لم ينم ليلته من فرط السعادة، ويبدو أن جفونه استعادت شبابها حينما كان يافعا يحرس حدود كتيبته في نوبة "البرنجي" و"الكنجي" و"الشنجي"، وتلك الأخيرة التي كان يقايض بها أقرانه ليظل فيها وحيدا مستمتعا بأجواء ملائكية في الثلث الأخير من الليل.
جاءه صوت من بعيد: إنه الصول فاضل، بمفاتحه التي تنوء بها العصبة من العساكر والتي يحملها على كتفه وتطوق ذراعه الأيمن، يفتح الأقفال المغلقة وينثر الأمل الذي سيأتي بعد قليل.
الصول فاضل: اجهز يانمرة انت وهو، سيادة المأمور في انتظاركم.
انتفض مصطفى، واقفا حاملا بين يديه أشعة وتحاليل وروشتات مستشفى السجن مدة 15 عاما قضاها في مرض يذهب ليزرع مكانه آخر أشد قسوة وفتكا، ولا تهون آلامه سوى بعض الوصفات التي برع فيها وتعلمها عن أبيه وجده "النحال".
فتح الصول فاضل، زنزانة مصطفى، ونظر في وجهه قائلا: ربنا معاك يا دكتور ولا تنسانا من وصفاتك بعد أن تخرج.
استبشر مصطفى، وتهللت أساريره وراح يحلم بلحظة مغادرته ليمان طرة، إلى قريته حيث منحل العسل الذي تربى فيه بين أهازيج النحل وأناشيده وطنين فرقه الموسيقية وجمال أسرابه وروعة ألوان أجنحته، ولذيذ عسله وشهد إنتاجه.
خرج مصطفى إلى ساحة السجن حيث يقف المأمور، يلمع نسران و6 دبائر وكاب فوق كتفيه ورأسه فتعكس جميعها أشعة شمس تموز/ يوليو الحارقة في الوجوه، فتهوي العيون إلى الأرض ذليلة منكسرة، يزيد انكسارها ما يلمع من رتب حوله لضباط ومساعدين، وما استجد عليهم اليوم من أصحاب الملابس البيضاء من أطباء وزارة الداخلية التي أتت لفحص حالات المسجونين الذين يتوجب لهم الإفراج الصحي.
لحظات وتجمع عشرات المسجونين، وجميعهم يحمل من الأوراق ما يثبت أنه عليل على شفا الموت، هنا تراجعت آمال مصطفى، وظن أن الأمر سيكون لمن يدفع أو يملك واسطة من الجنائيين، وتجار المخدرات، والحرامية، وناهبي المال العام، وأصحاب أصحاب السلطة.
تقهقر بعض الشيء، ولعبت برأسه الظنون، وأقنعه شيطانه بأنه "لا أمل لك، فأنت سجين سياسي سجنك حاكم ظالم، ولا يغرنك أنك مريض، ولا يغرنك أنك طبيب تعرف أنك، ولا غير الموت يخلصك من ألم المرض وعتمة السجن وذل البعد عن زوجة تركتها بعد أسابيع من زفافها، وحضن أب وأم ماتا دون أن تواريهما التراب بيديك وتستقبل فيهما عزاء الأحباب".
يبدو أن شيطاني كان محقا، قال لنفسه مصطفى، بعدما رأى أنه في لحظات تبدل المشهد المرتب وساد الهرج والمرج حتى خرجت العصي وحاصر الجمع زبانية السجن، يلهبون ظهر من يخرج عن الطابور، وصاح المأمور، قائلا: "أُلغي الأمر، أعيدوهم جميعا إلى الزنازين".
لكن تدخل الضابط الطبيب الذي لا نعرف رتبته والتي لن تكون أقل من عقيد أو مقدم، مخاطبا المأمور: "سيادتك هم سينضبطون ويلتزمون الصمت، واسمح لنا باستكمال المهمة".
حصل الضابط الطبيب على موافقة المأمور، وسط فرحة صامتة، وبدأ العمل، وانهمك ولجنته في جمع وقراءة الأوراق، والكل منتظر دون حراك يُلفت أو نفس يُسمع، حتى راح الضابط الطبيب يعيد أوراق المساجين ويلقيها أرضا، ويقف فجأة قائلا: "كلكم مدعون، كلكم كاذبون، كلكم لا تستحقون عناء قراءة أوراقكم، ولا تستحقون الإفراج الصحي".
