معركة الخرطوم تحريك أم تحرير؟

(إعادة إنتاج توازن الضعف)

د. أحمد عثمان عمر

(١)

تحت قصف العقول والقصف المضاد ضمن دعاية الحرب التضليلية وإعلاء شأن الحرب النفسية، تضيع الحقيقة وهي أولى ضحايا الحروب. وبالرغم من ذلك، يصح الاستنتاج بأن الجيش المختطف قد نجح لأول مرة في الإنتقال من حالة الانسحاب المزمن والفشل حتى في الدفاع عن قياداته العسكرية وثكناته، إلى الهجوم الواسع في مدينتي الخرطوم والخرطوم بحري، بغض النظر عما حققه من نتائج شابها التضخيم من أنصاره والتبخيس من أنصار المليشيا المجرمة.

فالثابت هو أن الجيش المختطف قد تقدم من مدينة أم درمان صباح أمس الخميس ليدخل الخرطوم عبر كبري الحديد وكبري الفتيحاب ، وأستطاع أن يحقق تقدما غير واضحة حدوده قبل أن يتم صده من قبل المليشيا المجرمة والمستحكمة في وضع دفاعي أريح حتما. كذلك تقدم الجيش المختطف عبر كبري الحلفايا في اتجاه مدينة بحري ، ووسع من تقدمه في منطقة الكدرو وتراجعت المليشيا المجرمة أمامه قبل أن تستعيد تماسكها جزئيا. والموقف العملياتي الآن غير واضح في ظل مزاعم الطرفين ودعايتهما الحربية في ظل غياب أي تقرير من جهات مستقلة عما يحدث فعليا في ارض الواقع. فلا الحديث الذي يبثه أنصار الجيش المختطف عبر منصات دعاية الحركة الإسلامية المجرمة مشعلة الحرب عن التحرير صحيح ، ولا أكاذيب المليشيا المجرمة عن الكمين صحيحة أيضاً!!

(٢)

في تقديرنا أن ما حدث هو محاولة تحريك لا تحرير، قام بها الجيش المختطف، لتحسين موقف قيادته التفاوضي في أي مفاوضات قادمة، أخذا في الإعتبار مطالبته بخروج المليشيا المجرمة من القصر الجمهوري وفك الحصار عن القيادة العامة، حتى يستطيع المشاركة في مفاوضات جنيف، وطلبه لذلك في المفاوضات التمهيدية بينه والولايات المتحدة الأميركية في جده. فالهدف من الانفتاح الهجومي لم يكن تحرير الخرطوم بكل تأكيد، لأن الوضع العسكري وتوازن القوى لا يسمح بذلك بكل بساطة. والدلالة على ذلك أن الهجوم قد استبق خطاب رئيس مجلس قيادة الانقلاب والبائد غير الشرعي للجيش المختطف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، والذي ورد به زعم بأن سلطة الأمر الواقع ساعية للسلام وأنها استجابت لكل المبادرات بعكس ممانعتها المستمرة لذلك في أرض الواقع. فتزامن الهجوم مع الخطاب وخلوه من أي إشارة إلى التقدم في أرض المعركة وإشارته إلى الرغبة في السلام مع مطالبته بإعلان المليشيا المجرمة كتنظيم إرهابي، يؤكد يقين الانقلابي المزمن الذي يرفض المجتمع الدولي الاعتراف به كسلطة من أن ما يتم مجرد تحريك لن يقود إلى تحرير. هذا بالطبع في حال إستبعاد أن الهجوم قد تم أصلا ضده للزعم بأنه هو الممسك بلجام الجيش المختطف والمانع له من الانتصار كما يروج البعض، وكأن سفره خارج البلاد يفقده التحكم في قواته كما يفقده صفته كقائد للمجموعة المختطفة للجيش والتابعة للحركة الإسلامية المجرمة.

(٣)

الحقيقة تبقى هي أن معركة الأمس الواسعة والضارية، محطة مؤسسة ومهمة لدعاية من يسعرون الحرب ويوزعون وهم إمكانية حسمها عسكريا لمصلحة الجيش المختطف. وهي مجرد وقود دعائي لرافضي وقف الحرب والداعين لاستمراراها حتى تأكل الأخضر واليابس وتحيل البلاد لخراب مستدام. لذلك نرى الحملة الدعائية المنسقة والكبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي عن سيطرة الجيش المختطف على وسط الخرطوم والصمت المطبق عن حقيقة أن المليشيا المجرمة قد نجحت في إيقاف تقدمه. كذلك نشهد ترويجيا واضحا لترحيب المواطنين بقوات الجيش المختطف عند دخولها لأي منطقة كانت تحت سيطرة تلك المليشيا ، في تجاهل تام لأن هذا الترحيب أمر طبيعي لأنه من ناحية خلاص من جحيم المليشيا المجرمة ، ومن ناحية أخرى دعم لصغار الضباط والعسكريين المكتوين فعليا بنار الحرب ويدفعون ثمنها ، وهم ابناء الشعب السوداني الذين تدفع بهم القيادة المختطفة للجيش إلى هذه المحرقة، وليس تأييدا لهذه القيادة ولا الحركة الإسلامية المجرمة التي تتوارى خلفها. ومن ناحية استراتيجية تقدم الجيش المختطف في بعض المعارك ، أو استعادته لبعض المواقع من المليشيا المجرمة جيد، لأنه يعيد إنتاج توازن الضعف ، ويمنع إنتصار أحد طرفي الحرب، ويقلص من تقدم المليشيا المجرمة ويضعف من قدراتها ويمنعها من المزيد من التقدم ، وتوهم القدرة على تحقيق نصر كاسح وحسم المعركة برمتها عسكرياً. وتوازن الضعف شرط أساسي لتتمكن القوى المدنية من إعادة العسكر للثكنات وحل المليشيا المجرمة مستقبلاً ، ومانع من تفتيت البلاد في المرحلة الحالية ، وممكن للمجتمع الدولي من الضغط على الطرفين المجرمين المتحاربين.

