أفلام مهمة أنتجت في الأزمة ولم تجد الرواج الكافي لها..!

الشغف وحب المهنة يدفع النجوم للسينما رغم الظروف الصعبة والمعوقات

قوشحة: غياب الجمهور والأنترنيت وتردي واقعها، أدى لأغلاق دور السينما

الذيب: يجب الاستفادة من نجومية الفنانين وتذليل العقبات كي تعود السينما لألقها

لم يكن وجود دور السينما في سوريا غريبا عبر العقود الطويلة الفائتة، كانت كل المحافظات السورية فيها العديد من الصالات من مغربها إلى مشرقها، ففي مدينة دير الزور التي تبعد عن العاصمة 450 كم شرقا أربع صالات تعج بالنشاط والحركة، وإذا توجهنا حيث أقصى الشرق نحو مدينة القامشلي البعيدة أكثر فيها صالتان مثلا، ولا استثني بقية المحافظات من وجود العديد من الصالات، والذاكرة تحفل بالكثير من الذكريات عنها حيث يخصص يوم في الأسبوع للنساء، وبقية الأوقات تزدحم بالوافدين.

عشت هذه الفصول الجميلة في تلك المدن "دير الزور والحسكة والقامشلي ورأس العين وحلب واللاذقية، بينما في دمشق كانت دور السينما تحف بي من كل الجوانب ووحده الشارع الذي يقع فيه مكتبي توجد ثلاث دور للسينما، وعلى امتداد الشارع صعودا ونزولا أكثر من سبع صالات أخرى.

مثلما كنت متابعا لألقها، كنت أيضا شاهدا على زوالها رويدا رويدا أمام عيني وكل عام تتوقف واحدة وتبقى مجرد صالة يخيم عليها الظلام وبعض الأنشطة الموازية من أجل سد نفقاتها، وسرعان ما تحول بعضها الى مقاهي علنية ومخفية يلوذ بها الباحثين عن الظلام وملاذ آمن!

أمر يومياً من أمام سينما الإهرام ودنيا وغيرها التي بقيت لفترة قصيرة تعرض بعض الأفلام القديمة لمن يود تمضية بعض الوقت، ورائحة الدخان المنبعثة منها تزكم الأنوف، ويتشابه وضعها مع وضع بقية الصالات التي باتت مجرد فسحة للهو.

وحدها سينما الكندي المواجهة لمكتبي تماما وسط دمشق بقيت تقيم نشاطها السينمائي على استحياء وتعرض الأفلام وتقام فيها بعض المهرجانات على استحياء، بينما استعادت سينما سيتي ألقها بعد تجديدها وأصبحت مهوى أفئدة من يقدم عرضه السينمائي الأول فيها، ومن يستطيع الدخول إليها وتتوفر لديه ثمن التذكرة الباهظة الثمن.

ضربات موجعة

حول هذا الموضوع يتحدث الناقد السينمائي نضال قوشحة قائلا: فيما يتعلق بدور العرض من المعروف أن دور العرض السينمائية في سوريا تراجع عددها بشكل متتالي وكانت في التسعينيات تنوف عن المئة صالة في عموم سوريا وبدأت في تناقص الى أن وصلت الى هذا الحال، فمثلا دمشق العاصمة فيها اقل من عشر صالات ومنها اثنتان للقطاع العام.

والسبب في هذا عزوف الجمهور عن ارتياد الصالات السينمائية لحضور الأفلام لظروف عديدة منها: دخول مرحلة الفيديو في الثمانينات ثم عصر "الستيلات" والفضائيات وشبكة الأنترنيت، وهي ثلاث ضربات موجعة للجمهور والطقس السينمائي فكانت الجفوة.

وهذا ليس معناه إعفاء بعض الجهات العامة من المسؤولية عن هذا العزوف الجماهيري بأداء سينمائي وثقافي غير متزن أدى الى فجوة مع الزمن بين السينما كصالات وجمهورها وتحاول المؤسسة العامة للسينما منذ سنوات، وبعض الجهات الأهلية ردم هذه الهوة الآن، لكن الموضوع صعب جدا ويحتاج لجهود مضاعفة لإعادة الثقة بين الجمهور والصالات السينمائية.

