د. الهادي عبدالله أبوضفآئر

مسطول معجب بجارته. كان يراها كل يوم، فتخطف أنظاره بجمالها الهادئ، وابتسامتها التي تشع دفئاً وطمأنينة. ظل يراقبها من بعيد، في كل مرة يراها، كان يخوض في عالم من الخيال، يخترع حوارات لا تنتهي، يكتب نهايات لمواقف لم تحدث، ويتخيل لقاءات مليئة بالحب والأمل. لكن الواقع كان أقسى من أن يسمح له بتلك الأحلام لأنها ست بيت.

حتى جاء ذلك اليوم الذي تغير فيه كل شيء. مات زوجها فجأة، وتحولت أيامها إلى حداد طويل. ومع مرور الوقت وانتهاء عدتها، رأى المسطول أن الفرصة مواتية ليقترب منها، فحزم أمره وقرر الذهاب إلى منزلها ليطلب يدها، وقف أمام بابها، شعر بأن قلبه قد يخرج من صدره من فرط التوتر. طرق الباب بخفة، متمنياً ألا تخذله الكلمات التي طالما رسمها في خياله، (صرمان لاقى قرمان). وحين فتحت الباب، ظهرت على طبيعتها، بدون مساحيق، ولا زينة وجهها خالياً من الروج، محملة بثقل الأيام والأحزان. في تلك اللحظة، ارتبك المسطول اختفت كل السيناريوهات التي رسمها. وضاع، منه الكلمات، وانسلت من عقله كل المشاعر التي كان يحاول التعبير عنها. لم يجد سوى كلمة خرجت من فمه، وكأنه يهرب من اللحظة: "المرحوم... أخبارو شنو؟"

كما جاء ارتباك الرجل أمام جارته يحمل في طياته الكثير من الدلالات التي تنطبق على طبيعة الثورات. مثلما تبدأ الثورة بحماس متأجج في عيون الثوار، تترافق مع تضحيات جسيمة في سبيل غد أفضل، تتكشف لاحقاً لحظات من الدهشة والارتباك. تلك اللحظات تأتي حين يجد الثوار أنفسهم في مواجهة مع ساسة انتهازيين، يلتفون حول مصالح الأمة لتحقيق مكاسب ضيقة وشخصية. عندها، يبدأ الوعي الثوري في التعمق، ويدرك المخلصون أن المرحلة ليست مجرد نضال ضد نظام مستبد أو قوى خارجية، بل صراع داخلي ضد أطماع من يحاولون سرقة النضال. هنا، تزداد أهمية الوعي، وتتضاعف الحاجة إلى حكمة ثورية تميز بين أصحاب الضمائر الحية الذين يسعون إلى مصلحة الوطن، وبين أولئك الذين لا يرون في الثورة إلا فرصة لتحقيق مكاسبهم الخاصة. إنها لحظة فارقة تضع أمام الثوار تحدياً مزدوجاً: مواجهة التحديات الخارجية، والتصدي للمخاطر الداخلية التي قد تكون أشد خطراً على مسيرة التغيير. وفي خضم هذه اللحظات المفصلية، يطرح الثوار سؤالا ملحا على أنفسهم يبعث على التأمل. عندها، يطل سؤال المسطول، الذي يتردد على ألسنة الكثيرين،
"المؤسس، أخبارو شنو؟"

