دماء وأحلام تلاشت بين أروقة الإرادة: صدى الفشل وصمود الأمل وَوجع الاسئلة
تاريخ النشر: 27th, September 2024 GMT
د. الهادي عبدالله أبوضفآئر
مسطول معجب بجارته. كان يراها كل يوم، فتخطف أنظاره بجمالها الهادئ، وابتسامتها التي تشع دفئاً وطمأنينة. ظل يراقبها من بعيد، في كل مرة يراها، كان يخوض في عالم من الخيال، يخترع حوارات لا تنتهي، يكتب نهايات لمواقف لم تحدث، ويتخيل لقاءات مليئة بالحب والأمل. لكن الواقع كان أقسى من أن يسمح له بتلك الأحلام لأنها ست بيت.
كما جاء ارتباك الرجل أمام جارته يحمل في طياته الكثير من الدلالات التي تنطبق على طبيعة الثورات. مثلما تبدأ الثورة بحماس متأجج في عيون الثوار، تترافق مع تضحيات جسيمة في سبيل غد أفضل، تتكشف لاحقاً لحظات من الدهشة والارتباك. تلك اللحظات تأتي حين يجد الثوار أنفسهم في مواجهة مع ساسة انتهازيين، يلتفون حول مصالح الأمة لتحقيق مكاسب ضيقة وشخصية. عندها، يبدأ الوعي الثوري في التعمق، ويدرك المخلصون أن المرحلة ليست مجرد نضال ضد نظام مستبد أو قوى خارجية، بل صراع داخلي ضد أطماع من يحاولون سرقة النضال. هنا، تزداد أهمية الوعي، وتتضاعف الحاجة إلى حكمة ثورية تميز بين أصحاب الضمائر الحية الذين يسعون إلى مصلحة الوطن، وبين أولئك الذين لا يرون في الثورة إلا فرصة لتحقيق مكاسبهم الخاصة. إنها لحظة فارقة تضع أمام الثوار تحدياً مزدوجاً: مواجهة التحديات الخارجية، والتصدي للمخاطر الداخلية التي قد تكون أشد خطراً على مسيرة التغيير. وفي خضم هذه اللحظات المفصلية، يطرح الثوار سؤالا ملحا على أنفسهم يبعث على التأمل. عندها، يطل سؤال المسطول، الذي يتردد على ألسنة الكثيرين،
"المؤسس، أخبارو شنو؟"
(أكتوبر، رجب أبريل وديسمبر) ثورات ضاعت في غفلة من الزمن، ولكن يبقى الأمل متجذراً في أعماق النفوس، يزهر بشجاعة، ويولد العزم من رحم الأحزان. لكن هذه المرة، يولد بوعي وإدراك أعمق، إذ يدرك الثوار أن النضال الحقيقي لا ينتهي بالثورة ذاتها، بل يبدأ بعدها. فالمعركة الحقيقية تكمن في إعادة بناء الحياة ومواجهة الحقائق بعقلانية وصبر. وإن الطريق نحو الحرية والتحرر لا ينتهي بإسقاط نظام أو تحقيق نصر مؤقت، بل يتطلب مواصلة الجهود لتأسيس وطن قائم على العدالة، والوحدة، والمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل أفضل للجميع. عندما يدرك الثوار الغاية التي تتمتع برؤية واضحة، وقتها يصبحوا قادرين على توجيه جهودهم نحو مستقبل مشرق، يحقق أحلامهم وينسج قصص انتصاراتهم. إن وضوح الهدف يُعدّ الركيزة الأساسية للنضال، وهو الذي يمنح القوة اللازمة لمواجهة التحديات. ويعد بمثابة خارطة طريق، ترسم المسار الصحيح وتساعد في إزالة العوائق وفتح أبواب الفرص الممكنة. من دونها، قد يتبدد الحماس الثوري، رغم ما يتحلى به الشفاتة والكنداكات من شجاعة، إلى سلسلة من الفشل. ان الثورة التي تفتقر إلى رؤية واضحة تشبه القبطان الذي يبحر بلا بوصلة وسط محيط شاسع. فامتلاك سفينة قوية ليس كافياً، بل الأهم هو معرفة الوجهة، والقدرة على توجيه تلك السفينة نحو الهدف المنشود، مهما علت الأمواج واشتدت العواصف.