ويتابع قوشحة مبررا أغلاق أبواب صالات السينما بقوله: تقلص عددها يعود لتراجع المردود المالي لأصحابها، وبالتالي غياب الصيانة واستقدام المعدات الحديثة، وأصبحت أشبه بالخردة، ومنذ أكثر من 20 سنة ساعدت الدولة أصحاب الصلات وألغت رسوم الجمارك عمن يريد استيراد تقنيات السينما من أصحاب الصالات، ولكن بقي موضوع ترميم وإصلاح الصالات مكلف جدا، وأصحابها غير مقتنعين باستعادة هذه الأموال من خلال الطقس الجماهيري السائد، لذلك لم يحقق هذا الإجراء القانوني الفائدة، وتراجع مستوى الصالات العمراني مما اضطر أصحابها إلى التوقف نهائيا عن العمل.

ويرى قوشحة انه من أجل إعادة الروح للمشهد السينمائي أنه يجب أن تنظر إليه الدولة بإهتمام بالغ، وكذلك من أولي الأمر في القطاع الخاص لإيجاد حل جذري لهذا الموضوع ولإعادة حالة التفاعل بين الجمهور والسينما كي يعود إلى سابق عهده.

وعن غياب الأفلام السينمائية تأثير الدراما عليها، ودور المؤسسة العامة للسينما أجاب قوشحة الذي يعرف أجواء المؤسسة من الداخل قائلا: الإنتاج السينمائي ليس محصورا في المؤسسة العامة للسينما، وهي أستوديو حكومي لايحتكر الإنتاج له، للإنتاج السينمائي ودليل ذلك أن الإنتاج السينمائي يسير بالتوازي مع القطاع الخاص، وفي سنة1974 كلاهما انتجا ثمانية أفلام مناصفة وهو رقم قياسي ولم يتكرر إلا في عام 2012 بالمؤسسة حيث تم إنتاج خمسة أفلام طويلة ونتحدث عن الفيلم الروائي الطويل وليس القصير ولا الوثائقي.

السبب الحقيقي هو قلة المردود الجماهير ي وتراجع أداء القطاع الأهلي في الإنتاج السينمائي، وكانت أخر المحاولات للفنانة إغراء التي بغيابها غاب تماما الإنتاج الخاص في علاقته مع الجمهور كونها معروفة لدى الجمهور السوري إلا من بعض المحاولات البسيطة التي صارت نادرة...وهذا إنتاج أقل من الشحيح بالنسبة لبلد لديه عراقة ثقافية وحضارية وعرفت السينما قبل مئة عام.

وأوضح قوشحة الذي يشغل المكتب الصحفي في المؤسسة أيضاً: أن ما تقوم به المؤسسة هو الجهد السينمائي الوحيد في سوريا لكن حتى الإنتاج الحكومي تأخر نتيجة أوضاع الحرب فيها، كنا ننتج أربعة أفلام سنويا ثم ثلاثة ومنذ عامين ننتج فيلمين روائيين طويلين فقط، وعشرات الأقلام القصيرة المتنوعة، وهذا أقل ما يجب، ولكن ليس بالإمكان أكثر مما كان، ونأمل في قادم الأيام أن تتغير الأمور طبعا. أما عن الآفاق فهذا مرهون بظروف سياسية واقتصادية كبرى في المنطقة والعالم، والخروج من فوهة الأزمة.

