الفلسفة والأدب بين إدراك الحقيقة ونسج الخيال «3»
تاريخ النشر: 27th, September 2024 GMT
••في المقالة السابقة، تناولت مفهوم الأدب والفلسفة، وبيّنت أن الفلسفة تناقش الموضوعات الوجودية الكبرى وأنها تميل إلى العقل، وبيّنت أيضًا أن الأدب يعتمد على الخيال. هذه الخصوصية للأدب واعتماده على الخيال دفعت الفيلسوف أفلاطون إلى استبعاد الأدب من مدينته الفاضلة، وذهب إلى توصيف العلاقة بين هذين الحقلين المعرفيين بعلاقة العداوة وأن بينهما معركة، فالفيلسوف من وجهة نظره هو وحده القادر على فهم الحقيقة، أما الشاعر والأديب فهو يصنع الوهم.
•في هذه المقالة، سوف أبيّن أن المعركة القديمة بين الفلسفة والأدب لم تدم طويلًا، وأن ثمة التقاء ومصاهرة بينهما، فمع تطور الإنسان من الأسطورة إلى العقل، وخاصة في أوروبا، انبلج عصر الإصلاح الديني وأعقبه عصر التنوير الذي ولدت من رحمه الحداثة، وبدأ التقارب بين الحقلين المعرفيين وبدأ ينظر إليهما بنظرة واحدة مضمونها أنهما يشتركان في إنتاج المعرفة.
•وبالرغم من المقاربة بينهما في أنهما ينتجان المعرفة، إلا أنه كان هناك من يزال يقر بالاختلاف بينهما من حيث الموضوع واللغة، لكن بقفزة هائلة قفزها الفيلسوف نيتشه وكذلك الفيلسوف هايدجر، دحروا هذا الاختلاف من خلال استخدامهم للغة الأدبية في التعبير عن أفكارهم وتصوراتهم، فغاص هايدجر في بحر البيان بمحسناته البديعية وما يشتمل عليه من استعارة ومجاز، فعشق الشعر والنثر، واعتبر اللغة وما تنطوي عليه من سحر وبلاغة هي سر الكينونة ومن خلالها يتم التعرف على هذه الكينونة، وكذلك كان نيتشه يفصح عن تصوراته وأفكاره الفلسفية من خلال استخدامه للغة أدبية رشيقة تنطوي على الصور الجمالية والمجازية والاستعارات، والتي جعلت أسلوبه مميزًا في انسيابيته وتدفقه.
•فنيتشه الفيلسوف الذي قدم فلسفته في قالب أدبي من خلال أسلوب السرد الروائي المعتق بالانزياح والجماليات هو في رأيي من أذاب الحدود والفواصل بين الفلسفة والأدب، فقد استخدم نيتشه اللغة الأدبية بما تزخر به من صور بديعة وجماليات للتعبير عن الحقائق والفكر. فمن خلال الأدب كان يتلمس نيتشه الحقيقة، واستطاع أن يصورها من خلال معطيات اللغة الأدبية المنسابة والمتدفقة والتي بثها معاني نفسه وروحه وألبسها رداء روحه ووجدانه، فعبّر عن الحقيقة بكل وجوهها من خير وحق وجمال وعدالة، وفسّر العالم وقام بتأويله من خلال هذه اللغة الأدبية رحبة المدى واسعة الأفق والتي وسعت نفسه ومشاعره، وعبّرت عن خوالج نفسه وروحه من خلال التعبير الرمزي والتصوير المجازي، وتجسد ذلك التعبير من خلال جل مؤلفاته الفلسفية وتحديدًا في مؤلفه البديع والقيم «هكذا تكلم زاردشت»، وبهذه الرؤية النيتشوية الوجدانية الماثلة من العمق الإنساني عمق العلاقة بين الفلسفة والأدب فجعلهما ذرية بعضها من بعض، فكلاهما يرفدان وهجهما من خلال رؤيتهما الرحبة للعالم، وكلاهما تجليات إبداعية إنسانية، وكلاهما يستمدان وجودهما من رحم الحرية، ففلسفة نيتشه تقوم على إدراك حقيقة الوجود باستجلاء عمق المشاعر الإنسانية وذلك من خلال تعبيراته الأدبية الساحرة والذي أجادها ببراعة، فمن خلال هذه التعبيرات استطاع أن يفصح عن تصوراته وأفكاره.
