ثمن السلعةِ إذا تم البيع، أم مقابِلًا لعُدُول المشتري عن الشراء، ويجوز للبائِع التصرف في ذلك العُربون بكافة أنواع التصرف كسائر أملاكه.

دعاء شهر ذي القعدة.. ردده تغفر ذنوبك وتوفق للخيرعلي جمعة: المفتي الماجن أخطر من الجاهل الصريح لأنه يدعو إلى فتنة تفسد المجتمع كلهبيان المراد بالعربون ومحله من العقد

جَرَت سُنَّةُ الله في الناس أن البيع والتجارةَ مِن أعظم أبواب الرِّزق والاكتساب، وهي مشروعةٌ إذا ما رُوعِيَت أركانها وشروطها الشرعيَّة، ولم تتعارض مع المقاصد المرعيَّة، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].

و"العُرْبُون": لفظٌ معرَّبٌ، وقيل: إنَّه مشتَقٌّ مِن التعريب الذي هو البيان؛ لأنه بيانٌ للبيع، والواردُ عن العرب فيه ضَمُّ أوَّلِهِ، إلا أنَّ فَتْحَها مشهورٌ على ألسِنَة الناس، وهي لغةٌ عامِّيَّةٌ صَرَّح بعضُهم بمنعِهَا لغةً، كما في "تاج العروس" للعلامة المُرْتَضَى الزَّبِيدِي (3/ 350-351، ط. دار الهداية).

والمراد به في البيع: ما يُقدَّم دَفعُهُ مِن الأموال، على أنه إن أخذ المشتري السلعةَ احتُسِبَ مِن الثَّمَن، وإن لم يأخذها فهو للبائع، كما في "المغني" للإمام موفَّقِ الدِّين ابن قُدَامَة (4/ 175، ط. مكتبة القاهرة).

فالعُربون هو ما يكون مقترنًا بالعقد وليس متقدِّمًا عليه، أمَّا ما يدفعه أحد الناس لغيره قبل أن يتعاقدا على بيعٍ أو شراءٍ فلا يخرج عن حدود الأمانةِ المقرَّرِ صيانتُها وحِفظُها شرعًا لحقِّ صاحبها، ولا يجوز التصرف فيها حينئذٍ بحالٍ من الأحوال؛ إذ "(الأمانة) هي كلُّ حقٍّ لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ (إلى مَن ائتمنك) عليها"، كما قال الإمام زين الدين المُنَاوِي في "التيسير بشرح الجامع الصغير" (1/ 52، ط. مكتبة الإمام الشافعي).

الغرض من العربون وحكمه

الغَرَض من العُربون المُضمَّن في الصورة التعاقدية -محل السؤال- إمَّا حفظُ الحقِّ لكلٍّ مِن المتعاقدَين في العُدُولِ عن العَقدِ، وذلك بأن يَدفع مَنْ يُريد العُدُول قدرَ هذا العُربون للطَّرفِ الآخر، وإمَّا تأكيد العقد والبتُّ فيه عن طريق البدء في تنفيذه بدفع العُربون، كما أفاده العلامة عبد الرزاق السَّنْهُورِي في "مصادر الحق" (ص: 93، ط. معهد الدراسات العربية العالية).

وبيع العُربون على النَّحو المذكورِ جائزٌ شرعًا على ما ذهب إليه الحنابلة في المعتمد -خلافًا للإمام أبي الخَطَّاب الكَلْوَذَانِي-، وَهوَ مِن مُفرَدَاتِ المَذهَب دونًا عن المذاهب الثلاثة الأخرى، كما في "الإنصاف" للإمام علاء الدين المَرْدَاوِي (4/ 357-358، ط. دار إحياء التراث)، وممن أجازه مِن الصحابة الكرام وأمضاه: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وابنُه عبد الله رضي الله عنهما، وأجازه من التابعين: سعيد بن المُسَيِّب، ومحمد بن سِيرِين، ومجاهِد بن جَبْر، كما في "المصنف" للإمام ابن أبي شَيْبَة، وهو المختار للفتوى.