تعددت الأسباب

من الذي تسبب بخسارة الآخر..ومن الذي تووقف قبل الآخر؟ سؤال تبدو الإجابة عليه واسعة وتحتاج للخوض في تفاصيل عديدة، فهل كان لتردي واقع الإنتاج السينمائي السبب المباشر في إنقطاع الجمهور عن السينما مما أدى لإهمال الصالات من قبل أصحابها، ولم تعد هناك أفلام حديثة، ولا إنتاج سينمائي زاخر يجذب الجمهور..؟

أم أن أصحاب الصالات كانوا هم البادئين في هذا الإهمال وبقيت الصالات ومرافقها قديمة لا يطالها التحديث ولا العناية مما تسبب بعزوف المنتجين الذين يهمهم تسويق أفلامهم واستعادة المردود المادي الذي صرفوه..؟

وهل نهضة الدراما التلفزيونية هي السبب الحقيقي التي سرقت الجمهور والاهتمام الذي أدار ظهره عن السينما، كما أدار الفنانين والمنتجين اهتماماتهم عنها، وأصبح الفيلم السينمائي نادرا..؟

العودة تحتاج لمحفزات

للمزيد من الإيضاح أخذنا رأي المستشار الدرامي منصور الديب الذي يهتم بالواقع السينمائي فقال: كانت سنوات السبعينات من القرن الماضي هي العصر الذهبي للسينما في سوريا، فقد كان الجمهور يملأ الصالات والعروض متعددة وبعض الأفلام تبقى معروضة لأشهر وتحقق إيرادات كبيرة جعلت القطاع الخاص السوري يتشجع لإنتاج العشرات من الأفلام سنويا، وتأسس جمهور متابع لنجوم السينما العالميين وكل ماهو جديد.

وكانت الإيرادات تسمح بتحقيق أرباح للفيلم السوري من السوق السورية فقط، دون الحاجة لأسواق أخرى. شهر العسل بين الجمهور السوري والسينما لم يمتد لفترة طويلة فعندما بدأ الحصار الاقتصادي على سوريا في بداية الثمانينات لأسباب سياسية، وطال الأفلام السينمائية أيضا فلم تعد الأفلام الحديثة تعرض في الصالات، ولم تستطع المؤسسة العامة للسينما أن تكون مرنة بشكل كاف لاستيعاب ما جرى وتتخلى عن مرسوم حصر الاستيراد بها الذي جفف إمكانية استيراد الأفلام التي كان الجمهور معتادا على متابعتها مع ملاحظة أن السينما لم تكن أولوية أمام الحكومات السورية المتعاقبة أمام حاجات الفرد اليومية التي تراها أكثر أهمية، ولأن العالم يكره الفراغ فقد نشط سوق الفيديو بشكل كبير وبات الجمهور وبالذات من فئة الشباب يتابعون الأفلام السينمائية الحديثة عن طريق جهاز الفيديو، دون أن يضطر للذهاب إلى صالات السينما التي لا تعرض هذه الأفلام أصلا، ولم تعد صالة السينما في وعي هذا الجمهور هي المكان الذي يحتوي هذا العرض فحدثت قطيعة مكانية بين الأفلام وصالة السينما، وانصرف الجمهور نهائيا عنها لأنها تعرض بالأفلام القديمة وبعض الأفلام المسربة التي لم تكن كافية لاستعادة هذا الجمهور، وبالرغم من محاولة إيجاد حل عن طريق منح القطاع الخاص حق استيراد الأفلام بشكل محدود في صالتي سينما الشام في تسعينات القرن الماضي إلا أن سعر البطاقة العالي ومرونة سوق الفيديو جعلت عودة الجمهور صعبة كثيرا، ولم يعد الفيلم السوري في القطاع الخاص يحقق إيرادات تذكر من السوق السورية بالرغم من وجود أكثر من 90 صالة سينما في سوريا لكنها كانت فارغة ومهملة بفعل مرور السنوات مما اضطرها للإقفال في معظمها، ولم يبق من منتج غير القطاع العام السوري المتمثل في المؤسسة العامة للسينما والتي لم تكن مهتمة حقيقة في صنع أفلام تصل إلى الجمهور، وما كان يحدث لبعض الأفلام من جماهيرية معقولة كانت تعرض في صالات الكندي المملوكة للقطاع العام كان بفعل الصدفة وليس بسبب العمل الممنهج لاستعادة جمهور للصالات، وباتت صناعة الأفلام هي جزء من الصناعة الثقافية ولا تزيد عن فيلم أو فيلمين سنويا، وبالرغم من إنتاج أفلام مهمة على هذا الصعيد ولكنها كانت خاسرة تجاريا بشكل كامل، وتحتاج لدعم مستمر من ميزانية الدولة، وانسحب القطاع الخاص بشكل نهائي من السوق ما خلا عدد من أفلام الفنان دريد لحام والتي لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة خلال ثلاثة عقود من الزمن.