هنا قررت العودة إلى زنزانتي دون أية محاولة للحديث أو لفت الانتباه بأن أوراقي ما زالت بيدي ولم أسلمها كغيري، بل وأكلها سيل العرق المنهمر من شدة الحر، ومن هول الموقف، وفقدان الأمل مع كثرة مدعي المرض وفي عدل اللجنة، ومع بطش مأمور مغرور يظن نفسه ظل الحاكم بما أقطعه من عساكر وسياط وأساور داخل تلك الأسوار.
في هدوء انسحبتُ، وفي هدوء غادرت، وفي هدوء تمالكت جسدي قبل السقوط أرضا، وبينما أقترب من مغادرة ساحة السجن، استوقفني المأمور، الذي ظن بي سوءا، وأمر بإحضاري مع التأديب، فتجمع جمع من الزبانية حولي، والتقطوني كما التقط زبانية فرعون جسد موسى الصغير من اليم، وطرحوني أرضا فضربا وركلا لا يتوقف، منتظرا أمر التوقف الذي لم يأت حتى غبت عن الوعي.
وبين نفس يدخل بصعوبة وآخر يخرج ويكاد ينزع عني روحي، وسيل دماء تنزف وتكاد تملأ نهرا جف، وآلام تتفجر من هول شدتها الصخور، تذكرت أيام التعذيب الأولى وأيادي الزبانية الأقدمون.
أفقت على وجه الضابط الطبيب الذي راح يسألني معنِّفا: لماذا غادرت ولم تسلم أوراقك؟
ذرفت عيناي موجة دموع دافقة، مسحتها بكمي بدلتي الزرقاء التي لم تفارق جسدي منذ أعوام، وستظل صاحبتي التي تمسح عن دموعي مدة 10 أعوام أخرى، فأنا أضمن لها أن تظل بحالتها لا تبلى، أو تتمزق وفي القمامة تلقى، أو تفتك بها قوارض السجن، أو حتى يعلق بها تراب الزنزانة، فلعلها تكون ردائي للنهاية أو حتى كفني إلى الآخرة.
على وقع دموعي، تغير وجه الضابط الطبيب، وبدت منه قسمات طيبة شعرت بها تنساب من قلبه، وقال لي هذه المرة بطلف: ما هي مشكلتك؟
أعطيته الأوراق المبللة، فالتقطها وراح يقرأها بعناية رغم ما أصابها من عطب، وينظر تارة إلى جسدي المتضائل، وثانية إلى وجهي الشاحب، وثالثة داخل عينيّ اللتين أكلهما ظلام الزنزانة ولم يعد يمكنهما الصمود حتى أمام شعاع شمس ضعيف هارب من غيوم وسحب شتاء ريف مصر في كانون الثاني/ يناير.
سألني: ما مهنتك؟
قلت: عملي طبيب، ومهنتي صانع الشهد، فلقد ورثت عن أبي وجدي منحلا للعسل في إحدى قرى محافظة الشرقية، وتعلمت في "قصر العيني" كيف أداوي جراح القلوب وأنثر فيها الأمل وأعيد ضخ الدم النقي في شرايين الجسد.
تابع حديثه اللين، وكاد يفتك به الفضول": وما تهمتك؟
قلت: سياسي.
صمت برهة، وتبدل الوجه الذي كان عليه، رويدا رويدا، وقال في حدة مصطنعة: فلماذا إذا لم تعرض أوراقك وتركت الصفوف؟
قلت: فقدت الأمل في لجنتكم مع كثرة عارضي أمراضهم؟
عاد إلى لطفه المفقود وقال: لكنك من بين كل من طالعت أوراقهم تستحق الإفراج الصحي وستكون أول من يحصل على توقيعي؟
سقط لساني عن فمي، وقادت عني دموعي حملة الرد والجواب.
* * *
لم تنم ليلتها، لكنها غفت قليلا بعدما أعياها الفكر وأعجزها النظر إلى السماء وعد النجوم عن البقاء مستيقظة، حتى علا صوت ديك الجيران، وانطلق آذان الفجر من مأذنة مسجد الشيخ متولي الشربيني، فاستيقظ زوجها مصطفى، الطبيب صانع الشهد السبعيني المريض، فوجدها جاثية على ركبتيها ورأسها متدلية تكاد تسقط كثمرة عجز عودها عن حملها.