•إن الفلسفة النسقية التقليدية القديمة كانت لا تقبل هذا التقارب بينها وبين الأدب، ففلسفة «إيمانويل كانط» العقلانية لا تسمح بمقاربة الأدب الذي يغرق في الخيال، وينحو بعيدًا عن صرامة المنطق الذي يجافي فكرة التدفق والانسياب واستخدام الصور الجمالية، اختلف الأمر تمامًا مع الفلسفة المعاصرة، فجاء نيتشه ليزيد التقارب، وكذلك «آرثر شوبنهاور» الذي أكد على أن الإنسان لا يستطيع أن يخرج من أزمته إلا بالفن، وكذلك فعل الفيلسوف «هيجل»، الذي تناول أفكاره الفلسفية بلغة شاعرية وأعلى من قيمة الفن والموسيقى والتراجيديا، هكذا كانت الفلسفة المعاصرة التي قاربت بينها وبين الأدب. ومن أهم الفلسفات التي ولدت من رحم الأدب، هي الفلسفة الوجودية التي يتزعمها الفيلسوف «جان بول سارتر»، فتناول أفكاره الفلسفية برؤية أدبية ووجدانية عميقة، ونجد ذلك في روايته «الغثيان» التي أصّل فيها لنظرته للإنسان وفكرة وجوده، وكذلك نجد الفيلسوف «ألبير كامو» ينحو منحى سارتر في روايته «الغريب» التي عرض فيها للوجود الإنساني من خلال تعرضه لأزماته الوجودية، وانبثقت من خلال أعماله، سواء في رواية الغريب أو في كتابه «المتمرد»، رؤيته الخاصة عن الوجود الإنساني، وبلور رؤيته وصاغها بأسلوب أدبي ممزوج بمشاعره الإنسانية الفياضة، وبلغة الأديب صاغ أفكاره الفلسفية التي تبحث عن الماهية والوجود والحرية والحياة والموت.
•ويُعد الأديب الروسي «فيدور دستويفسكي» هو الأب الملهم للمذهب الفلسفي الوجودي، فأدبه الزاخر بالأفكار الفلسفية هو من أمدّ هذا المذهب بفكرة الوجودية، فأدب دستويفسكي هو تعبير عن الوجودية الإنسان وفهم طبيعته وسبر غور عمقه الإنساني من خلال تناول حياته وما يدور فيها من أحلام وآمال وتطلعات وانتكاسات ومخاوف وغيرها من المشاعر الإنسانية.
•لا شك أنه توجد علاقة وطيدة بين الأدب والفلسفة منذ نشأتهما، وبالرغم من نشوب معارك للفصل بينهما، لكنها لم تفلح في ذلك نظرًا للتقارب الشديد بينهما، فكما ذكرت آنفًا أنه توجد بينهما آصرة قربى من خلال وحدة الرؤية، فكلاهما يبحثان عن الحقيقة من خلال رؤيتهما للعالم، وكلاهما تجليات للإبداع الإنساني.•
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
ندوب الحرب التي لن تبرأ بصمت المدافع
توشك المفاوضات بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس أن تصل إلى ذروتها بإتمام اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة. ورغم أن جانب دولة الاحتلال غير مأمون بناء على التجارب التاريخية وبناء على تجارب مفاوضات الحرب الحالية، لكن المؤشرات والتسريبات التي رشحت خلال الأيام الماضية والمشهد العام في المنطقة والمزاج الأمريكي كلها تشير إلى أن إسرائيل مضطرة هذه المرة إلى التوقيع قبل بدء الفترة الرئاسية للرئيس الأمريكي ترامب.
