لجريدة عمان:
2024-12-26@09:30:49 GMT

أبو حيان التوحيدي رفيقي وصديقي!

تاريخ النشر: 28th, September 2024 GMT

أبو حيان التوحيدي رفيقي وصديقي!

(1)

ما يقرب من ربع القرن وأنا أحظى بصداقته ورفقة كلامه وآنس بكتبه ومؤلفاته! نعم أحببت أعاظم كتاب النثر العربي وقرأت كتبهم ومؤلفاتهم وتتبعتهم من عبد الله بن المقفع وعبد الحميد الكاتب وحتى ابن خلدون في القرن الثامن الهجري، ومن بعده كتاب التاريخ والحوليات والسير والتراجم وصولا إلى الجبرتي!

لكن يظل أبو حيان التوحيدي عندي هو بحق "فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ولكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء" كما وصفه ببراعة واقتدار وحنكة ياقوت الحموي في «معجم البلدان».

ولأنني أعاود هذه الأيام قراءة بعض من مؤلفاته وكتبه التي لا نظير لها في التراث العربي، وأتوقف عند بعضها وقفاتٍ طوالا متأنيا ومتأملا ومجتليا العديد من "الدلالات" و"التأويلات" فيما يخص هذا المثقف المهمش المغترب، ويراه آخرون أنه كان المثقف "المحاصر المأزوم" بنكهة وجودية، فقد جادت علي الذاكرة بفيضها وأعادتني إلى اللحظات التي انعقدت فيها أواصر المحبة والصداقة بيني وبين "التوحيدي" في تسعينيات القرن الماضي.. مدين أنا لجمال الغيطاني حقيقة، ومدين أنا كذلك لأستاذي الراحل الجليل جابر عصفور، عليه رحمة الله.

(2)

في عام 1995 أقام المجلس الأعلى للثقافة في مصر احتفالية ضخمة بمناسبة مرور ألف عام على وفاة الكاتب الأديب والمتصوف المتفلسف والحائر المغترب أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ)؛ صاحب المصنفات والكتب الشاهدة بقدر علمه ووافر اطلاعه وغزير ثقافته وتشعب معارفه، وصاحب الأسلوب الذي يكاد يكون ذروة ما وصل إليه النثر العربي الفني في القرن الرابع الهجري.

قبل هذا الاحتفال الثقافي الكبير، لم أكن أعرف عن أبي حيان التوحيدي سوى أنه مؤلف كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أحد أشهر كتب التراث العربي؛ في الأدب واللغة والفلسفة والمنطق والتاريخ، وبالجملة فيما كان رائجًا من علوم عصره "النقلية"، و"العقلية" التي كانت سائدة آنذاك في القرن الرابع الهجري.

أذكر جيدًا أن اهتمامًا غير مسبوق بالتوحيدي خلال هذه السنة (1995)، والسنوات التالية أثمر عن نشاط واسع في الكتابة عنه، وإعادة نشر أعماله، وإصدار طبعات جديدة ومتعددة منها؛ وأصبحتُ إزاء مشهد غاية في التنوع حول "التوحيدي"؛ فمن كتب عنه من جهة نثره وبيانه، ومن كتب عنه من جهة حيرته واغترابه، وألمه ومراره، وبؤسه وشقائه، ومن كتب عن تصوفه ومواجده و"إشاراته"، ومن تصدى لإثبات زندقته وإلحاده!

وهناك من كتب عنه باعتباره نموذجًا مثاليًّا لحالة المثقف العربي "المتمرد" في القرن الرابع الهجري...

وهناك من استوقفه حاله وسيرته وتتبع مسار حياته ووفاته.. ووثق أعماله ورسائله ومخطوطاته.. إلخ.

ولعل هذا النشاط المحمود كله، كان سببًا رئيسيا في الإقبال على قراءة أعمال التوحيدي، وقراءة الكثير والكثير مما كتب عنه؛ باعتباره حلقة محورية من حلقات اتصال تراثنا الفكري والثقافي في القرون الخمسة الأولى من الهجرة.