رفع رأسها بكفه الأيمن، فأمطرت دموعها يده اليسرى. ربّت على كتفها وقبل رأسها وضمها قائلا: أم علي، لا تحزني سيرده الله إلينا، فإنا صناع الشهد، وإن لنا عنده أبوابا مفتوحة ومن له عنده لن تضيع وديعته.
قالت: أشعر بالبرد رغم ما فوق جسدي من أغطية، وما في الغرفة من تكييف وأبواب وشبابيك محكمة، أعرف أنه برد الشوق إلى علي، فصدري وعيناي ويداي تشتاق لضمة دافئة ونظرة مشبعة ولمسة حانية، تبرد فؤادي وتشرح صدري وتهون عليّ فراق علي.
قال مصطفى: أهو قنوط أم تعجل؟ تعالي أذكرك كيف غادرت أنا دنياكي قبل 50 عاما بعد أيام من ليلة زفافنا وظللت 15 عاما في محبس غاب عنه الأمل حتى جاءني الإفراج الصحي، وعدت إليك نبدأ من جديد.
وحُرمنا الإنجاب، حتى ظن كل من حولنا أننا أخذنا كامل رزقنا ولا رزق آخر لنا في السماء، حتى أتانا علي، فنوّر حياتنا وأدخل الفرحة بيتنا، وصار وريثا لأجداده في صناعة الشهد، وراح الكل يغبطنا كإبراهيم وسارة، وزكريا واليانصيب، وينادونه بإسحاق تارة ويحيى تارة أخرى، حتى خطفة الزبانية، كما خطفوا أبيه.
طمأنها حديث مصطفى ونزل كحبات برد على قلبها، لكنها عادت للبكاء لتقول متلعثمة: أتذكر يوم أن كبر وصار يافعا وذهب دون رغبتي وبتشجيع منك مع أصحابه إلى الإسكندرية فغدر البحر بالثلاثة وعاد هو لنا سالما، فرحنا به وكأنه ولد مرتين، وحلمنا أن يقوده تفوقه الدراسي لأن يكون طبيبا كأبيه وصانعا للشهد في مناحل العسل يسقي المرضي ويسعد السلامي، كأجداده.
غفا الأب، وراحت الأم في نوم عميق بعد صلاة فجر وصبح ودعاء، جاءهما علي في المنام، يقول: أبي، أمي، من منكما بكى فأبكاني؟ انتظراني إما في دنيا أشجارها يانعة وإما في جنة ظلالها وارفة، فإنا صانعي الشهد كُتب علينا دفع الثمن لخلاص الوطن من الطغاة وتطهير العرض من الفجرة ورفعة الدين دون كارهيه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات مصر مصر معاناة سجون قصة مدونات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
فوكس: ما الذي يعنيه فعلا حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؟
تبرر إسرائيل وحلفاؤها كل ما قامت وتقوم به من تدمير في الأراضي الفلسطينية بحقها في الدفاع عن نفسها، ولكن بعض الخبراء القانونيين يجادلون بأنها لا تستطيع التذرع بهذا الحق تلقائيا، كما يُفهم في السياق القانوني.
وذكرت نشرة فوكس بأن إسرائيل، منذ دخول الاتفاق بينها وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) حيز التنفيذ، صعّدت غاراتها في الضفة الغربية، مما أدى إلى نزوح أكثر من 40 ألف فلسطيني، وبعد انتهاء المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار الهش أصلا، قطعت الكهرباء ومنعت دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، بعد أكثر من عام من الحرب قتلت فيه أكثر من 61 ألف فلسطيني، ودمرت البنية التحتية للرعاية الصحية في القطاع، وشردت حوالي 90% من السكان.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إيكونوميست: هذه أوراق بيد أوروبا حال تعمق خلافها مع أميركاlist 2 of 2تايمز: ما قصة الثورة التي يريد ستارمر إطلاق شرارتها في بريطانيا؟end of listومع أن لكل دولة حسب القانون الدولي الحق في الدفاع عن النفس -كما تقول النشرة في تقرير بقلم مراسلها عبد الله فياض- فإن لهذا الحق الذي أصبح يتكرر منذ عقود، حدودا تربطه بهجوم مسلح من دولة أخرى، وهو ما ليس متوفرا في حالة إسرائيل التي هاجمتها حماس من أراضٍ تسيطر عليها.
وإذا كان البعض يجادل بأنه لم يكن أمام إسرائيل، من الناحية الأخلاقية، خيار سوى استخدام القوة لمحاسبة حماس على أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن هذه الحجج الأخلاقية لا تكفي، لأنه في النهاية لا شيء يمكن أن يُبرر أخلاقيا قتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء.