(٤)

ومفاد ما تقدم هو أن معارك الأمس في الخرطوم وبحري لن تحسم الحرب، ولن تقود إلى تحرير المدينتين من قبضة المليشيا المجرمة ، لكنها حتما تضعف هذه المليشيا ، كما تضعف الجيش المختطف وإن حقق بعض التقدم والانتصار الجزئي. فهو على الاقل يسيطر على شرق النيل الان عبر حزام ناري لكن سيطرته على أي مواقع في الخرطوم بالمشاة غير مؤكدة. فخسائر الطرفين في الأرواح كبيرة بلاشك ، وخسائر الجيش المختطف بوصفه الجهة التي قادت الهجوم في مواجهة مليشيا مجرمة ومستحكمة دفاعيا على الارجح أكبر، هذا فوق الخسائر المادية الكبيرة جدا التي حدثت نتيجة هذه الاشتباكات. والدرس المستفاد هو أن القتال لن يحسم الحرب، وأن تحسين المواقف التفاوضية عبر تحسين الموقف الميداني سيستمر ، وأن الجيش المختطف مصر على مواصلة الحرب رغم ضعفه الواضح لأن الحركة الإسلامية المجرمة المسيطرة عليه مصرة على ذلك، وأن المليشيا المجرمة تنادي بالسلام لا رغبة فيه ولكن في محاولة للحفاظ على تفوقها العسكري واحتلالها لما يزيد على السبعين في المائة من أراضي البلاد. وبالرغم من أن تحركات الجيش المختطف الهجومية تعيد إنتاج توازن الضعف لمصلحة الحركة الجماهيرية استراتيجياً ، إلا أن ذلك لا يعني تأييد هذه التحركات ودعم استمرار الحرب أو الانخراط في العمل الدعائي لمعسكر الحرب المعروف بالبلابسة. فقراءة أثر التطورات في البعد الايجابي الداعم لسلطة الجماهير المستقبلية، يستلزم الاستمرار في عدم الانخراط في الحرب بدعم أي من أطرافها تكتيكياً ، لأن ذلك يكرس الرفض للحرب كوسيلة لحسم الصراع السياسي، ويعزز موقف الحركة الجماهيرية كطرف ثالث سلمي يسعى لتحقيق أهداف ثورته عبر الوسائل السلمية. فالمطلوب هو ترك القوى المتحاربة تخوض حربها لوحدها وتضعف بعضها بعضاً ، حتى يتسني للحركة الجماهيرية هزيمتها مستقبلاً. فملاحظة أن إعادة إنتاج توازن الضعف مفيد لحركة الجماهير مستقبلاً ، لا يعني الانخراط في الحرب ودعم ايا من أطرافها لأن هذا يهزم إستراتيجية حركة الجماهير القائمة على النضال السلمي ويجعل القوى المدنية داعمة للحرب، وفي هذا تغليب للتكتيكي على الاستراتيجي وإنتهازية واضحة كاملة الدسم. على قوى شعبنا الحية والصامدة الاستمرار في رفض الحرب ومع رسملة نتائجها سياسيا في كل الأحوال ، والاستعصام بنضالها السلمي ويقينها من أن العسكر للثكنات بعد هيكلة الجيش الواحد ، والجنجويد وكل المليشيات بما فيها حركات جوبا المسلحة تنحل.

وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!!