لقد أرهق الثوار أنفسهم، نثروا دماءهم وقدموا أرواحهم قرباناً على مذبح الحرية، ولكن السؤال: ما قيمة تلك التضحيات إن ظل الهدف بعيد المنال؟ كم مرة رأينا كرة الثورة تنحرف عن مرمى التغيير، أو تتوقف على حافة المرمى، مصيرها متأرجح بين الجدل والشك؟ حينها يبدأ الحديث، وتتصاعد الأصوات المتضاربة، فتتشتت الآراء، ويضعف الحماس الذي كان مشتعلاً في البداية. فالناس بطبيعتها لا تحتفي إلا بالنصر الواضح والجلي، الذي يتقن فيه الثوار فن الوصول إلى الهدف، ويسجلون في صفحات التاريخ تحولاً كبيراً يراه الجميع، حيث يصبح كل فرد شاهداً على انتصار لا يُمحى، انتصار ينقش في ذاكرة الأمة بأحرف من نور، ويحول الحلم الجماعي إلى حقيقة ملموسة يعيشها الجميع. إنه ذلك الانتصار الذي لا يقتصر على كونه لحظة عابرة في التاريخ، بل يُرسخ كمعلم ثابت في وعي الأمة، تراه الأجيال القادمة قبساً من نور يرشدهم في مسيرة التغيير. ان النصر الحقيقي هو ذاك الذي يُغير الواقع بعمق، ويمنح شعوراً بالانتماء إلى قصة نجاح مشتركة، تُروى في كل بيت، وتُحكى كأمثولة عن الإرادة والحرية، تُذكرنا بأن تضحيات بشة وعبدالعظيم وست النفور وكل الشهداء لم تذهب سدى، بل أزهرت ثمارها وأينعت في أرض الوطن.
فالسؤال الذي يظل يتردد في الأفق: هل حقا يعرف الساسة أين تكمن تلك الأهداف؟ هل يدركون الوجهة التي يجب أن يسيروا نحوها، أم أنهم يركضون بلا بوصلة، تائهين في ميدان شاسع؟ يكتفون باستعراض مهاراتهم في الميدان الثوري، قد ينجحون للحظة في خطف أنظار الجماهير، فتُضاء الوجوه بالدهشة، وتعلو الهتافات إعجاباً بما يرونه من حركاتٍ بارعة، وكأنهم يشاهدون عرضاً مسرحياً أو مهارات برشلونة. لكن سرعان ما يخفت ذلك البريق، وينقشع سحر اللحظة العابرة، ليبقى الجو مشحوناً بسؤالٍ "من خرج منتصراً في نهاية المطاف؟" فالجماهير، وإن كانت تستمتع بالعروض الآنية، لا تنخدع بالبريق المؤقت أو المهارات البراقة التي تخلو من الجوهر. انها تنتظر شيئًا أكبر من المتعة اللحظية، تنتظر النتيجة التي تضع حداً لكل شك، تلك اللحظة التي تنطلق فيها صافرة الحكم، مُعلنةً أن الهدف قد تحقق. فالعبرة ليست في العروض الجذابة أو الانبهار العابر، بل في تحقيق النصر الذي لا يقبل الجدل، ويتوج الجهود ويُسجل في صفحات التاريخ، لأن الناس لا تهتف ولا تحتفي إلا بمن يجيد تسجيل الأهداف في مرمى التغيير، ويترك بصمةً لا تمحى. وهكذا، يبقى السؤال معلقاً بين ثوارٍ لا يزالون يغذون أحلامهم بالآمال والطموحات الكبيرة، يتقدمون بخطوات مثقلة بالتضحيات، وبين جماهير تنتظر بفارغ الصبر نتيجة حاسمة تشفي غليل تطلعاتها. وكأن هناك مسافة خفية تفصل بين الطموح والإنجاز، بين الرغبة في التغيير وتحقيقه فعلياً. تلك المسافة التي تُختبر فيها الإرادة، وتنكشف فيها الحقائق، ليبقى الأمل معلقاً كخيط رفيع بين الحلم والواقع، وبين العمل والنتيجة، منتظراً اللحظة التي ستُحسم فيها المعركة لصالح من يجيد اقتناص الفرصة وتحويل الرؤية إلى حقيقة لا جدال فيها.