ويتابع الديب قائلا: كان مهرجان دمشق السينمائي فسحة تمتد لأسبوعين كي يتعرف الجمهور كل سنتين مرة على عدد كبير من الأفلام حيث كانت السينما العربية من المحيط للخليج حاضرة ومن آسيا وأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وأفريقيا وبعد انقضاء المهرجان يعود لأشرطة الفيديو وأقراص الـ C.D والفضائيات والأنترنيت، وغابت طقوس السينما كما أثرت الأزمة الحالية في إيقاف مهرجان دمشق السينمائي أيضا.

كل تلك الأسباب أدت إلى تردي واقع السينما وإغلاق الصالات، هكذا يقول الديب ودون تلك المقومات لن يتحسن المشهد السينمائي، والأمل موجود بولادة أجيال من المخرجين والفنانين الذين لم ييأسوا من هذا الواقع واستطاعوا نقل لغتهم السينمائية إلى الدراما التلفزيونية وتحقيق نجاحات كبيرة ونجومية ممتدة على مساحة الوطن العربي هذه المجموعة تهجس دائما في تقديم مشاريع سينمائية وكلهم أمل أن يعود القطاع الخاص السوري إلى الصناعة السينمائية مستغلا نجومية هؤلاء الفنانين السوريين وقدرتهم على التواصل مع جمهور متوفر ولكنه يحتاج إلى محفزات كبيرة للعودة لمشاهدة الأعمال السينمائية في مكانها الطبيعي في صالات السينما.

بارقة أمل وشغف النجوم

لم يتسن لنا حوار أحد من أصحاب صالات السينما كونهم هجروها دون رجعة كما يبدو أيضا وباتت بيد مستثمرين لها كمكان ليس إلا، ومن خلال تجوالنا على ما يمكن رؤيته مما هو مسموح، لمسنا مدى تردي واقع هذه الصالات، حتى أن بعضها لايزال يضع ملصقات لأفلام قديمة جدا من باب التذكير أنهم موجودين فقط.

وكما علمنا من متابعين وجيران هذه الصالات أنها باتت مهجورة وأن أصحابها لا يستطيعون تغيير أوصافها لعمل آخر، والبعض أشتكى من الإهمال الذي يصيبها، ومن الأجواء التي تحيط بها.

وفيما يتعلق بالأفلام السينمائية ومن خلال متابعتنا لمسنا وجود عدد من المخرجين الشباب يحملون على كاهلهم إنتاج أفلام سينمائية عديدة منهم جود سعيد والمهند كلثوم ونجدت أنزور وغيرهم ويشاركون فيها بالمهرجانات الدولية حيث وجهتهم هناك ويحصدون الجوائز التي تمكنهم من سد نفقات الإنتاج، ويقدمون رؤيتهم البصرية والإخراجية بطريقة منمقة وجميلة.

كما لازالت السينما هاجس النجوم الكبار أمثال الفنان أيمن زيدان الذي لم يتخلى عن الشاشة الكبيرة عبر ومثل وأخرج وساهم بالكتابة في عدة أفلام لاقت القبول والاحترام وكان فيلمه الأخير "أيام الرصاص" أول فيلم سوري يعرض في السعودية، وسبق له أن قدم زيدان أفلام مميزة كثيرة منها "رحلة يوسف" فيما كان للفنان دريد لحام عدة أفلام خلال سنوات الحرب بالتعاون مع المخرج باسل الخطيب.

