مقتل الوطن في محو السياق
تاريخ النشر: 27th, September 2024 GMT
الهشاشة الفكرية من أمراض الخطاب السياسي السوداني. أحد أخطر تجليات هذه الهشاشة في الفترة الأخيرة ظاهرة التسطيح بمحو السياق.
فمثلا قد يدين البعض جهات لوقوفها مع بقاء الدولة السودانية أو بقاء مؤسسة الجيش (وقوفا يتعدي قيادته الحالية كلحظة عابرة في كتاب التاريخ ). أو قد يهاجم آخر مجموعات مسلحة ويعيب عليهما الوقوف مع الجيش في معركة الفاشر.
ما يجعل هذه الإدانات شاذة، حتي في نسبية السياسة، هو محو السياق وإطلاق هذه الأحكام في ذهول تام عن تعرض السودان لغزو خارجي علي يد مليليشا ثابت عليها إرتكاب التطهير العرقي والعنف الجنسي واسع النطاق وجرائم الحرب وطرد ملايين المواطنين من دورهم وقراهم ومدنهم.
ويذهل موزعو الإدانات – من يسار وليبرال وإسلام فيرشن تووو كاره للمسلمين أينما كانوا ومحتفل بكل مصيبة حلت بهم ومساند لكل جلاديهم من منطلق طائفي مجروح من رفض مسلمو فيرشن ون لمدرسته – يذهلون عن طبيعة الجنجويد الذين استباحوا أي شبر دخلوه فاغتصبوا جماعيا وقتلوا ونهبوا وشردوا ومارسوا جرائم الحرب والتطهير العرقي. وهذا الذهول العمد ينطبق أيضا علي الجماعات المحايدة بتاعة مسافة واحدة من طرفي الصراع بعد أن تتم مساواة كاذبة بينهما.
في أمنيزيا السياق الإختيارية تنسي المجموعات أعلاه أن لا مبالاتها أو أمنياتها بهزيمة الجيش تعني إنتصار الغزو الجنجويدي وإعادة إستعمار السودان وزوال الدولة السودانية كما نعرفها.
ياتي عمي السياق الطوعي من جهات متحالفة مع الغزو والجنجويدي أو من جهات غير متحالفة ولكنها لا تملك الشجاعة للوقوف مع الحق لان ذلك قد يكلفها جفاء الحلف الجنجويدي بإمكانياته الضاربة في الحاضر والمستقبل.
ولكن المصيبة الأكبر أن نفس هذا العمي الذي يسهل لمشروع الغزو الجنجويدي الأجنبي ياتي أيضا من جماعات لا شك في وطنيتها ونزاهتها. لكن تكمن مشكتلها في أن عقلها “معسم” وغير قادر علي استيعاب ومواكبة تطورات تاريخية تسارعت, ما يجعله يفكر في الدولة السودانية ومؤسساتها بنفس منهج تفكير ما قبل الحرب. و يتمترس في تموقعه وكأن الحرب لم تحدث وكأن الجنجويد لم يخرجوا الملايين من ديارهم إلي مصير مظلم وكان الأجنبي لم يحشد أشد الأسلحة فتكا لفرض إرادته علي السودان.
بالنسبة لهذه الجماعات فان ترويع الجنجويد لعشرات الملايين وتشريدهم ليست قضية مركزية. والغزو الخارجي بالتسليح والتمويل وتجنيد مئات الآلاف من الأجانب لاستباحة عرض السوداني وماله وارض قضية جانبية لا تصلح – معية العنف الجنجويدي – لان تكون أهم مرجعية للتموقع السياسي.
واكثر المشاهد فداحة هو أن فقر وعي السياق والقصور عن إدراك أن أهم جوانب السياسة هو الترتيب الصحيح للأولويات لا ينحصر علي بسطاء القوم أو صغار الشباب تحت التدريب ولكنه يمتد ليشمل جماعات كان المتوقع منها الكثير.
يقال أنه في أوقات الشدائد الوطنية في بلاد فارس، يجتمع مجلس الأمن القومي ويقيم الموقف ويعرض لكبير أيات الله الخيارات المتاحة في شكل عدة كؤوس من السم عليه أن يختار أن يشرب أحدها.
ويختار المرشد الكاس الذي يحتوي علي سم أقل شرا فما يسبب وجع البطن ليس مثل ما يقتل . وفي هذا إدراك أن السياسة لا تتيح دائما خيارات نظيفة مقابل خيارات شيطانية في حدوتة تصلح للأطفال.
