ترجمة: قاسم مكي

قبل عشرة أعوام عندما تعرَّض سكان فلينت بولاية مشيجان الأمريكية إلى مستويات سامَّة من مادة الرصاص في مياه الشرب وُجِدت كميات مرتفعة منه في الدم عند طفل واحد من بين كل 20 طفلا في المدينة. هذه المستويات العالية من الرصاص جعلت الأطفال عرضة للإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية والعجز الإدراكي وتأخر النمو.

وهذه آثار صحية يواجهها السكان إلى يومنا هذا.

فقط بعدما شمَّر الناشطون عن سواعدهم وشنوا حملة لا هوادة فيها اتجهت الأنظار إلى المدينة وخصص المسؤولون ما يقرب من نصف بليون دولار لتنقية الماء.

اليوم هنالك أزمة تسمم بالرصاص مستفحلة على نطاق أوسع بكثير ولا يكاد يتحدث عنها أحد. ففي بلدان الدخل المتوسط والمنخفض والتي بها 1.5 بليون طفل من أطفال العالم توجد مستويات مرتفعة من الرصاص في دم طفل واحد بين كل طفلين. وهذا المعدّل يساوي عشرة أضعاف معدل التسمم في ذروة أزمة مدينة فلنت.

يقدِّر مركز التنمية العالمية أن الضرر الذي يسببه الرصاص لأدمغة الأطفال مسؤول عن نسبة 20% من الفجوة التعليمية بين بلدان الدخل المرتفع والدخل المنخفض. ووفقا للتقديرات، في كل عام التسمم بالرصاص يكلف الاقتصاد العالمي أكثر من تريليون دولار ويودي بحياة 1.5 مليون شخص على الأقل أو ما يزيد عن الوفيات السنوية من الأيدز والملاريا معا.

مع ذلك يبلغ إجمالي التمويل العالمي السنوي لمعالجة التسمم بالرصاص في البدان النامية 15 مليون دولار فقط. وهذا المبلغ يساوي تكلفة إعلان واحد لمدة 60 ثانية في مباراة البطولة السنوية لكرة القدم الأمريكية (سوبر بول) ولا يشكل سوى جزء ضئيل من الأموال التي تنفق على أمراض أخرى تترتب عنها أعباء صحية مماثلة.

اليوم تتعاون الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية واليونيسيف ومنظمة الأعمال الخيرية المفتوحة «أوبن فيلانثروبي» لتغيير ذلك. نحن معا ندشِّن شراكة مع أكثر من 50 بلدا ومنظمة من أجل مستقبل خالٍ من الرصاص لكل طفل. لقد جمعنا ما يزيد عن 150 مليون دولار أو أكثر من عشرة أضعاف الاستثمار العالمي السنوي الحالي في هذا المجال.

وباعتبار أحدنا مدير أكبر وكالة للتنمية في العالم والآخر رئيس واحدة من أكبر الهيئات الخيرية في العالم لم نشهد أبدا في حياتنا مثل هذه الفرصة القليلة التكلفة والمقنعة للتأثير بقدر هائل على أحد أكبر أسباب الوفيات في العالم.

من بين أسباب شح التمويل الافتراض بأن التصدي لمشكلة التسمم بالرصاص يتطلب استثمارات ضخمة في إصلاح البنية التحتية وفي عمليات تطهير بيئي باهظة التكلفة كما في الولايات المتحدة. فقد خصص الرئيس جو بايدن 15 بليون دولار لاستبدال أنابيب المياه المصنوعة من الرصاص (أو تحتوي على رصاص) وهي مصدر مهم للتعرض إلى التسمم هناك.

لكن الرصاص في العديد من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل ليس فقط مشكلة قديمة بل لا يزال قيد الاستخدام في منتجات استهلاكية متاحة على نطاق واسع مثل طلاء (دهان) المنازل والبهارات (التوابل) ومستحضرات التجميل. ومعالجة هذه المصادر لا يتطلب بلايين الدولارات.

مثلا في الفترة من 2019 إلى 2021 أزالت بنجلاديش الرصاص من كل إنتاجها من الكركم تقريبا بتكلفة لا تتعدي مليوني دولار. فعلت ذلك بوسائل منها إلصاق نشرات إعلانية في الأسواق توضح للمواطنين لون الكركم الذي يضاف إليه الرصاص وهذا يمكِّنهم من طلب كركم أفضل.