هناك مبادرات بين الحين والآخر لكي تبقى جذوة السينما مشتعلة ولا تنطفئ، ولكنها محاولات فردية تقوم على الشغف الذي يحمله نجوم الفن، بينما يعتمد البقية مما لايزال في جو السينما باحثا عن التميز الخارجي وما يرد منه.

ومع ذلك فأن كل هذه الإنتاجات السينمائية وغالبها أفلام صنعت بتقانة عالية وجهود كبيرة من قبل صانعيها الذين تحدوا كل المصاعب، لا تجد لها الرواج المطلوب داخل البلد ويقتصر عرضها على بضعة أيام بعد العرض الأول، وتحتاج لدور سينما جماهيرية لترويجها، وسيقبل عليها الجمهور بمحبة فيما لو لاقى التشجيع والمكان اللائق كما يحدث في المسرح عندما يعرض عمل مسرحي يكون الازدحام على أشده.

السينما تحتاج لعناية خاصة وجهود متضافرة بين الدولة والجهات الأهلية كي تنتعش من جديد.

ولعل سينما الخيام التي تتوس دمشق بمساحتها الشاسعة ومسرحها الكبير لازالت تتنفس بعض السينما على استحياء ببعض الأفلام القديمة وبشكل صوري فقط، فيما تغطي مصاريفها الكثيرة من المقهى الذي تم استحداثه فيها وكذلك من ريوع المسرح الذي يعج في مسرحيات الأطفال والفرق الخاصة، وعدا ذلك تبدو الحياة السينمائية متوقفة، ولولا بعض أنشطة مؤسسة السينما القليلة وبعض ممتهني الشغف السينمائي لما كان للسينما السورية حضورا مطلقا وهي التي تجاوز عمرها المئة عام.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المؤسسة العامة للسینما الأفلام السینمائیة الإنتاج السینمائی صالات السینما القطاع الخاص دور السینما بعض الأفلام فی سوریا سینما فی

إقرأ أيضاً:

"هذا سيجعلهم يصرخون".. ألفريد هيتشكوك يتحدث عن أسرار صناعة الأفلام

نشر موقع بي بي سي، مقابلة مع صانع الأفلام الأيقوني، ألفريد هيتشكوك، الذي اشتهر بأنه "سيد التشويق"، وتحدث لهيئة الإذاعة البريطاني في عام 1964 عن سبب مهارته في اللعب بمشاعر الجمهور وتوقعاته التي أبقت الجمهور ملتصقًا بالشاشة.

 وقال هيتشكوك، عندما سُئل عن كيفية إتقانه لقدرته الخارقة على إبقاء جمهور السينما على حافة مقاعدهم: "أؤمن بوضع الرعب في ذهن الجمهور، وليس بالضرورة على الشاشة".


وكان المخرج السينمائي، يشرح لهيو ويلدون من هيئة الإذاعة البريطانية أن براعته في بناء التشويق السينمائي والحفاظ عليه كانت متجذرة في فهمه البديهي للنفسية البشرية، وبحلول هذا الوقت، كان هيتشكوك قد أحدث ثورة في نوع أفلام الإثارة بسلسلة من الأفلام الكلاسيكية التي لعبت على نفسية جمهورها، مثل Vertigo وPsycho وStrangers on a Train  وكان بارعًا في فن زيادة التوتر ببطء على الشاشة، وكان يعتقد أن مفتاح التشويق لا يكمن في صدمة المشاهدين فحسب، بل والتلاعب بمهارة بإدراكهم وعواطفهم.
وفي مشاهد أفلامه، كان يبني ببطء تصعيدًا متزايدًا للتهديد، مما يطيل قلق الجمهور من حدوث شيء رهيب في أي لحظة، وحين يقدم لهم مكافأة الانتظار كما يقول، كان رواد السينما يغمرهم شعور شديد بالارتياح.

