شدد تقرير نشره موقع "نيوز ري" الروسي على أن وصف الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لروسيا، التي كانت تعتبر حليفة لموسكو، بـ"المعتدية يثير العديد من التساؤلات، سيما أنه جاء ضمن لقاءات أجراها الأخير خلال لقاءاته مع قادة بعض الدول الغربية.

وقال الموقع، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إنه ظهرت معلومات حول بدء موسكو محادثات مع الحوثيين بوساطة طهران تهدف إلى تزويدهم بصواريخ بعيدة المدى.

لكن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الرئيس الإيراني أمام القادة الغربيين تثير العديد من التساؤلات.

وخلال كلمته في نيويورك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بفتح صفحة جديدة في السياسة الخارجية لبلاده قائلا: "أسعى لوضع أساس متين لبدء حقبة جديدة لبلادي من خلال وضعها في موقع يمكّنها من لعب دور فعال وبنّاء في النظام العالمي المتغير".

وعلى هامش جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 أيلول/ سبتمبر، عقد بزشكيان لقاء مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون وصفه بأنه "إيجابي".


ومن المقرر أن يجتمع الرئيس الإيراني مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي لطرح موضوع استئناف "الاتفاق النووي"، الذي كان قد أبرِم سابقا بين طهران والدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين وروسيا، حسب التقرير.

وذكر الموقع أن الرئيس الإيراني الجديد، بهذا التصريح يكون قد شرع في تنفيذ وعوده التي قدمها علنا قبل انتخابه الصيف الماضي، التي تشمل تحسين العلاقات مع الغرب بهدف تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على الجمهورية الإسلامية.

وفقًا لبيان قصر الإليزيه، قال الرئيس الفرنسي إن طهران يمكنها استخدام نفوذها لتخفيف حدة التوترات في الشرق الأوسط، خاصة من خلال التأثير على "الجهات المزعزعة للاستقرار".

ويمكن، حسب التقرير، تفسير هذا التصريح كإشارة واضحة إلى المقاتلين التابعين لحركة "حزب الله" اللبنانية. وقد دعا ماكرون إيران إلى التخلي عن الدعم الذي تقدمه لروسيا في النزاع الأوكراني والتوقف عن تزويدها بالأسلحة، وذلك حسب ما نقلته وكالة "تاس".

وأضاف الموقعـ أن رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل التقى يوم الأربعاء بوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وناقش اللقاء الصراع في الشرق الأوسط والتعاون بين طهران وموسكو. وخلال المحادثات، جدد جوزيب بوريل الاتهام الموجه لإيران ببيع صواريخ بعيدة المدى لروسيا.

وحسب ما نقلته صحيفة "كوميرسانت" الروسية، قال بوريل: "يعتبر الاتحاد الأوروبي تسليم مثل هذه الأسلحة تهديدًا مباشرًا لأمن أوروبا. ويعد هذا تصعيدًا كبيرًا بالنظر إلى عمليات التسليم السابقة للطائرات الإيرانية المسيرة والذخائر إلى روسيا"، مع العلم أن الجانبين الروسي والإيراني نفيا في السابق وجود أي إمدادات عسكرية من هذا النوع.

وأوضح الموقع، أن الرئيس الإيراني أدلى كذلك بتصريحات هامة حول النزاع الأوكراني متحدثًا بلغة حادة وقاطعة. ووفقًا لما نقلته صحيفتا "الغارديان" و"العربية"، قال الرئيس الإيراني: "نحن مستعدون للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الأوروبيين والأمريكيين لإجراء حوار ومناقشات. لم نؤيد أبدًا العدوان الروسي على الأراضي الأوكرانية". جاءت هذه التصريحات بعد لقاء بزشكيان مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل الذي كان قبل لقائه مع الرئيس الفرنسي.

وأورد الموقع، أن المتحدّث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف علّق على هذه التصريحات قائلا: "هذا هو الموقف السيادي لإيران. سنواصل شرح موقفنا وكل ما يتعلق بهذا النزاع حول أوكرانيا لأصدقائنا الإيرانيين".

وأضاف بيسكوف أن العلاقات مع طهران تتطور بشكل إيجابي، معربًا عن أمله في استمرار هذه الديناميكية.

وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الإيراني، نفى في نيويورك الشائعات التي تفيد بأن الجمهورية الإسلامية بدأت تزويد روسيا بصواريخ بعيدة المدى. ووصف وزير الخارجية الإيراني في أحد تصريحاته ادعاءات جوزيب بوريل بشأن بيع صواريخ باليستية لروسيا بأنها "أكاذيب".

وأضافت طهران أنها لا تتخذ أي طرف في النزاع الأوكراني ولا تزوّد أي جهة بالسلاح، بل تدعو الدول الأخرى إلى التوقف عن تزويد أطراف النزاع بالأسلحة، حسب التقرير.

وفي خطابه في طهران يوم 16 أيلول/ سبتمبر، لم يستبعد الرئيس الإيراني احتمال أن يكون أسلافه قد زودوا الجار الشمالي (روسيا) بالصواريخ، على الرغم من نفي البلدين سابقا لهذا النوع من التعاون، وقال: "قد تكون إيران أرسلت صواريخ إلى روسيا في الماضي، لكن منذ أن توليت منصبي، لم تحدث مثل هذه الإمدادات".

وأضاف الموقع، أن الرئيس الإيراني أكد استعداده لإجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة شرط أن توقف واشنطن نهجها العدائي تجاه إيران، واختتم خطابه بتصريح جريء ومفاجئ مفاده أن "الإيرانيين والأمريكيين إخوة".


وفي سياق متصل، أشار رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما ليونيد سلوتسكي إلى أن إيران تسعى لتحقيق أهدافها السياسية الخاصة، وأن تصريحاتها موجهة بشكل رئيسي إلى الجمهور الغربي. وأوضح سلوتسكي أنه "فيما يتعلق بالمستقبل، سنراقب الأمور عن كثب، ومن المبكر التوصل إلى استنتاجات الآن. تتميز العلاقات الروسية-الإيرانية بشراكة استراتيجية ثابتة، وهذا الاتجاه لا يزال مستمرًا"، وذلك وفقًا لما نقلته "نيوز ري".

ونقل الموقع عن خبيرة الشؤون الإيرانية كاريني غيفورجيان، قولها إن هناك خطرا قد يهدد توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين إيران وروسيا: "مع ذلك، حتى مع تصريحات الرئيس بزشكيان، لا يزال من المبكر جدًا تقديم توقعات دقيقة. يهتم الرئيس بتعزيز سيادة دولته وإظهار أن الجمهورية الإسلامية يمكن أن تكون الضامن لمصالح دول مختلفة في الشرق الأوسط".

وترى الخبيرة السياسية أن "التصريح جاء في سياق التغييرات على المستوى السياسي الأوسع، وحتى في معسكر الهيمنة العالمية - الولايات المتحدة. ومهمة بزشكيان اليوم هي أن يبدو للغرب بمظهر 'الشرطي الجيد'، بينما يُقدم الحرس الثوري الإيراني على أنه 'الشرطي السيئ' تجاه هذا الغرب"، وهذا يعكس جوهر سلوك الرئيس الإيراني الجديد.

وأشار الموقع، إلى التساؤلات المطروحة حول ما قد يفعله الرئيس الإيراني من أجل رفع العقوبات، خاصة أنه يقود الفصيل المؤيد للغرب في قيادة إيران لكنه لا يزال غير مستعد للتضحية بالعلاقات مع روسيا والصين، وذلك وفقًا لما ورد في مجلة "الأتلانتيك" الأمريكية. ومثلما فعل المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، أكّد بزشكيان أن أولوية طهران هي حلّ المشاكل الاقتصادية التي تواجهها وهو ما يتطلب زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية وإخراج إيران من "القائمة السوداء" الغربية.

ووفقا للتقرير، فإن صعود بزشكيان إلى الرئاسة كان بمثابة جرس إنذار لموسكو، حيث يُقال إن الدبلوماسيين المقربين منه لديهم شكوك تجاه العلاقات مع الصين وروسيا، وذلك وفقًا للمجلة الأمريكية.