ودليلُه: ما ذكره الإمام البخاري في "صحيحه" معلَّقًا -ووصله الحافظ ابن حَجَرٍ العَسْقَلَانِي في "تغليق التعليق" (3/ 326، ط. المكتب الإسلامي) - قال: "وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَلَى أَنَّ عُمَرَ إِنْ رَضِيَ فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ".

فهو بيع عُربُونٍ تُوقِّفَ في إمضائه على إذنِ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصفته الحاكم وولي الأمر، وهو ما لم يَخْفَ عن مَرأى ومَسمَعِ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يَثبُت أنه أَنكَر عليه ذلك منهم أحدٌ.

قال الإمام موفق الدين ابن قُدَامَة في "المغني" (4/ 175): [العُربون في البيع.. قال أحمد: لا بأس به، وفَعَلَه عُمر رضي الله عنه، وعن ابن عُمر أنَّه أجازه، وقال ابن سيرين: لا بأس به، وقال سعيد بن المُسَيِّب وابن سِيرِين: لا بأس إذا كَرِهَ السلعةَ أن يرُدَّها يَرُد معها شيئًا، وقال أحمد: هذا في معناه، واختار أبو الخَطَّاب أنه لا يَصِح] اهـ.

موقف القانون المصري من بيع العربون

جواز بيع العُربون بالصورة المذكورةِ هو ما أخذ به القانون المدني المصري رقم 131 لسنة 1948م، وتعديلاته الصادرة في 16 يوليو لسنة 2011م، حيث نصَّت المادة رقم 103 منه على أن: [دفع العُربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكلٍّ مِن المتعاقدين الحق في العدول عنه، إلَّا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك] اهـ.

حكم التصرف في العربون قبل تسليم المبيع

عقد البيع مِن عقود المعاوضة، وهو ما "اجتمعتِ الأمة على كونه سببًا لإفادة المِلك"، كما قال حُجة الإسلام الغَزَالِي في "الوسيط" (3/ 3، ط. دار السلام)، واشتمال البيع على دفع العُربون مُؤْذِنٌ بأنه داخلٌ في مِلكِ البائع بطريق المعاوَضة السَّارية في طبيعة ذلك العقد؛ إذ "الالتزام بدفع قيمة العُربون المترتِّب في ذمَّة الطَّرف الذي عدل عن العقد ليس تعويضًا عن الضَّرَرِ الذي أصاب الطرف الآخَر مِن جرَّاء العُدول... والعُربون بدلٌ مستحقٌّ بالعقد"، كما قال العلامة عبد الرزاق السَّنْهُورِي في "مصادر الحق" (2/ 94-95).

ومِن ثَمَّ فما دام البائع قد تسلَّم المال مِن المشتري على سبيل العُربون المُضَمَّن في العقد فإنه بذلك يكون قد انتقل إلى مِلكِهِ؛ إذ استحقاق البائع للعُربون ثابتٌ بالعقد المشتَمِل على ذلك الشرط والمكتسِب صفةَ اللزوم وفقًا لِمَا تمَّ بينه وبين المشتري من تعاقُدٍ وتَرَاضٍ منهما على ذلك بإرادةٍ كاملةٍ.

والوفاء بالشروط حَتْمٌ لازمٌ؛ لقول الله تعالى في مُحْكَمِ التنزيل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، ولِمَا أخرجه الإمام الترمذي من حديث عمرو بن عَوْف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ.. الحديث».