abudafair@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الذی ی
إقرأ أيضاً:
تعاني سرطان القولون.. مركز الملك سلمان يفتح باب الأمل لطفلة من غزة
انطلاقًا من قيم العطاء والتراحم والتكافل الاجتماعي، التي تميزت بها المملكة العربية السعودية، ممثلة بمركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، بادر المركز بتقديم العلاج للطفلة الفلسطينية "إلين رامي الكيلاني" البالغة من العمر (7) سنوات من قطاع غزة، التي تعاني حالة صحية حرجة إثر إصابتها بسرطان القولون ويتطلب تدخلًا طبيًا عاجلًا.
ونظرًا لاحتياج حالتها الصحية إلى علاج متخصص غير متوفر في القطاع، تكفل المركز بنقلها إلى المملكة الأردنية الهاشمية، إذ بدأت رحلتها العلاجية في مركز الحسين للسرطان بالعاصمة عمّان.فريق طبي متخصصوتخضع الطفلة حاليًا لإشراف فريق طبي متخصص في الأورام؛ لتوفير الرعاية الصحية الكاملة لها ومساعدتها على تجاوز هذه المرحلة الصعبة واستعادة عافيتها مانحًا إياها الأمل والدعم في رحلتها نحو الشفاء.
#مركز_الملك_سلمان_للإغاثة يفتح باب الأمل للطفلة الفلسطينية “إلين الكيلاني” من #غزة بتكفله بعلاجها في مركز الحسين للسرطان بالعاصمة الأردنية عمّان pic.twitter.com/jm2c6gsWUM— مركز الملك سلمان للإغاثة (@KSRelief) October 24, 2025
أخبار متعلقة إنفاذًا لتوجيهات القيادة.. جراحة لطفلة فلسطينية كانت تعاني عيبًا في القلبعاجل: السعودية تدشن المرحلة الأولى من مشروع تركيب محطات تحلية المياه في غزةعاجل: السعودية توزع مساعدات مخصصة للأطفال في غزة.. وذووهم يشكرون المملكةوعبّر ذوو الطفلة عن امتنانهم وتقديرهم العميق للمملكة العربية السعودية قيادةً وشعبًا، على هذه المبادرة النبيلة، مشيرين إلى أن جهود مركز الملك سلمان للإغاثة شكّلت لهم بارقة أمل وطوق نجاة في ظل الظروف الإنسانية الصعبة التي يعيشها سكان قطاع غزة.علاج المرضى الفلسطينيينيذكر أن مركز الملك سلمان للإغاثة ينفذ مشروعًا نوعيًا لعلاج مرضى السرطان من الأشقاء الفلسطينيين في قطاع غزة بالتعاون مع مؤسسة ومركز الحسين للسرطان في الأردن، يستفيد منه 150 فردًا بقيمة تبلغ 3 ملايين و615 ألف دولار أمريكي.
ويأتي ذلك تأكيدًا لحرص المملكة على مد يد العون للمرضى والمحتاجين حول العالم، والتخفيف من معاناة الشعوب المتضررة، انطلاقًا من رسالتها السامية في مساعدة الإنسان أينما كان، وترسيخًا لمكانتها منارة للعمل الإنساني والإغاثي العالمي.