(أكتوبر، رجب أبريل وديسمبر) ثورات ضاعت في غفلة من الزمن، ولكن يبقى الأمل متجذراً في أعماق النفوس، يزهر بشجاعة، ويولد العزم من رحم الأحزان. لكن هذه المرة، يولد بوعي وإدراك أعمق، إذ يدرك الثوار أن النضال الحقيقي لا ينتهي بالثورة ذاتها، بل يبدأ بعدها. فالمعركة الحقيقية تكمن في إعادة بناء الحياة ومواجهة الحقائق بعقلانية وصبر. وإن الطريق نحو الحرية والتحرر لا ينتهي بإسقاط نظام أو تحقيق نصر مؤقت، بل يتطلب مواصلة الجهود لتأسيس وطن قائم على العدالة، والوحدة، والمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل أفضل للجميع. عندما يدرك الثوار الغاية التي تتمتع برؤية واضحة، وقتها يصبحوا قادرين على توجيه جهودهم نحو مستقبل مشرق، يحقق أحلامهم وينسج قصص انتصاراتهم. إن وضوح الهدف يُعدّ الركيزة الأساسية للنضال، وهو الذي يمنح القوة اللازمة لمواجهة التحديات. ويعد بمثابة خارطة طريق، ترسم المسار الصحيح وتساعد في إزالة العوائق وفتح أبواب الفرص الممكنة. من دونها، قد يتبدد الحماس الثوري، رغم ما يتحلى به الشفاتة والكنداكات من شجاعة، إلى سلسلة من الفشل. ان الثورة التي تفتقر إلى رؤية واضحة تشبه القبطان الذي يبحر بلا بوصلة وسط محيط شاسع. فامتلاك سفينة قوية ليس كافياً، بل الأهم هو معرفة الوجهة، والقدرة على توجيه تلك السفينة نحو الهدف المنشود، مهما علت الأمواج واشتدت العواصف.

لقد أرهق الثوار أنفسهم، نثروا دماءهم وقدموا أرواحهم قرباناً على مذبح الحرية، ولكن السؤال: ما قيمة تلك التضحيات إن ظل الهدف بعيد المنال؟ كم مرة رأينا كرة الثورة تنحرف عن مرمى التغيير، أو تتوقف على حافة المرمى، مصيرها متأرجح بين الجدل والشك؟ حينها يبدأ الحديث، وتتصاعد الأصوات المتضاربة، فتتشتت الآراء، ويضعف الحماس الذي كان مشتعلاً في البداية. فالناس بطبيعتها لا تحتفي إلا بالنصر الواضح والجلي، الذي يتقن فيه الثوار فن الوصول إلى الهدف، ويسجلون في صفحات التاريخ تحولاً كبيراً يراه الجميع، حيث يصبح كل فرد شاهداً على انتصار لا يُمحى، انتصار ينقش في ذاكرة الأمة بأحرف من نور، ويحول الحلم الجماعي إلى حقيقة ملموسة يعيشها الجميع. إنه ذلك الانتصار الذي لا يقتصر على كونه لحظة عابرة في التاريخ، بل يُرسخ كمعلم ثابت في وعي الأمة، تراه الأجيال القادمة قبساً من نور يرشدهم في مسيرة التغيير. ان النصر الحقيقي هو ذاك الذي يُغير الواقع بعمق، ويمنح شعوراً بالانتماء إلى قصة نجاح مشتركة، تُروى في كل بيت، وتُحكى كأمثولة عن الإرادة والحرية، تُذكرنا بأن تضحيات بشة وعبدالعظيم وست النفور وكل الشهداء لم تذهب سدى، بل أزهرت ثمارها وأينعت في أرض الوطن.