إن هذه الخطوة كان يمكن أن تحدث منذ أكثر من عام لولا تعطش رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته اليمينية المتطرفة للدماء ولولا الأحقاد التي تستعر في نفوسهم ضد الشعب الفلسطيني، ولو حدثت في ذلك الوقت لكان يمكن لآلاف الأطفال الذين استشهدوا في هذه الحرب أن يكونوا من بين الذين سيفرحون بالقرار وهم يعودون إلى قراهم المدمرة ليبحثوا عما تبقى من ذكرياتهم وألعابهم وبعض طفولتهم.
لكن قتلة الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء لا يفهمون معنى الطفولة ولا قدسيتها حتى خلال الحرب ومن باب أولى لا يفهمون معنى أن تعود الأمهات الثكلى بأطفالهن فلا يجدن حتى قميصا فيه رائحة طفلها قد يخفف بعض حزنها أو يوقف دموع عينها المبيضة من الحزن والبكاء.
من حق الفلسطينيين أن يشعروا بالنصر رغم كل الخسائر التي منوا بها: خسائر في الأرواح التي قد تصل الآن بعد أن تتلاشى أدخنة الحرب إلى نحو 50 ألف شهيد وأكثر من 200 ألف جريح وبنية أساسية مهدمة بالكامل وغياب كامل لكل مظاهر الحياة الإنسانية وانعدام كامل للمواد الغذائية والطبية.. وشعور النصر مصدره القدرة على البقاء رغم الإبادة التي عملت عليها قوات الاحتلال، الإبادة المدعومة بأعتى الأسلحة الغربية التي جربها العدو خلال مدة تصل إلى 18 شهرا.
في مقابل هذا لا أحد يستطيع أن ينكر أن الموازين في المنطقة قد تغيرت بالكامل خلال هذه الحرب، والمنطقة في اليوم التالي لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار ليست هي المنطقة التي كانت عليها قبل يوم 7 أكتوبر.
وإذا كانت إسرائيل قد صفَّت الكثير من خصومها في هذه الحرب وفككت محور المقاومة وأثخنت الكثير من جبهاته وآخرها الجبهة السورية إلا أنها كشفت عن ضعفها في المواجهات المباغتة، وفضحت أسطورة أجهزتها الأمنية وقبتها الحديدية.
وفي مقابل ذلك فإن حركة حماس رغم ما تعرضت له من خسائر فادحة في رجالها وقياداتها الميدانية إلا أنها أثبتت في الوقت نفسه أنها منظمة بشكل دقيق ومعقد وأنها قادرة على الصمود وتجديد نفسها وتقديم قيادات جديدة.
والأمر نفسه مع حزب الله ومع إيران التي دفعتها هذه الحرب إلى دخول مواجهة مباشرة لأول مرة في تاريخها مع إسرائيل، ولا شك أن تلك المواجهات كشفت لإيران نفسها عن مواطن الضعف في منظوماتها كما كشف مواطن القوة.
ورغم أن بعض الخبراء يرون أن حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله يمكنهم تجديد قوتهم خلال المرحلة القادمة إلا أن الأمر يبدو مختلفا في سوريا التي يظهر أنها خرجت من المحور تماما سواء كان ذلك على المستوى الأيديولوجي أو حتى مستوى العمل الميداني واللوجستي.
وأمام هذا الأمر وتبعا لهذه التحولات ما ظهر منها وما بطن فإن الموازين في المنطقة تغيرت بالكامل، ولا يبدو أن ذلك ذاهب لصالح القضية الفلسطينية في بعدها التاريخي أو في جوهر ما تبحث عنه وهو دحر الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المحتلة ولو على حدود 5 يونيو 1967.
لكن هذا لا يعني أن المقاومة ستنتهي أو تنتهي نصرة القضية الفلسطينية من الشعوب الحرة المؤمنة بالقضية، بل ستزهر في كل مكان في فلسطين أشكال جديدة من المقاومة والندوب الذي أحدثتها الحرب في أجساد الفلسطينيين وفي أرواحهم، ستبقى تغلي وستكون بذورا لمواجهات أخرى أكثر ضراوة وأكثر قوة وإصرارا على النصر.