إعلان حجج قانونية مبهمةولأن القوانين هي التي تحكم العالم، يمكن لإسرائيل الرد بقوة متناسبة لاستعادة النظام، لكن شن حرب والادعاء القاطع بأنها دفاع عن النفس لا يستند إلى أساس قانوني ظاهريا، وادعاؤها لا يغير جوهريا كيفية تصرفها في قطاع غزة والضفة الغربية، ولن يضفي شرعية على جميع أفعالها خلال هذه الحرب، حسب النشرة.
وأشارت النشرة إلى أن الفهم العميق لمعنى حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها سيساعد في توضيح ما إذا كانت حربها دفاعا عن النفس أو عدوانا، وإذا تبين أنها عدوان، فإن ذلك يجب أن يدفع حلفاءها إلى إعادة النظر في نوع الدعم السياسي الذي يقدمونه لها في مثل هذه الأوقات.
ويعتمد ادعاء إسرائيل بالدفاع عن النفس على حجج قانونية مبهمة، مع أن هناك إطارين قانونيين رئيسيين للنظر في حق الدفاع عن النفس، أولهما ميثاق الأمم المتحدة، وهو معاهدة ملزمة قانونا للدول الأعضاء، وثانيهما، القانون الإنساني الدولي الذي يُرسي قواعد السلوك المتعلقة بالنزاعات المسلحة.
وقالت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إن حالة إسرائيل لا ينطبق عليها الحق في الدفاع عن النفس، لأنها لم تتعرض لهجوم من دولة أخرى، بل إن الهجوم شنته جماعة مسلحة داخل منطقة تسيطر عليها إسرائيل وتحتلها بشكل غير قانوني، لا يمكنها ادعاء الحق في الدفاع عن النفس.
وفي عام 2004، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيا استشاريا بشأن الجدار الذي كانت إسرائيل تبنيه حول الضفة الغربية، واعتبرت أن الحاجز غير قانوني، لأنه سيحمي من التهديدات القادمة من منطقة تسيطر عليها إسرائيل بالفعل، مما يعني أنها لم تكن تتصرف كما زعمت، دفاعا عن النفس. وكتبت محكمة العدل الدولية "لا يمكن لإسرائيل بأي حال من الأحوال الاستناد إلى تلك القرارات لدعم ادعائها بممارسة حق الدفاع عن النفس".
إعلانوفي سياق هذا الرأي الاستشاري، يُمكن اعتبار أي إجراء يُتخذ لتعزيز أو إدامة قبضة إسرائيل العسكرية على الفلسطينيين امتدادا للاحتلال، وليس دفاعا عن النفس، وقال محامو جنوب أفريقيا إن "ما تفعله إسرائيل في غزة، تفعله في أراض خاضعة لسيطرتها"، واستنتجوا أن أفعالها تُعزز احتلالها، وبالتالي لا ينطبق عليها قانون الدفاع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة".
وقد كتب رئيس محكمة العدل الدولية عند إصداره رأي المحكمة الاستشاري، الذي قضى بعدم قانونية الاحتلال، أن "دولة إسرائيل ملزمة بإنهاء وجودها غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة بأسرع وقت ممكن"، ولكن إسرائيل استمرت في بناء المستوطنات غير القانونية على الأراضي المحتلة، وحصار غزة، وفرض حكم عسكري على الفلسطينيين ينتهك حقوقهم الإنسانية.
وهذا -حسب النشرة- ما يجعل إسرائيل معتدية بموجب القانون الدولي، قبل وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما دامت كذلك فلا يحق لها ادعاء حق الدفاع عن النفس، وتقول ألبانيز إن "استمرار احتلال ينتهك بشكل عميق لا رجعة فيه حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، يعد شكلا دائما ومستمرا من أشكال العدوان".
حجة إسرائيل
ورغم ذلك يجادل بعض الخبراء بأن مبرر إسرائيل للحرب يندرج ضمن الإطار القانوني الدولي، وذلك لأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول يرقى إلى مستوى "هجوم مسلح"، وهو ما تنص عليه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ومن شأنه أن يُفعّل حق الدولة في الدفاع عن نفسها.