فالسؤال الذي يظل يتردد في الأفق: هل حقا يعرف الساسة أين تكمن تلك الأهداف؟ هل يدركون الوجهة التي يجب أن يسيروا نحوها، أم أنهم يركضون بلا بوصلة، تائهين في ميدان شاسع؟ يكتفون باستعراض مهاراتهم في الميدان الثوري، قد ينجحون للحظة في خطف أنظار الجماهير، فتُضاء الوجوه بالدهشة، وتعلو الهتافات إعجاباً بما يرونه من حركاتٍ بارعة، وكأنهم يشاهدون عرضاً مسرحياً أو مهارات برشلونة. لكن سرعان ما يخفت ذلك البريق، وينقشع سحر اللحظة العابرة، ليبقى الجو مشحوناً بسؤالٍ "من خرج منتصراً في نهاية المطاف؟" فالجماهير، وإن كانت تستمتع بالعروض الآنية، لا تنخدع بالبريق المؤقت أو المهارات البراقة التي تخلو من الجوهر. انها تنتظر شيئًا أكبر من المتعة اللحظية، تنتظر النتيجة التي تضع حداً لكل شك، تلك اللحظة التي تنطلق فيها صافرة الحكم، مُعلنةً أن الهدف قد تحقق. فالعبرة ليست في العروض الجذابة أو الانبهار العابر، بل في تحقيق النصر الذي لا يقبل الجدل، ويتوج الجهود ويُسجل في صفحات التاريخ، لأن الناس لا تهتف ولا تحتفي إلا بمن يجيد تسجيل الأهداف في مرمى التغيير، ويترك بصمةً لا تمحى. وهكذا، يبقى السؤال معلقاً بين ثوارٍ لا يزالون يغذون أحلامهم بالآمال والطموحات الكبيرة، يتقدمون بخطوات مثقلة بالتضحيات، وبين جماهير تنتظر بفارغ الصبر نتيجة حاسمة تشفي غليل تطلعاتها. وكأن هناك مسافة خفية تفصل بين الطموح والإنجاز، بين الرغبة في التغيير وتحقيقه فعلياً. تلك المسافة التي تُختبر فيها الإرادة، وتنكشف فيها الحقائق، ليبقى الأمل معلقاً كخيط رفيع بين الحلم والواقع، وبين العمل والنتيجة، منتظراً اللحظة التي ستُحسم فيها المعركة لصالح من يجيد اقتناص الفرصة وتحويل الرؤية إلى حقيقة لا جدال فيها.

‏abudafair@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الذی ی

إقرأ أيضاً:

في يوم تذكاره.. باقة من أقوال بادري بيو عن المسيح ومريم العذراء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تحيي الكنائس اليوم ذكري وفاة القدّيس بادري بيّو، وهو قديس يجسد كل ما هو خارق للطبيعة، من آلامه العجائبية، إلى قدرته على الوجود في مكانين في الوقت نفسه، حيث حصلت العجائب على يده من بلد إلى آخر. 

وايضا هو شفيع الخطاة و قاسى العذاب من أجلهم، والذي كان يمضي ست عشرة ساعة يوميا للاستماع إلى الاعتراف، ومواجهة تجارب الشيطان بالإيمان والصلاة وتستعرض “البوابة نيوز”  بعض الافكار والتوجيهات من خلال عظاته للمسيحين، وهناك الكثير من الأقوال الشائعة للقديس بادري أبرزها: 