وانتقد وزير الخارجية السابق جواد ظريف، الذي أصبح الآن نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية، الأصوات التي تسعى لتقوية الروابط بين إيران وروسيا بشكل مفرط. ووفقًا لمجلة "الأتلانتيك"، "عاد الفصيل الإيراني الموجه نحو الغرب إلى الواجهة. بالطبع، لا يقود أي من هؤلاء الأشخاص القرارات بل خامنئي هو من يتخذها ولكن حقيقة أن المرشد الأعلى سمح بترشيح بزشكيان تؤكد أن خامنئي يرى أيضًا ضرورة التعامل مع الغرب".

ووفقا لما ذكرته المجلة الأمريكية، أصبح منتقدو العلاقات مع روسيا أكثر جرأة في هيكل السلطة الإيراني، حيث يشير بعضهم إلى أن جزءا من الحرس الثوري الإيراني تبنى سياسات مؤيدة لروسيا خلال السنوات الأخيرة، وحقق مكاسب ضخمة من صفقات الأسلحة مع الصين وروسيا. مع ذلك، تنفي كل من موسكو وبكين المزاعم حول أي صفقات أسلحة.

منذ انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، شهدت العلاقات بين موسكو وطهران تحسنًا ملحوظًا. وقد أعلن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي دعمه للرئيس فلاديمير بوتين، واصفًا قرار بدء العملية بأنه "إجراءات وقائية". وهذه التطورات أدت إلى زيادة الزيارات المتبادلة بين القادة من كلا البلدين.

في سنة 2022، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زيارة إلى طهران، كما زار الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي موسكو قبل نحو ستة أشهر. وزار عدد من كبار المسؤولين الروس إيران من بينهم رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين، وأمين مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف، ووزير الدفاع سيرغي شويغو - الذي زار الجمهورية الإسلامية مرتين في الأشهر الأخيرة، في 5 آب/ أغسطس و17 أيلول/ سبتمبر حيث التقى بالرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان.

ومن المتوقع توقيع اتفاقية للتعاون الاستراتيجي بين إيران وروسيا خلال قمة "بريكس" التي ستعقد في كازان الشهر المقبل بناءً على دعوة وجهها الرئيس الروسي بوتين لنظيره الإيراني لحضور القمة التي ستجري في الفترة من 22 إلى 24 تشرين الأول/ أكتوبر. وفي إشارته إلى ذلك وصف بزشكيان الاتفاقية بأنها "طال انتظارها". ورغم الانتقادات التي وجهها بزشكيان لروسيا خلال كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أكد مشاركته في القمة في كازان حيث من المقرر أن يجري محادثات مع بوتين، وذلك وفقًا لتصريح المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية فاطمة مهاجراني. وستكون هذه الزيارة الأولى للرئيس الإيراني إلى روسيا بعد انتخابه.


وحسب وكالة "رويترز"، فإن روسيا قد تكون على استعداد لتزويد اليمن وبالتحديد المتمردين الحوثيين بصواريخ حديثة. ووفقًا لما أفادت به الوكالة، يمكن أن تكون هذه الخطوة ردًا غير متكافئ من موسكو على رفع القيود المفروضة على أوكرانيا لشن هجمات على الأراضي الروسية. كما نقلت "رويترز" عن مصادر أن روسيا تجري مفاوضات مع الحوثيين بوساطة من إيران لتزويدهم بصواريخ "أونيكس" المضادة للسفن. ورغم عدم تقديم "رويترز" أي أدلة ملموسة، إلا أن هذه المزاعم أثارت اهتمامًا كبيرًا في الغرب خاصة في ظل طلب كييف استخدام الصواريخ الغربية لضرب الأراضي الروسية.

يرى رجب صفروف، المدير العام لمركز دراسات إيران المعاصرة، أن تقرير الوكالة البريطانية يعد مجرد "تسريب إعلامي" يهدف إلى تعكير العلاقات بين موسكو وطهران، مشيرًا إلى أن التأثير الكبير للوبي الإسرائيلي في الغرب قد يكون وراء هذا النوع من التقارير بهدف الضغط على القيادة الإيرانية ودفعها للابتعاد عن أي تواصل مع روسيا.