وقد أوضح إريك هاينز، أستاذ الدراسات الدولية بجامعة أوكلاهوما، أسباب لجوء إسرائيل إلى الدفاع عن النفس في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بحجة أن حجم الهجوم وعدد الضحايا المدنيين، يُشكل "هجوما مسلحا" ويجعل الرد العسكري مبررا.
بيد أن المسألة لا تقف عند كون السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان هجوما مسلحا، إذ يرى أردي إمسيس، أستاذ القانون الدولي بجامعة كوينز، أن ذلك لا يبرر حق الدفاع عن النفس لأن ذلك الحق لا ينطبق داخل الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
إعلانوهذا يقود إلى الجزء الثاني من الأساس وراء حجة إسرائيل -كما تقول النشرة- وهي المقولة بأن غزة لم تكن تحت الاحتلال منذ أن سحبت إسرائيل مستوطناتها وجيشها من القطاع عام 2005، ومع ذلك، فإن هذا الوصف مرفوض على نطاق واسع من قبل جماعات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، وحتى وزارة الخارجية الأميركية تُدرج قطاع غزة في تعريفها للأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية، كما أكدت محكمة العدل الدولية مجددا أن غزة، من وجهة نظر قانونية، تحت الاحتلال.
وتساءلت النشرة كيف يمكن لإسرائيل الرد قانونيا ما دام الاحتلال لا نهاية له في الأفق؟ لترد بأن هناك العديد من السبل القانونية التي يمكن لإسرائيل اتباعها مع ضرورة الالتزام بقانون الاحتلال، وهو فرع من القانون الإنساني الدولي، يحدد كيفية التعامل مع الهجمات الصادرة من الأراضي المحتلة.
والرد في هذه الحالة -كما تشير النشرة- يكون من خلال إنفاذ القانون، وذلك بالقمع المتناسب الذي تشنه الشرطة على مرتكبي العنف إذا لم ينتهك حقوق الناس، وكقوة احتلال، كان بإمكان إسرائيل استخدام "القوة الضرورية والمتناسبة لصد الهجوم، كما قال إمسيس، موضحا أنه لكي يكون أي استخدام للقوة قانونيا، "يجب أن يكون ضروريا ومتناسبا مقارنة بالقوة المستخدمة ضدها".
نهج انتقائيووصلت النشرة إلى أن إسرائيل يصعب عليها الادعاء بأن حربها على غزة كانت دفاعا عن النفس، أو حربا ضد حماس فقط، ناهيك عن كونها ردا مُتناسبا مع أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لأنها خلال عام، استخدمت التجويع الجماعي كسلاح في الحرب، ودفعت البنية التحتية للرعاية الصحية في غزة إلى الانهيار، وخلقت ظروفا مواتية لانتشار أمراض تمكن الوقاية منها، كما قتلت أكثر من 150 صحفيا.
كل هذا يعني أن إسرائيل، حتى لو استطاعت الادعاء بأنها بدأت الحرب دفاعا عن النفس، فإن أفعالها في الحرب نفسها لا يمكن اعتبارها قانونية، وقال كلايف بالدوين، كبير المستشارين القانونيين في المكتب القانوني والسياسي لمنظمة هيومن رايتس ووتش، "مهما كانت المبررات القانونية المحتملة لاستخدام القوة، يجب على جميع الأطراف دائما الامتثال لقانون النزاع المسلح ومعرفة أن جرائم الحرب لا يمكن تبريرها أبدا".
إعلان
هناك أيضا حقيقة مزعجة لإسرائيل وحلفائها عندما يجادلون بأن مبادئ الدفاع عن النفس تمنح إسرائيل ترخيصا لشن هذا النوع من الحرب في غزة، وهي أن للفلسطينيين، كشعب خاضع للاحتلال، الحق في المقاومة بموجب القانون الدولي، وذلك يشمل المقاومة المسلحة.
وخلصت النشرة إلى أن قبول كون إسرائيل تتصرف دفاعا عن النفس بدلا من كونها قوة احتلال تُوسّع سيطرتها العسكرية، يعني أن حلفاءها على استعداد لانتهاك القانون الدولي كلما كان ذلك مناسبا، وهذا النوع من النفاق نهج انتقائي في تحديد القوانين التي ينبغي تطبيقها على إسرائيل وتلك التي ينبغي تجاهلها، ولا بد أن تكون له عواقب عالمية، لأنه يقوض شرعية النظام القانوني الدولي، ويشجع إسرائيل ودولا أخرى على الاستمرار في انتهاك القوانين دون عقاب.