أيضا خلال سنتين وبمبلغ لا يتعدى 300 ألف دولار فقط من مانحين قادت دولة مالاوي حملة للشروع في تطبيق قانون يحظر الطلاء الذي يحتوي على الرصاص وحفز الزبائن للاتصال بالجهات المصنِّعة وضغطها للكفِّ استخدامه في منتجاتها. والآن نصف سوق الطلاء المرتكز على مادة الرصاص خالية منه. وتعهدت الشركات المتبقية بالتخلص من الرصاص بنهاية هذا العام. وخلال ثمانية أشهر فقط منذ بدأنا جهودا منسَّقة لرفع الوعي وأيضا مستوى الدعم لهذه القضية العالمية تعهدت ستة بلدان بالعمل على تنظيم استخدام الرصاص في الطلاء لأول مرة.

هنالك مصدر آخر للرصاص وهو نتيجة لممارسات صناعية غير آمنة أثناء إعادة تدوير البطاريات والتعدين والتخلص من النفايات الإلكترونية والتي تُسرِّب الرصاص في البيئة.

معالجة هذه الممارسات يمكن أن تكون أكثر تكلفة. لكن بصرف النظر عن مصدر التلوث يمكن أن تتبع جهودنا نفس الاستراتيجية الموثوقة والتي استخدمت في بلدان الاقتصادات المتقدمة لمكافحة التسمم بالرصاص وهي القياس (قياس مستوى التعرض للرصاص) والتنظيم (تنظيم استخدامات الرصاص) والإحلال وتطبيق الإجراءات.

أنجع مثال لتلك الاستراتيجية حملة التخلص من الرصاص في البنزين والذي كان منذ فترة طويلة أكبر مصدر للتسمم بالرصاص في العالم. فبعد أن عزت دراسات في سنوات السبعينات مستويات الرصاص المرتفعة في الدم إلى البنزين الذي يحتوي على الرصاص بدأت الحكومات في بلدان الدخل المرتفع استحداث وتطبيق إجراءات تنظيمية لحظره ودفعت بالشركات لإيجاد بدائل خالية من الرصاص لمنتجاتها.

في عام 2002 ساعدت حملة قادتها الأمم المتحدة بلدان الدخل المتوسط والمنخفض على القيام بنفس الشيء. لعبت هذه المبادرة والتي نفذت بموازنة متواضعة بلغت 6 ملايين دولار دورا حاسما في التخلص التدريجي من البنزين الذي يحتوي على الرصاص في 50 بلدا تقريبا خلال العقد التالي. وبحلول عام 2021 حظره كل بلد على ظهر الكوكب وشكل ذلك انتصارا بارزا للصحة العامة ينقذ الآن حياة أكثر من مليون شخص في كل عام.

ستعمل الشراكة على التوسع في تطبيق نفس هذه الاستراتيجية الفعالة التي استخدمت في التخلص من البنزين المعالج بالرصاص. ونظرا إلى أن مجتمعات كثيرة ليست لديها فكرة حول مدى الضرر الذي يتسبب فيه الرصاص كل يوم ولا تعرف حكومات عديدة حجم أو مصدر مشكلة التسمم بالرصاص في بلادها سنركز أولا على إجراء مسوحات وطنية للدم وفحص المنتجات الاستهلاكية لتحديد مصادر التسمم الرصاصي. بعد ذلك سنعمل مع الحكومات المفتقرة إلى النظم الإجرائية التي تحتاجها للشروع في معالجة هذه المشكلة. ففي 50 بلدا من جملة 81 دولة بها مكاتب للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لا توجد لوائح إجرائية تحظر الطلاء الذي يحتوي على الرصاص.

سنزود هذه الحكومات بوسائل مثلا بقوانين نموذجية لمساعدتها في صياغة إجراءات تنظيمية فعالة وأيضا بِنْيَة تحتية للمختبرات لمساعدتها في رصد الانتهاكات حتى تتمكن من تطبيق القانون. وبالنظر الى توافر بدائل سبق تطويرها للمنتجات المرتكزة على مادة الرصاص سندعم القطاع الخاص في التحول إلى هذه البدائل بالتوسط لربطه بالمورِّدين والخبراء.