وفي تصريح له لموقع "نيوز ري"، قال صفروف: "أنا على يقين من أن روسيا وإيران لا تجريان أي محادثات بشأن تقديم مساعدات عسكرية لأي طرف. ولكن مع وصول رئيس جديد في إيران، تحاول العديد من القوى الغربية منع تطبيع علاقات البلاد مع العالم الخارجي، وعلى رأسها تل أبيب. وتسيطر 'رويترز' والعديد من وسائل الإعلام العالمية الكبرى على اللوبي الإسرائيلي، لذلك ليس من الصعب عليهم نشر مثل هذه المعلومات".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الإيراني بزشكيان الغربية روسيا إيران روسيا الغرب بزشكيان صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجمعیة العامة للأمم المتحدة الجمهوریة الإسلامیة أن الرئیس الإیرانی العلاقات مع وذلک وفق ا وفق ا لما ما نقلته إلى أن

إقرأ أيضاً:

هندسة الانتصار الرمادي: صراع إيران والولايات المتحدة وإسرائيل

في الأدبيات التقليدية للعلاقات الدولية، ارتبط مفهوم النصر بالقدرة على تحقيق تغيير جوهري في ميزان القوى عبر الوسائل العسكرية أو الاقتصادية المباشرة، إلا أن التطورات الأخيرة التي شهدها الصراع الإيراني-الأمريكي-الإسرائيلي تفرض إعادة التفكير في هذا المفهوم.

لقد استطاعت إيران، بقيادة هيكل سياسي مركب، أن تحقق مكاسب استراتيجية صلبة دون أن تدخل حربا مباشرة أو أن تتعرض لانهيار داخلي. لم ينتج هذا الإنجاز من "مواجهة" كما تفترض الأدبيات الكلاسيكية، بل من عملية أعقد وهي هندسة مستمرة للبيئة الاستراتيجية بطريقة جعلت الحرب خيارا مكلفا أكثر من أي تسوية أخرى.

في هذا الإطار، يتحتم علينا أن نقرأ ما جرى كـ"انتصار رمادي"، ليس انتصارا عسكريا صريحا ولا هزيمة سياسية واضحة لخصوم إيران، بل حالة وسطى تميزت بقدرة طهران على إعادة تعريف حدود اللعبة دون الحاجة إلى كسر القواعد القائمة. ما نفعله هو معرفة محددات السياسة الخارجية الإيرانية في الأزمات وليس تمجيدها، وهذا ما يجعلنا قادرين على تفسير المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط من التهديدات الإسرائيلية باستهداف المنشآت النووية الإيرانية إلى طاولة المفاوضات التي يقودها ترامب مع الإيرانيين.

من الخطأ اختزال الأداء الإيراني في مواجهة إدارة ترامب بأنه مجرد "صبر استراتيجي"؛ ما فعلته إيران كان أكثر تعقيدا، لقد مارست إدارة الشك بين خصومها، أي جعلت النوايا الإيرانية ضبابية إلى درجة أضعفت الحسابات الغربية
من الخطأ اختزال الأداء الإيراني في مواجهة إدارة ترامب بأنه مجرد "صبر استراتيجي"؛ ما فعلته إيران كان أكثر تعقيدا، لقد مارست إدارة الشك بين خصومها، أي جعلت النوايا الإيرانية ضبابية إلى درجة أضعفت الحسابات الغربية.

لم تتصرف إيران كفاعل يسعى إلى الصدام، لكنها في ذات الوقت لم تقدم مؤشرات استسلام أو انكسار. كل عملية (مثل إسقاط الطائرة المسيرة أو الرد على اغتيال قاسم سليماني أو العمليات التي عرفت بالوعد الصادق ضد إسرائيل) كانت مصممة لإبقاء هامش الشك مفتوحا؛ هل سترد إيران برد شامل أم محسوب؟ هل ستغلق مضيق هرمز أم لا؟

هذا التردد المنهجي لم يكن علامة ارتباك، بل أداة استراتيجية أضعفت قدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على اتخاذ قرارات حاسمة، حيث إن الخيارات باتت تقوم على تخمينات لا على معطيات صلبة. بالتالي، الانتصار الإيراني هنا لم يكن في امتلاك القوة، بل في إدارة إدراك الخصم لهذه القوة.

وبدلا من الرضوخ للعقوبات القصوى، اتبعت إيران سياسة تقوم على استثمار الزمن لإضعاف فاعلية العقوبات ذاتها. من خلال الصبر المدروس، سمحت إيران بأن تظهر التكاليف الثانوية للعقوبات (التضخم في الغرب من ارتفاع أسعار الطاقة، تآكل شرعية الحصار دوليا، نمو المقاومة الاقتصادية محليا).