 


" الرعب في ذهن الجمهور لا الشاشة"

في مشهد مخيف في فيلم الطيور عام 1963، حيث تبدأ المخلوقات فجأة في شن هجمات عنيفة غريبة وغير مبررة على الناس، أظهر هيتشكوك هذا الفنن و في المشهد، نرى ميلاني التي تؤدي دورها تيبي هيدرن، وهي تدخن بجوار ملعب على صوت أطفال المدارس وهم يغنون، وتستمر الكاميرا في الانتقال بين ميلاني والعدد المتزايد تدريجيًا من الغربان التي تهبط على معدات الملعب خلفها، وكل لقطة لميلاني هي إطار أقرب لوجهها، مما يزيد من إدراك الجمهور لتجاهلها للخطر المتزايد الذي يشكله سرب الطيور عليها.
وشبه هيتشكوك نفسه بكونه مشغل سكة حديدية متعرجة - شكل مبكر من أشكال الأفعوانية - يعرف إلى أي مدى يدفع جمهوره لإثارتهم ولكن لا يذهب إلى حد جعل الأمر غير سار، وقال: "أنا، في بعض النواحي، الرجل الذي يقول، أثناء بنائه، ما مدى الانحدار الذي يمكننا أن نصل إليه في أول انخفاض؟"، و"هذا سيجعلهم يصرخون"،  "إذا قمت بالغوص عميقًا جدًا، فستستمر الصراخات بينما تتجه المركبة بأكملها إلى الحافة وتدمر الجميع، لذلك، لا يجب أن تذهب بعيدًا، لأنك تريد أن ينزلوا من السكة الحديدية المتعرجة وهم يضحكون من المتعة، مثل المرأة التي تخرج من الفيلم، وهو فيلم عاطفي للغاية، وتقول، أوه، لقد بكيت كثيراً".
وأطلق المخرج على هذا الإحساس "إشباع الألم المؤقت"، ويشرحه: "سيتحمل الناس أوجاع فيلم التشويق بشرط أن تمنحهم شكلًا من أشكال التحرر التنفيسي من التوتر".

لقد تعلم تكلفة المبالغة في الأمر عندما صنع فيلم الإثارة والتجسس Sabotage عام 1936، حيث عرض الفيلم قصة زوجة تكتشف ببطء أن زوجها يخطط لهجوم إرهابي، وقد قوبل باستجابة فاترة من الجمهور والنقاد عند عرضه.


الخطأ

وألقى هيتشكوك باللوم على مشهد معين في الفيلم في هذا المشهد، وفي هذا المشهد، تتصاعد حدة التوتر بشكل مطرد عندما يسافر صبي عبر لندن لتسليم طرد، دون أن يدرك أنه يحمل في الواقع قنبلة مزودة بمؤقت، وقد عُرضت القنبلة بالفعل على الجمهور، مما زاد من توقعاتهم بكارثة وشيكة، ثم ينتقل المشهد بين لقطات للصبي وطرد القنبلة والساعات المختلفة التي يمر بها، والتي تُظهر أن الوقت ينفد.
وقال هيتشكوك لهيئة الإذاعة البريطانية: "لقد مر الوقت، حان وقت التفجير في هذا الوقت أو ذاك، وقد رسمت هذا الشيء، وخففت من حدة الأمر برمته، ثم كان ينبغي لشخص ما أن يقول يا إلهي هناك قنبلة!، ويلتقطها ويلقيها من النافذة، ولكان الجميع يشعرون بالارتياح، لكنني ارتكبت الخطأ، تركت القنبلة تنفجر وتقتل شخصًا ما، تقنية سيئة، لم أكررها قط."
أدرك هيتشكوك أن التشويق لكي ينجح، لابد أن يكون متجذرًا في توقع الجمهور للخطر، لذا، كان المشاهدون بحاجة إلى أن يكونوا على دراية بالأشياء التي لم تكن معروفة لشخصيات الفيلم، ومن ثم، يمكنهم أن يستنتجوا مسبقًا ما قد يحدث، وأن يقلقوا بشأن النتيجة.