ليكن يسوع لك دومًا، وفي كل شيء، درعًا وسندًا وحياة!كل الصلوات صالحة عندما ترافقها النيّة المستقيمة والإرادة الطيبةإنّ القلب الطيّب هو دائمًا قوي. يتألّم، لكنه يخبّىء دموعه ويعزّي نفسه متألّمًا لأجل القريب ولأجل اللهالمجد الباطل هو عدوّ خاص للأنفس المكرّسة للرب التي وهبت ذاتها للحياة الروحية. لذا، والحق يُقال إنه سوسة النفس الساعية إلى الكمال. وبتعبير القديسين، إنه “عثّ” القداسةمريم هي النجمة التي تنير دربنا وتدلّنا على الطريق الأكيدللذهاب الى الآب السماوي، هي تلك المرساة التي عليكم ان تتّحدوا بها أكثر فأكثر وقت التجربةالصلاة هي ذوبان قلبنا في قلب الله، فإن كانت مصنوعة جيدًا تؤثر في القلب الإلهيّ وتدعوه ليستجيبنا دائمًا. فلنصلِّ من كلّ قلوبنا فنجعل الله يساعدنالا تتذمَّر أبدًا مِن الإهانات، مِن أيِّ جِهَةٍ أتَت، عندما تتذَكَّر بأنَّ يسوع قد أُشبِعَ مِن حماقاتِ البشَر الّذين قد مَنَّ عليهِم بخيرٍ عمَيم.أعذُر الجَميع بمحَبَّةٍ مَسيحيَّةٍ جاعِلاً نُصُبَ عَينيكَمِثالَ المُعَلِّم إلهيّ الّذي عَذَرَ أمامَ أبيهِ حتّى صالِبيهألم تحبَّ الربّ لبعض الوقت؟ ألا تحبّه الآن؟ ألا تتوق إلى حبّه إلى الأبد؟ لذلك، لا تخف! حتى لو اقترفت خطايا هذا العالم كلّها، يقول لك الربّ يسوع: «غُفِرَت لَكَ ذُنُوبٌ كَثِيرَةٌ لأَنَّكَ أَحْبَبْتَ كَثِيرًا».لا يعرف قلب معلّمنا يسوع المسيح سوى الوداعة والتواضع والمحبة. ضع ثقتك بالعناية الإلهية. وكن مطمئنًا بأنّ السماء والأرض قد تزولان، لكنّ عين الربّ لن تتخلّى عنكاسجد أمام القربان المقدّس وقدّم حياتك ليسوع الموجود في هذا السرّ العظيم. اجعله أمينًا على جميع احتياجاتك واحتياجات الآخرين. تحدّث إليه باستسلام الأبناء، وافتح قلبك له، وامنحه الحرّية الكاملة ليعمل في حياتك بأفضل السُّبل.للشيطان باب واحد فقط يدخل من خلاله إلى نفوسنا، وهو الإرادة. ما من أبواب سرّية تسهّل تسلّله إلينا. والخطيئة ليست خطيئةً إن لم تُرتَكَبْ بكامل الإرادة. وإذا غابت الإرادة، لا تُحتَسَبُ الخطيئة، بل تُعدُّ ضعفًا بشريًّاخاطِبْ يسوع بكلماتٍ تنبع من القلب. لا تكتفِ بكلماتٍ تخرج من الشفاه فحسب. في بعض الأحوال، عليك أن تتحدّث مع يسوع بكلماتٍ قلبيّة حصرًا.كونوا بُؤَر إيمان ومحبّةٍ، كي يكون المسيح حاضرًا في جماعاتكم، كلّما التأمتم للصلاة، أو للمشاركة في المائدة المقدّسة، تحت إشراف رعاتكم ومرشديكم الروحيّين

مقالات مشابهة

  • القيادي في أنصار الله يوسف الفيشي: بقايا النظام السابق لا يحق لهم الحديث عن الثورة والجمهورية
  • ما الحالات التي يُمنع فيها التعويض عن الحبس الاحتياطي بقانون الإجراءات الجنائية؟
  • ثورة ديسمبر السودانية.. الثورة طاقة والطاقة موجة
  • عشية ذكرى ٢٦سبتمير الفريق علي محسن الأحمر يكشف عن المهمة الوطنية العسكرية التي نفذها عام 2014 مع كوكبةٌ من شباب اليمن ورفاق السلاح..ويتحدث عن المحافظات التي يشرق منها اليوم نور الأمل
  • الإرادة الصلبة تُحطم القيود.. قصص ملهمة عن مسارات تحويل التحديات إلى فرص
  • المواطنون يشعرون بهزّات أرضيّة... ما هي صواريخ المطرقة التي تقصف فيها إسرائيل لبنان؟
  • بسبب التصعيد الأخير في لبنان.. ما هي المشاكل الجديدة التي وقعت فيها أونروا؟
  • بسبب التصعيد الأخير في لبنان.. ما هي المشاكل الجديدة التي وقعت فيها الأونروا؟
  • في يوم تذكاره.. باقة من أقوال بادري بيو عن المسيح ومريم العذراء