مع مرور الوقت، لم تعد العقوبات أداة ضغط فاعلة، بل تحولت عبئا على من فرضها، مما أجبر بعض القوى الأوروبية على التراجع التدريجي أو البحث عن قنوات خلفية للحوار مع طهران. بكلمات أخرى، لم تسعَ إيران لإسقاط العقوبات فورا، بل لجعل استمرارها أكثر كلفة من رفعها، وهو منطق مختلف جذريا عن نماذج "المواجهة المباشرة" أو "التفاوض التقليدي".

وفي مقابل الرغبة الإسرائيلية في حسم عسكري سريع، والإصرار الأمريكي على فرض اتفاق استسلام اقتصادي، اتبعت إيران استراتيجية "التآكل البطيء"، فهي لم تهدف إلى كسر أعدائها بضربة مفاجئة بل إلى إنهاك إرادتهم على مدى زمني طويل عبر مجموعة مركبة من الضغوط النفسية، والدبلوماسية، والعسكرية المحدودة، والاقتصادية.

وهكذا، لم تحقق إيران نصرا عسكريا كلاسيكيا، لكنها فرضت تحولا استراتيجيا؛ خصومها وجدوا أنفسهم يتراجعون عن سقوفهم القصوى دون تحقيق أي مكسب جوهري.

بعيدا عن التصورات التقليدية للصراع، نجحت إيران خلال فترة المواجهة مع إدارة ترامب في إدارة بيئة معقدة من القوى المتنافسة، مستغلة ما يمكن تسميته بتشظي الأولويات الإقليمية. فقد كانت الأطراف المحيطة بالصراع تتباين في حساباتها بشكل حاد، إسرائيل تدفع باتجاه الحسم العسكري السريع مهما كان الثمن، مدفوعة بمخاوف وجودية، بينما بدا أن دول الخليج، رغم خصومتها التقليدية مع طهران، أكثر ميلا إلى تجنب سيناريوهات الحرب الشاملة التي قد تهدد استقرار أنظمتها الاقتصادية والسياسية. في الوقت ذاته، كانت أوروبا، من موقع مختلف، ترى أن الحفاظ على الاتفاق النووي، رغم تعثره، لا يزال الخيار الأقل كلفة لمنع الانزلاق إلى فوضى إقليمية أوسع.

هذا التباين في أولويات اللاعبين الأساسيين لم يمر دون أن تستثمره إيران ببراعة محسوبة، بل سعت ضمن استراتيجية مدروسة إلى إبراز التناقضات القائمة وتعميقها بطريقة تمنع بناء جبهة معادية موحدة. فبينما استمرت طهران في إرسال رسائل تطمينية لبعض دول الخليج عبر القنوات الخلفية، فإنها عمدت إلى توظيف التصعيد الإعلامي ضد إسرائيل بشكل مدروس، مما وضع الأخيرة في موقف المتشدد الوحيد أمام عواصم دولية باتت أكثر حذرا من مغامرات عسكرية مفتوحة. أما مع أوروبا، فقد حافظت إيران على الارتباط بالحد الأقل، مستخدمة الخطاب الدبلوماسي الرسمي كوسيلة للإبقاء على فكرة أن طهران ما تزال تؤمن بالحلول الدبلوماسية، ما وفر غطاء سياسيا ساعد في كبح جماح الضغوط التصعيدية الأمريكية.

رسمت إيران معادلة جديدة للصراع الإقليمي والدولي، معادلة تحتم على كل من يفكر بمستقبل الشرق الأوسط أن يتعامل مع طهران لا باعتبارها مجرد لاعب عنيد، بل بوصفها مركز ثقل استراتيجي مستقل بذاته
في موازاة ذلك، برز سلوك إيران في إعادة تعريف معادلة القوة بعيدا عن النماذج التقليدية للردع. فعوضا عن الاعتماد على الحشود العسكرية التقليدية أو عرض عضلات مكشوف، لجأت إيران إلى ممارسة نوع من استعراض القوة الرمزية، قوامه الكشف التدريجي عن عناصر قوة غير مرئية بالكامل. بناء المدن الصاروخية تحت الأرض، والحديث عن برامج أسلحة متقدمة مثل أنظمة البلازما، كانا موجهان ليس لإشعال الحرب، بل لصناعة بيئة إدراكية مشوشة تجعل من حسابات الخصوم مليئة بالثغرات والاحتمالات غير المؤكدة. هذا التكتيك المدروس زاد من صعوبة بناء نماذج حاسمة للرد العسكري ضد إيران، مما ساعد في ترسيخ حالة ردع غير متوازن ولكن فعّال.