كما أن بيع العربون وإن كان قريبًا مِن خيار الشرط من حيث إمكانية العدول عن الصفقة إلا أنه مختلفٌ عنه، فمَنْعُ البائع مِن التصرف في الثمن قبل لزوم العقد في حالةِ خيار الشرط عِلَّتُهُ بقاءُ شيءٍ مِن تعلُّقِ حقِّ المشتري بالثمن؛ "لِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَلَمْ تَنْقَطِعْ عَلَقُهُ عَنْهُ فَيَتَصَرَّف فِيهِ الْبَائِعُ"، كما قال الإمام أبو السعادات البُهُوتِي في "كشاف القناع" (3/ 241، ط. دار الكتب العلمية)، وهذه العِلَّة في التحريم غيرُ حاصلةٍ في مسألةِ العُربون؛ إذ يستحقه البائعُ بنفس العقد كما مَرَّ، وتنقطع عَلَقُه عنه بكلِّ حالٍ بمجرد التعاقد على دفع العربون وتسليمه للبائع، فلا يَستَرِدُّه إن عَدَلَ عن الشراء، على عكس خيار الشرط، وحيث انتفت عِلَّة مَنْع البائع مِن التصرُّف انتفى الحكم؛ لما هو مقرَّرٌ في الشرع الشريف أن "الحُكمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا"، كما قال الإمام شمس الدين الزَّرْكَشِي في "شرح مختصر الإمام الخِرَقِي" (3/ 504، ط. مكتبة العبيكان).

ولَمَّا ثبتت المِلكيَّة للبائع فمعلومٌ أن مقتضاها وفقًا للقواعد العامة في الشريعة الإسلامية هو حرية التصرف المشروع في الشيء المملوك، فمَن مَلَك شيئًا أُبِيحَ له التَّصرُّف فيه من غير شرطٍ ولا قيدٍ.

قال الإمام شهاب الدين القَرَافِي في "الفروق" (3/ 216، ط. عالم الكتب): [المِلك: إباحةٌ شرعيَّةٌ في عينٍ أو منفعةٍ تقتضي تمكُّن صاحبها مِن الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العِوَض عنهما] اهـ.

وقال العلامة محمد قَدْرِي باشا في "مُرشِد الحيران" (ص: 4، ط. الأميرية): [(مادة 11) المِلك التام مِن شأنه أن يَتصرَّف به المالكُ تصرُّفًا مُطلَقًا فيما يَملِكُه عَينًا ومَنفعة واستغلالًا، فينتفع بالعين المملوكة وبِغَلَّتِها وثمارها ونِتَاجِها، ويَتصرَّف في عينها بجميع التصرفات الجائزة] اهـ. فيحقُّ للبائع التَّصرُّف في العربون من حين قبضِهِ له كسائر أملاكه.

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالعُربون المدفوع للبائع مِن قِبَل المشتري من حين إبرام عقد البيع بينهما تنتقل مِلكيته إلى البائع بمجرد استحقاقِه إياه وقبضِه من المشتري بأصل العقد المشتمل على شرط العُربون، سواءٌ أكان جزءًا مِن ثمن السلعةِ إذا تم البيع، أم مقابِلًا لعُدُول المشتري عن الشراء، ويجوز للبائِع التصرف في ذلك العُربون بكافة أنواع التصرف كسائر أملاكه.

طباعة شارك حكم التصرف في العربون قبل تسليم المبيع الإفتاء العربون

مقالات مشابهة

  • هل الحلف بالمصحف حرام شرعا؟.. الإفتاء تكشف
  • تسجيل صوتي مسيء لمقام النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يُفجّر اشتباكات مسلحة بـ”جرمانا” السورية
  • حكم التصرف في العربون قبل تسليم المبيع.. الإفتاء توضح
  • حكم حج المرأة بدون محرم .. دار الإفتاء تجيب
  • حكم ترك البسملة في الفاتحة أثناء الصلاة.. الإفتاء تكشف
  • دعاء زوال الفقر وقلة الرزق.. احفظه وداوم عليه يوميا
  • هاني تمام: الإسراف في المياه أثناء الوضوء وغسل السيارات حرام
  • هل شراء شقة بالتقسيط عن طريق البنك حرام شرعًا؟.. الإفتاء ترد
  • الإفتاء تستطلع هلال شهر ذي القعدة غدًا
  • حكم قضاء الصلاة الفائتة .. دار الإفتاء توضح