وليست كل الخيارات العكرة سواء. وكثيرا ما يكون فرق المقدار باهمية حاسمة. فأن تفرض علي فتاة أن تغطي شعرها قسرا أو أن تجلد شابا أحتسي كاسا من الجعة سلوك عدواني سخيف، تجب مقاومته، ولكنه يختلف نوعيا من إغتصاب الفتاة أمام أخوتها وطردهم إلي منافي الفقر والذل والمسغبة.
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
«حماس» السياق وإعادة الإعمار
قال موسى أبو مرزوق، رئيس مكتب العلاقات الخارجية في «حماس» لصحيفة «نيويورك تايمز» إنه لم يكن ليؤيد مثل «هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)» على إسرائيل لو كان يعلم بالدمار الذي سيلحقه بغزة. وإن هناك بعض الاستعداد داخل «حماس» للتفاوض حول مستقبل أسلحتها.
وعلى الفور رفضت «حماس» ذلك، وقالت إنها «متمسكة بسلاحها المقاوم بعدّه سلاحاً شرعياً، ولا نقاش في ذلك طالما هناك احتلال لأرضنا الفلسطينية»، وأكدت أن تصريحاته لا تمثل موقف الحركة. وقال البعض إن تصريح أبو مرزوق «أخذ خارج السياق».ومن يتابع تاريخ تصريحات أبو مرزوق فسيجد أنه أكثر مسؤول في «حماس» قيل إن تصريحاته أخذت خارج السياق، وتعرضت للنفي والتصحيح، وليس بعد عملية السابع من أكتوبر، بل أقدم من ذلك، ومع كل حرب في غزة.
عام 2009، وبعد حرب «الرصاص المصبوب» أو «الفرقان»، قال أبو مرزوق بمحاضرة في مخيم اليرموك جنوب دمشق: «صحيح خسرنا 1500 شهيد، لكن بناتنا الأحرار وأخواتنا المجاهدات أنجبن في فترة العدوان أكثر من 3500 طفل فلسطيني».
قامت يومها الدنيا ولم تقعد، وقيل إن الحديث أخذ خارج سياقه، واتضح بعد ذلك أن المعلومات كانت بناء على تقرير أممي يحكي عن معاناة أهل غزة، وأورد أرقاماً عن المأساة، لكن «حماس» اجتزأت تلك المعلومات لتحولها إلى انتصارات.
وأبو مرزوق نفسه هو من قال، وفي أثناء حرب غزة الأخيرة، بعد السابع من أكتوبر، إن أنفاق غزة تهدف إلى حماية المقاتلين، وليس المدنيين، وإن حماية المدنيين في غزة مسؤولية الأمم المتحدة وإسرائيل. ثم قيل إنها أخذت أيضاً خارج السياق.
وأبو مرزوق هو نفسه من قال أيضاً بمقابلة مع «المونتور» إن الحركة «تسعى إلى أن تكون جزءاً من منظمة التحرير الفلسطينية، وإنها سوف تحترم التزامات المنظمة»، موحياً بأن «حماس» قد تعترف بإسرائيل.
ثم عاد أبو مرزوق قائلاً عبر «إكس» إن «هناك إساءة فهم» لتصريحاته، ومؤكداً أن «حماس لا تعترف بشرعية الاحتلال الإسرائيلي... ولا تقبل بالتنازل عن أي حق من حقوق شعبنا الفلسطيني، ونؤكد أنَّ المقاومة مستمرة حتى التحرير والعودة».
هذه لمحة بسيطة لتناقضات، ومناورات، أبو مرزوق، الذي قال أيضاً في مقابلة «نيويورك تايمز»، قبل يومين، وهذا المذهل، إن بقاء «حماس» بالحرب ضد إسرائيل كان بحد ذاته «نوعاً من النصر». حيث شبه «حماس» بشخص عادي يقاتل مايك تايسون، بطل الملاكمة السابق.
وقال: «إذا نجا المبتدئ غير المدرب من لكمات تايسون، فسيقول الناس إنه منتصر». مضيفاً أنه من «غير المقبول» أن نزعم أن «حماس» فازت، خصوصاً بالنظر إلى حجم ما ألحقته إسرائيل بغزة!
وعليه، من سيقوم بعد كل ذلك بإعادة إعمار غزة؟ من لديه الاستعداد لتمويل منطقة خاضت حربها الخامسة، وقد تكون السادسة في الطريق؟ من سيمول منطقة هذه هي عقلية قياداتها في الخارج، فما بالك بالداخل؟
هذه ليست مناكفة، بل أسئلة جادة تجاه أناس غير جادة حتى في تصريحاتها! فما تفعله «حماس» كارثة، ولا بد من عودة السلطة إلى غزة، والباقي تسويف.