الصوت والصمت

وكان هيتشكوك يخطط بدقة للقطات ليقدم هذه الحقائق الضرورية للمشاهد للسماح للتشويق، في فيلمه الكلاسيكي "شمالاً إلى الشمال الغربي" عام 1959، ففي المشهد الشهير حيث يتعرض روجر ثورن هيل (كاري جرانت) للرعب من قبل طيار يرش المحاصيل، تقضي اللقطات الواسعة الافتتاحية وقتًا في تحديد مدى تسطح المناظر الطبيعية وانفتاحها، لذا، عندما هاجمت الطائرة المنقضة جرانت، وبدأ قاتله المحتمل في إطلاق النار، عرف الجمهور بالفعل أنه لا يوجد مكان له للاختباء.
وفي بعض الأحيان، كان هيتشكوك يقترب من التفاصيل الصغيرة المكشوفة، مما أجبر المشاهد على رؤيتها.
في مشهد محوري في فيلم "النافذة الخلفية" عام 1954، تقترب الكاميرا لإظهار يدي ليزا فريمونت (جريس كيلي)، وهي تشير إلى اكتشافها لخاتم السيدة ثوروالد المقتولة إلى إل بي جيفريز (جيمس ستيوارت)، الذي يراقب من الشقة المقابلة، و تنتقل الكاميرا إلى لقطة مقربة لوجه الزوج القاتل لارس ثوروالد (ريموند بور)، الذي يلاحظ أن ليزا تشير، ثم رفع رأسه ليرى من تشير إليه، وفجأة أدرك أن جيفريز يراقبه، وبدون أي حوار، أدرك الجمهور الآن أن ليزا وجيفريز في خطر.

وعلى الرغم من أن هيتشكوك كان بارعًا للغاية في استخدام الصوت أو الصمت لتكثيف التأثير السينمائي، مثل الكمانات الصارخة الشهيرة التي استخدمها برنارد هيرمان في فيلم Psycho في الستينيات، إلا أنه اعتبر نفسه في المقام الأول راويًا بصريًا.
ولقد بدأ مسيرته المهنية في إخراج الأفلام الصامتة في عشرينيات القرن العشرين، وتعلم تجاوز حدود ما تفعله الكاميرا عادةً، لقد جرب باستمرار حركات الكاميرا الجريئة والتحرير المبتكر لنقل تفاصيل الحبكة الأساسية أو دوافع الشخصيات أو حالتهم العاطفية.
وفي كثير من الأحيان، كان يستخدم لقطات من وجهة نظر معينة لجعل الجمهور منخرطًا بشكل حميمي في القصة، وإغرائه بالتعاطف مع محنة الشخصية الرئيسية. يمكنك أن ترى هذا في فيلم الإثارة لعام 1958 عن الهوس، Vertigo استخدم فيه تقنية Dolly Zoom الشهيرة الآن - وهي تقنية مربكة حيث تقوم الكاميرا بالتكبير أثناء سحبها للخلف في نفس الوقت - للسماح للمشاهدين بتجربة الشعور بالخوف والصدمة والارتباك في نفس الوقت الذي يصاب فيه بطل الرواية بالدوار، مما يساعد في خلق هذا الارتباط العاطفي.
وفي Rear Window، يشاهد الجمهور جزءًا كبيرًا من الفيلم من وجهة نظر ستيوارت المقعد على الكرسي المتحرك، وهو يتجسس على جيرانه، و يرى المشاهدون الأحداث تتكشف من خلال عيون ستيوارت، ويكشف عن أدلة حول مقتل جاره في نفس الوقت الذي يكشف فيه هو عن أدلة، مما يزيد من التوتر المتلصص غير المريح في الفيلم.