(3)

وكان من أجلّ ثمار هذا النشاط المحموم المحمود؛ كتاب عظيم رائع اسمه «خلاصة التوحيدي»، عبارة عن مختارات من نثر التوحيدي (سأعرض نماذج منها سريعًا)، جمعها بذائقته الممتازة الرفيعة واختياراته البديعة المثقف الراحل الكبير جمال الغيطاني (وكان من كبار قراء التراث والمطلعين على دقائقه وكنوزه والعارفين بحدوده وتفاصيله). اسمع بقلبك واقرأ بعينيك هذه السطور:

- "يا هذا: الحديث ذو شجون، والقلب طافح بسوء الظنون". (الإشارات الإلهية)

- "فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حُمُر أو نَعَم؟ إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن الشفاء فيها؟.." (الإشارات الإلهية)

"فإني أجد الإنسانَ ونفسَه كجارين متلاصقين، يتلاقيان فيتحدثان، ويجتمعان فيتحاضران".. (المقابسات)

- "والله يا رفيقي وشريك زادي، لقد صحبت الليالي ستين عامًا مُذْ عقلت، فما غدرني إلا من استوفيتُه، ولا كدّر عليَّ إلا من استصفيتُه، ولا أمرَّ لي إلا من استحليتُه، ولا أهمل أمري إلا من استرعيتُه، ولا قذِيَتْ عيني إلا بمن جعلتُه ناظرها، ولا انحنى ظهري إلا بمن نصبتُه عمادَه، ولا نجمتْ لي نجاةٌ إلا من حيث لم أحتسب، ولا سبقتْ إليَّ مسرّةٌ إلا ممن لم أكتسب".. (الإشارات الإلهية)

- ويقول أبو حيان التوحيدي:

«وحين يبلغ العجز آخره، ويستغرق اليأس ظاهره وباطنه.. أي رأي لمكذوب؟ أم أي عيش لمكروب، أم أي قرار لمرعوب؟.. إرادة مشوبة.. وعلامات متهمة، وطمأنينة قلقة».. (الإشارات الإلهية)

- وفي رواية عن أبي حيان التوحيدي، في كتابه «الصداقة والصديق»، أنه لا يكون الصديق صديقا إلا إذا وصلت به حال صداقته لأن يقول له "يا أنا".. (الصداقة والصديق)

وكانت النماذج التي قرأتها في هذه "الخلاصة" كافية تمامًا كي أقبل على قراءة نصوص التوحيدي الزاخرة بشغف وفضول كبيرين.. وبدأت هذه الرحلة بالخلاصة ولما تنته حتى وقتنا هذا!

(4)

لماذا أحببتُ التوحيدي؟ ولماذا رافقت نصوصه وصادقته على بعد العهد وتجاوز العقود وتباعد القرون؟

أولًا: أنت بإزاء شخصية شديدة التركيب والتعقيد على المستوى النفسي؛ جسدت تناقضات عصرها وتشابكاته والتباساته بامتياز؛ يقولون عن أبي حيان التوحيدي إنه نموذج للمثقف "الإشكالي" في القرن الرابع الهجري؛ بمعنى إدراكه العميق لكل التفاوتات الطبقية "في الوعي، وفي المعرفة بين شرائح الطبقات المثقفة الثرية في مجتمع المدينة الإسلامية الناهضة (بغداد) ومن هم في دائرة السلطة والجاه والنفوذ وبين الطبقات الدنيا والفقيرة بل المسحوقة؛ فيما اشتهر بمصطلح "المهمشين".

ثانيا: كان نثر أبي حيان التوحيدي بما وصل إليه من ذروة لم يسبقه إليها (ربما سوى الجاحظ) ولم يلحقه في الفضل بعده أحد، مجسدا لما بلغته اللغة العربية في زمنه من تطور مذهل استوعب كل مستجدات العصر "الذهبي" من انفتاح على العلوم العقلية والتجريدات الذهنية والترجمات وعلوم المنطق والفلسفة والجدل العقلي؛ وصار السؤال شعار العصر؛

وكان "التوحيدي" أحد أكبر طارحي وصائغي الأسئلة الوجودية والمعرفية في عصره، وكانت كتابته في زمنه كتابة تمرد وجنوح وخروج عن مألوف الكلام ومكرور القول؛ إنها كتابة تتأمل ذاتها بقدر ما تتأمل غيرها، وتطرح السؤال تلو السؤال، مثيرة من عواصف الشك وزوابع المسائلة بما يزعزع أركان اليقين المعرفي والوجودي معا؛ كتابة يصفها جابر عصفور بقدرٍ كبير من التطابق مع ما وصفها به صاحبها ذاته "التوحيدي"؛ بحروفه وألفاظه، وتعبيراته وتراكيبه:

"كان هذا النوع من الكتابة ينطوي على وعيه الذاتي، حيث الكلام يصف الكلام، واللغة تضع نفسها موضع المساءلة، والكتابة نفسها لا تكفّ عن تغيرها الذي هو نقض لكل عناصر الثبات. إنها الكتابة التي تأخذ من التصريح ما يكون بيانًا في التعريض، وتحصل من التعريض ما يكون زيادة في التصريح، وتستيقن أنه لا حرف ولا كلمة، ولا سمة أو علامة، ولا اسم أو رسم، إلا وفي مضمونه آية تدل على سرٍّ مطوي وعلانية منشورة. كتابة تعلو على ما جرَت به العادة، وتعرف أسرار الإيماء الذي يلطف عن الوهم، ويستغيث من الشكل والضد، ما يمتلئ به القارئ نورًا، ويتقد بحره نارًا، ويتعلم كيف تفارق المدركات سماتها القائـمة عليها، وتعاند صفاتها الثابتة بها، وتلج الكتابة الطرق الوعرة، معتسفة مضايقها، لتخرج من ظلمة التصديق إلى النور الذي يضيء بالسؤال، والسؤال الذي لا يسقط، قط، دون الغرض المعتمد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کتب عنه کتب عن من کتب إلا من

إقرأ أيضاً:

جنود مصريون في القرن الإفريقي.. ما أسباب مشاركة القاهرة في بعثة حفظ السلام في الصومال؟

أعلن وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي أمس الإثنين، أن بلاده سترسل إلى الصومال جنودا للمشاركة في قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي. وقد تعززت العلاقات بين مصر وهذا البلد بعد أن انتقدت القاهرة اتفاقا بين أديس أبابا وأرض الصومال يقضي ببناء ميناء لإثيوبيا في الجمهورية الانفصالية.

اعلان

وخلال مؤتمر صحفي في القاهرة، وقال الوزير عبد العاطي لنظيره الصومالي أحمد معلم فقي: " إن قرار مصر المشاركة في البعثة، يأتي بناء على طلب الحكومة الصومالية، وبناء على ترحيب أيضا مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي."

وبهذا فإن القاهرة ستشارك في بعثة حفظ السلام الإفريقية المعروفة باسم أوسوم والتي ستحلّ محل قوة لمكافحة الإرهاب المرتقب انتهاءُ مهمتها نهاية هذه السنة.

وأضاف وزير الخارجية المصري أنه تحدث إلى الوزير فقي "عن الأوضاع في الصومال والدعم المصري لفرض سلطات الدولة وسيادتها على كامل التراب الصومالي، والرفض الكامل لأي إجراءات أحادية الجانب تمس بوحدة وسلامة وسيادة الصومال الشقيق".

وقد تكون ثمة علاقة بين مشاركة مصر في بعثة حفظ السلام الإفريقية وبين ملفات إقليمية أخرى تعتبر القاهرة طرفا فيها. إذ اندلع نزاع بين إثيوبيا والصومال هذا العام بسبب خطة أديس أبابا بناء ميناء في جمهورية أرض الصومال الانفصالية.

ولم تمرّ هذه الخطوة مرور الكرام إذ رآها البعض محاولة من شأنها أن تفاقم من حالة عدم الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي. وبعد محادثات توسطت فيها تركيا، قالت الصومال وإثيوبيا إنهما ستعملان معا لحل القضية.

Relatedدراسة تكشف سرًا عمره 5700 عام.. ما السبب وراء تقويم قرون الأغنام في مصر القديمة؟آيتان على سقف قصر السيسي ومُلْك فرعون الذي لا يفنى.. صورة الرئيس المصري تشعل مواقع التواصلفضيحة مصرفية تهز أكبر بنك في اليابان.. موظفة تسرق 6.6 مليون دولار من ودائع العملاء

وقبل أشهر، أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي موقف مصر الثابت بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للصومال أو المساس بوحدة أراضيها. وأضاف أن "أي محاولة للسيطرة على أراضٍ بالقوة لن تلقى قبولًا".