٢٧/٧/٢٠٢٤

الوسومالجيش الدعم السريع الخرطوم تحرير معارك

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الجيش الدعم السريع الخرطوم تحرير معارك

إقرأ أيضاً:

اتجاهات مستقبلية

اتجاهات مستقبلية
هل يكون عام 2025 عام انتهاء الأزمة الأوكرانية؟

 

 

اندلعت الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، عندما بدأت روسيا عملية عسكرية واسعة النطاق، وغير مسبوقة منذ عقود، على الأراضي الأوكرانية. ومع اقتراب دخول الحرب عامها الرابع، اتسعت الخسائر المباشرة وغير المباشرة للحرب من كلا الجانبين.
اقتصاديًّا، تحملت أوكرانيا خسائر مباشرة تجاوزت 150 مليار دولار نتيجة تدمير المدن والمرافق العامة وتعطل النشاط الاقتصادي. وعلى الجانب الروسي، فرضت العقوبات الغربية أعباء ثقيلة على الاقتصاد، إذ يُقَدَّر أنها أدت إلى خسائر بمليارات الدولارات سنويًّا في قطاع الطاقة وحده، مما أثر على عائدات النفط والغاز التي تشكل جزءًا كبيرًا من الإيرادات الروسية.
ووفقًا للتقديرات الدولية الرسمية، فإن إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب مع روسيا سوف تستغرق وقتًا طويلًا، وتتطلب استثمارات ضخمة؛ إذ قد يستغرق الأمر حوالي 10 إلى 20 عامًا لإعادة إعمار البنية التحتية في أوكرانيا بشكل كامل. ففي عام 2022، وتحديدًا في سبتمبر، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، كانت تكلفة إعادة إعمار أوكرانيا تبلغ حوالي 349 مليار دولار أمريكي، فيما قدرت لجنة من الخبراء الدوليين أن تكلفة إعادة الإعمار قد تتراوح بين 350 إلى 750 مليار دولار أمريكي، مع التركيز على إعادة بناء البنية التحتية الحيوية، مثل الطرق والجسور والمنازل والمرافق العامة. غير أن هذه التقديرات باتت تختلف كلية بعد استمرار الاستنزاف المتبادل للطرفين؛ إذ تختلف التقديرات بناءً على تطور الوضع السياسي والاقتصادي في أوكرانيا، وكذلك على التعاون الدولي والمساعدات المالية التي يمكن أن تقدمها الدول والمنظمات الدولية، والتوقيت المحتمل لانتهاء الحرب.
ومع دخول الحرب عامها الثالث، واقتراب عام 2025، تتزايد التكهنات حول فرص التوصل إلى تسوية سياسية. فالتطورات الأخيرة، بما في ذلك التغيُّرات في القيادة السياسية العالمية، قد تلعب دورًا مهمًّا؛ لاسيّما أن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قد تؤدي إلى تغيُّرات في النهج الأمريكي تجاه النزاع، مع توقعات بالتركيز على المفاوضات الثنائية وتخفيف الدعم العسكري لأوكرانيا، مما قد يفتح المجال أمام تهدئة الصراع. وفي الوقت نفسه، فإن النفوذ الروسي في الشرق الأوسط أخذ يتراجع بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، مما يضعف قدرتها على استخدام تلك المنطقة كأداة ضغط دولية.
وعلى مستوى الجهود الدولية لحل النزاع فقد شهدت محاولات متكررة، منها قيام كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بمواصلة الضغط لإحياء المفاوضات، بينما تسعى دول مثل تركيا والصين والإمارات إلى لعب دور الوسيط. في هذا السياق، أكد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن الأولوية يجب أن تكون لوقف إطلاق النار، وبدء حوار جاد يعتمد على مبادئ القانون الدولي واحترام السيادة الوطنية.
إن التداعيات الاقتصادية العالمية للحرب، بما في ذلك أزمة الطاقة وارتفاع أسعار الغذاء، دفعت الدول الأوروبية إلى تسريع خططها للتخلص من الاعتماد على النفط والغاز الروسيين، مما قد يعيد تشكيل المشهد الاقتصادي والجيوسياسي على المدى البعيد.
في النهاية يبقى تحقيق السلام في أوكرانيا بحلول عام 2025 تحديًا كبيرًا، لكنه ليس مستحيلًا. بيد أن تحقيق هذا الهدف يتطلب إرادة حقيقية من الأطراف المتنازعة، بالإضافة إلى دعم دولي جاد، يضمن خلق صيغة للتوازن، تلبي مصالح الجميع، وتُنهي واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في العصر الحديث.


مقالات مشابهة

  • حاكم الخرطوم: الشعب السوداني يقف خلف الجيش
  • الجيش الأمريكي: نفذنا غارات دقيقة ضد منشأة قيادة وسيطرة ومرافق إنتاج أسلحة للحوثيين
  • وتيرة تحرير الجزء المتبقي من الخرطوم وأم درمان وبحري ستتسارع بصورة كبيرة
  • اتجاهات مستقبلية
  • ماذا يعني استعادة ود راوة ضمن خطة تحرير ولاية الجزيرة
  • تنسيقية الداجو تطالب أبنائها بصفوف المليشيا الانسحاب فورا والانضمام للقوات المسلحة في معركة الكرامة
  • «صحة الخرطوم»: «130» قتيل ومصاب بسبب الحرب خلال أسبوع
  • ماجدة موريس: إعادة إنتاج الأعمال الفنية يحتاج لمعايير خاصة
  • تجربة إعادة تشييد مدينة الخرطوم
  • بعد الجنوب.. هذه معركة الجيش المُقبلة