أمام المشاكل العويصة والعديدة التي تطغى على عناوين الأخبار يمكن أحيانا الشعور بعدم جدوى محاولة إحداث فرق في هذا العام. لكن يجب ألا يكون ذلك كذلك عندما يتعلق الأمر بالرصاص. ففي مدينة فلنت وفي بنغلاديش ومالاوي كان تحرك الآباء والأمهات والجيران والأصدقاء هو الذي وجَّه الاهتمام الوطني والتمويل نحو جهود التقليل من استخدامات الرصاص وحثَّ الحكومات والشركات على التحرك. يمكن لكل أحد منا المساهمة في بناء حركة عالمية للقيام بذلك حول العالم.

الكاتبان سامانثا باور مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية

اليكساندر بيرجر الرئيس التنفيذي لمنظمة أوبن فيلانثروبي

عن واشنطن بوست

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التسمم بالرصاص الرصاص فی من الرصاص فی العالم أکثر من

إقرأ أيضاً:

تحذيرات من تزايد انتشار قصر النظر لدى الأطفال حول العالم

يعاني حوالي واحد من كل ثلاثة مراهقين في العالم من قصر النظر ويتوقع أن يرتفع عدد الأطفال والشباب الذين يعانون من قصر النظر بحلول عام 2050 إلى أكثر من 740 مليوناً، وفق ما ذكره فريق من الباحثين الصينيين، نقلاً عن مجلة "دير شبيغل" الألمانية. وهو ما يتوافق مع حوالي 40 بالمائة من المراهقين الذين تبلغ أعمارهم خمس سنوات أو أكثر في جميع أنحاء العالم.

قام فريق الباحثين الذي يقوده ياجون تشن من جامعة سون يات سن في قوانغتشو بتقييم دراسات وتقارير حكومية من 50 دولة حول العالم. هذه الدراسات والتقارير تضمنت بيانات حوالي خمسة ملايين طفل وشاب تتراوح أعمارهم بين 5 و19 عامًا، منهم أكثر من 1.9 مليون يعانون من قصر النظر.

اختلاف بين الجنسين
يبدأ قصر النظر عادةً في مرحلة الطفولة. لكن على الرغم من أن السبب قد يكون الاستعداد الوراثي للفرد، إلا أن الباحثين يلقون باللوم على التغيرات السلوكية مثل قضاء وقت أطول داخل الفضاءات المغلقة وأمام الشاشات واعتبارها السبب الرئيسي للزيادة القوية التي تم تسجيلها على مر السنين.

ووفق الباحثين، فإن معدل انتشار قصر النظر قد زاد بشكل حاد بين عامي 1990 و2023. كما أن هناك أيضاً اختلاف بين الجنسين. إذ تتأثر الفتيات أكثر من الفتيان، والسبب يعود إلى أن الفئة الأولى تميل إلى قضاء وقت أقل في الهواء الطلق ووقت أطول بالأنشطة التي تحتاج إلى التركيز عليها عن قرب.

ويحذر الباحثون من إن قصر النظر قد يصبح "عبئا صحياً عالمياً" في المستقبل. ويتوقعون زيادة أعلى في البلدان ذات الدخل المنخفض إلى المتوسط مقارنة بالبلدان ذات الدخل المرتفع.

مقالات مشابهة

  • تحذيرات من تزايد انتشار قصر النظر لدى الأطفال حول العالم
  • الأمم المتحدة تخصص 10 ملايين دولار لتقديم مساعدات إنسانية طارئة للبنان
  • الأمم المتحدة: 10 ملايين دولار لتقديم مساعدات إنسانية طارئة للبنان
  • بغداد.. عشرات حالات التسمم بسبب صاج بـ3 آلاف
  • لتجنب ملايين الوفيات.. تعهد عالمي بالعمل لمقاومة مضادات الميكروبات
  • حجار: مليون دولار للنازحين و3 ملايين دولار للعائلات الأكثر فقراً
  • بري: نتنياهو يكذب ولا يمكننا التخلي عن غزة
  • صندوق النقد الدولي يوافق على تسهيل ائتماني لليبيريا بـ 210 ملايين دولار أمريكي لمدة 40 شهرًا
  • القائد القدوة