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك في القاهرة 25 تشرين الأول أكتوبر 2023Christophe Ena/AP

ووقع البلدان اتفاقية أمنية سلمت بعدها مصر إلى الصومال أسلحة وذخائر منها مدافع مضادة للطائرات ومدفعية. وقد أكدت الخبر مصادر دبلوماسية صومالية. وكانت تلك المرة الأولى التي تقدم فيها القاهرة مساعدات من هذا النوع منذ أكثر من أربعة عقود.

Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية اكتشاف أثري في مصر: لوحة عمرها 3000 عام تظهر امرأة تشبه "مارج سيمبسون" وول ستريت جورنال: مقترح مصري جديد لوقف النار في غزة يشمل تبادل الأسرى وتدفق المساعدات إلى غزة محكمة العدل الأوروبية تؤيّد غرامة ضد بنك HSBC في قضية التلاعب المصرفي حفظ السلامإثيوبياسد النهضة الإثيوبي الكبيرنهر النيلالصومالمصراعلاناخترنا لك يعرض الآن Next عاجل. الحرب في يومها الـ445: الأونروا تؤكد مقتل طفل كل ساعة في غزة وانسحاب بطيء لإسرائيل من جنوب لبنان يعرض الآن Next ترامب والصحة العالمية كلاكيت ثاني مرة.. الرئيس المقبل ينوي الانسحاب من المنظمة فهل يفعلها مجددا؟ يعرض الآن Next طلاق أسماء الأسد.. رحل بشار عن سوريا فهل ترحل عنه زوجته؟ يعرض الآن Next وول مارت تبيع قمصانا عليها صورة السنوار وإسرائيل تستشيط غضبا يعرض الآن Next 12 قتيلًا على الأقل بإنفجار في مصنع للمتفجرات شمال غرب تركيا اعلانالاكثر قراءة بعد ثلاثة أيام.. العثور على ركاب الطائرة المفقودة في كامتشاتكا أحياء مارس الجنس مع 400 من زوجات كبار الشخصيات أمام الكاميرا.. فضيحة مسؤول كيني يعتقد أنه مصاب بمرض الإيدز هل بدأ انتقام إسرائيل من أردوغان وهل أصبحت تركيا الهدف المقبل للدولة العبرية؟ فلتذهبوا إلى الجحيم! اللعنة كلهم يشبه بعضه! هكذا تعاملت ممرضة روسية مع جندي جريح من كوريا الشمالية بحضور الوزير فيدان.. الشرع يعد بنزع سلاح كل الفصائل بما فيها قسد وإسرائيل قلقة من تحرك عسكري تركي اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليومعيد الميلادبشار الأسدإسرائيلالصراع الإسرائيلي الفلسطيني سورياضحايادونالد ترامبشرطةأوروباروسياأبو محمد الجولاني هيئة تحرير الشام الموضوعاتأوروباالعالمالأعمالGreenNextالصحةالسفرالثقافةفيديوبرامجخدماتمباشرنشرة الأخبارالطقسآخر الأخبارتابعوناتطبيقاتتطبيقات التواصلWidgets & ServicesAfricanewsعرض المزيدAbout EuronewsCommercial ServicesTerms and ConditionsCookie Policyسياسة الخصوصيةContactPress officeWork at Euronewsتعديل خيارات ملفات الارتباطتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2024

مقالات مشابهة

  • 24 ساعة فارقة في القرن الأفريقي.. آبي أحمد يجهض إعلان أنقرة بشن هجوم على الصومال
  • علماء يحذرون من ثوران بركاني هائل قد يفاجئ العالم قريبًا
  • اللجنة العليا تناقش سير الإستعدادات لموسم الحج للعام الهجري 1445هـ
  • ليس اختراعا أميركيا.. رحلة تطور الكاتشاب عبر قرون
  • جنود مصريون في القرن الإفريقي.. ما أسباب مشاركة القاهرة في بعثة حفظ السلام في الصومال؟
  • مسؤول بالكونغرس .. ترامب قد ينفذ صفقة القرن للسيطرة على تيك توك
  • شواطئ.. لماذا تتحارب الأمم؟ (1)
  • مسؤول بالكونغرس: ترامب قد ينفذ صفقة القرن للسيطرة على تيك توك
  • عمره 500 عام.. اكتشاف أول قبقاب من خشب البتولا في هولندا
  • مصر والصومال تبحثان الأوضاع في القرن الأفريقي