ممارسة ألعاب العقل

كان إقناع جمهوره بالاستثمار في هذا الانخراط العاطفي أمرًا أساسيًا بالنسبة لهيتشكوك، حتى يتمكن من التلاعب بمشاعرهم، وكان يعتقد أن هذا أكثر أهمية بكثير من موضوع الفيلم الفعلي.
وكان هيتشكوك هو الذي روّج لمصطلح "MacGuffin" وهو بمثابة مؤامرة تدفع دوافع الشخصيات والقصة إلى الأمام دون معنى جوهري.
ويقول: " يمكن أن يكون الفيلم عن أي شيء على الإطلاق، طالما أنني أجعل هذا الجمهور يتفاعل بطريقة معينة مع أي شيء أعرضه على الشاشة ".
ويضيف: "إذا بدأت تقلق بشأن تفاصيل الأوراق التي يحاول الجواسيس سرقتها، حسنًا، فهذا هراء كبير، لا يمكنني أن أهتم بالأوراق التي يسعى الجواسيس للحصول عليها".
وكان هيتشكوك يعلم أنه ليس من الضروري أن يُظهر للجمهور كل شيء لإثارة هذا النوع من الشعور المكثف لديهم، وأن ما يتخيله الجمهور غالبًا ما يكون أكثر رعبًا مما يرونه بالفعل.
في فيلم Psycho، يوجد مشهد سيئ السمعة يُظهر إتقانه للتأليف والمونتاج لاستخراج أقصى قدر من رد الفعل العاطفي من رواد السينما، كما قال توم بروك من BBC Talking Movies في عام 2020: "لا يمكن لأي وصف لفظي لفيلم Psycho أن ينقل تأثيره الحشوي الحقيقي".
وفي التسلسل، طُعنت الشخصية ماريون كرين (جانيت لي) في الحمام، ويظهر هذا المشهد في مونتاج سريع يقطع بين صور المهاجمة وهي تحمل السكين، ويقابلها لقطات مقربة لوجهها المذعور، مقترنة بموسيقى تصويرية صراخية متنافرة.
ويخلق الإيقاع السريع للمونتاج، الذي يتزامن بشكل لا تشوبه شائبة مع الأصوات المزعجة، إحساسًا حادًا بالعنف والضعف والذعر لدى المشاهد، دون عرض صور للسكين وهي تخترق الضحية أو مشاهد دماء صريحة.

وقال هيتشكوك: "حسنًا، لقد تعمدت جعل هذا المشهد قاسيًا للغاية، ولكن مع تطور الفيلم، أضفت قدرًا أقل وأقل من الرعب الجسدي فيه لأنني كنت أترك ذلك في أذهان الجمهور، ومع استمرار الفيلم، كان هناك قدر أقل وأقل من العنف ولكن التوتر في ذهن المشاهد زاد بشكل كبير، كنت أنقله من الفيلم إلى أذهانهم، لذا، في النهاية، لم يكن هناك أي عنف على الإطلاق ولكن الجمهور بحلول هذا الوقت كان يصرخ بعذاب قائلاً الحمد لله!".

مقالات مشابهة

  • الأمير أباظة لـ الوفد: التنشيط الثقافي والفني والسياحي هدف مهرجان الإسكندرية السينمائي.. فيديو
  • لبناء وعي الأجيال تجاه البيئة.. "بذور الأفلام" في مدينة القصير بالبحر الأحمر
  • كيف ألهم عالم الموضة والأزياء الأفلام السينمائية؟
  • برعايه وزارة الثقافة.. عرض أفلام ملتقى رؤية بنادي سينما الإسماعيلية
  • القومي للسينما يعرض أفلام ملتقى رؤية بنادي سينما الإسماعيلية
  • 3 أفلام مصرية تشارك في المهرجان العراقي الجديد سومر السينمائي «أون لاين»
  • "هذا سيجعلهم يصرخون".. ألفريد هيتشكوك يتحدث عن أسرار صناعة الأفلام
  • مهرجان الجونة السينمائي يُكرِّم أيقونة السينما المصرية محمود حميدة بجائزة الإنجاز الإبداعي
  • جامعة الملك عبدالعزيز تنظم مهرجان الأفلام السينمائية لطلبة الجامعات السعودية والأكاديميين وصناع الأفلام