ولعل الأهم من ذلك، أن إيران استطاعت أن تحول هذه البيئة التي تتصف بالضبابية إلى منصة تفاوضية متقدمة. لم تذهب طهران إلى أي مفاوضات بوصفها الطرف المهزوم الباحث عن مخرج، بل دخلت المفاوضات غير المباشرة، وكأنها شريك قادر على فرض شروطه أو على الأقل التمسك بثوابته الأساسية. فلم يكن شعار العودة إلى الاتفاق النووي مجرد محاولة للعودة إلى الوراء، بل كان وسيلة لدفع الخصم إلى الاعتراف بالوقائع الجديدة التي فرضها صمود إيران: أن العقوبات لم تسقط النظام، وأن التهديدات العسكرية لم تكسر إرادته، وأن الجبهة الداخلية رغم كل الضغوط ما تزال قادرة على التكيف مع تحدياتها في الاقتصاد والمجتمع.

بهذه الطريقة، استطاعت إيران أن تتحول من موقع الدفاع إلى موقع الفعل. فعلى عكس الرهانات الغربية التي اعتبرت أن الضغوط القصوى ستدفع النظام الإيراني إلى تقديم تنازلات حيوية، بدا أن من اضطر إلى مراجعة حساباته هي الأطراف الأخرى، بدءا من واشنطن وانتهاء ببعض العواصم الأوربية.

هنا بالضبط تتجلى عبقرية الانتصار الرمادي الذي حققته طهران. لم يكن هذا الانتصار واضح المعالم بالمعنى الكلاسيكي؛ لم يرفع أحد رايات النصر، ولم ينهزم طرف بشكل معلن، ولكن في أعماق بنية القوة والسياسة في المنطقة، فرضت إيران نفسها لاعبا لا يمكن تجاهله أو فرض الإملاءات عليه. تحولت الحرب من خيار قائم إلى خيار مستبعد، وتحول الضغط الأقصى إلى ورقة مفاوضات بأثمان متناقصة.

في النهاية، ما أنجزته إيران لا يمكن اختزاله في مفردات "الصبر الاستراتيجي" أو "الممانعة"، بل هو حالة متقدمة من إدارة ديناميات القوة في بيئة معادية متعددة الأقطاب، قائمة على استثمار الزمن، والتلاعب بالإدراك، وصناعة الشكوك، وتكريس مفهوم أن التغيير الإقليمي لا يمكن أن يتم دون أخذ مصالح طهران بعين الاعتبار.

بهذا الإنجاز، رسمت إيران معادلة جديدة للصراع الإقليمي والدولي، معادلة تحتم على كل من يفكر بمستقبل الشرق الأوسط أن يتعامل مع طهران لا باعتبارها مجرد لاعب عنيد، بل بوصفها مركز ثقل استراتيجي مستقل بذاته.

x.com/fatimaaljubour

مقالات مشابهة

  • زيارة بزشكيان لأذربيجان.. هل تعود المياه إلى مجاريها بين طهران وباكو؟
  • هندسة الانتصار الرمادي: صراع إيران والولايات المتحدة وإسرائيل
  • إيران ترد على تهديدات نتنياهو: أي مغامرة ستواجه برد ساحق
  • وزير الخارجية ونظيره الإيراني يستعرضان مستجدات المحادثات التي ترعاها سلطنة عمان
  • نتنياهو: ينبغي اختفاء البرنامج النووي الإيراني بأكمله
  • ترامب: سنتوصل لاتفاق مع إيران دون إسقاط القنابل
  • في تصريح جديد.. نتنياهو: يجب تفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل
  • نتنياهو: يجب تفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل
  • التفاوض بين إيران وأميركا.. دوافعه وتحدياته ومآلاته المتوقعة
  • وزيرة الصناعة تصل طهران للمشاركة في منتدى التعاون الاقتصادي الإيراني الأفريقي