السياسيون السنّة: من الدور إلى الأداة!
تاريخ النشر: 27th, September 2024 GMT
كتبت كثيرا عن أزمة التمثيل السني في العراق بداية من عام 2003 وعن التحولات التي رافقت هذا التمثيل بين عامي 2003 و2014 السنة التي أنهت، عمليا، محاولات إيجاد تمثيل حقيقي يعبر عن مصالح الجمهور السني في العراق بسبب الآليات التي اعتمدها آنذاك الفاعل السياسي الشيعي من أجل صناعة تمثيل سني مدجن، وفقا لمعادلة «التدجين مقابل الفساد» التي اعتمدها رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي في ولايته الثانية (2010 ـ 2012)!
ففي انتخابات مجالس المحافظات عام 2013، استطاع السياسيون الذين صنعهم المالكي، من تحقيق نتائج غير متوقعة في المحافظات ذات الغالبية السنية، فقد نجح «سنة المالكي» وهو التوصيف الذي أطلقناه عليهم يومها، من تحقيق هذه النتائج في سياق احتجاجات واسعة في هذه المحافظات ضد سياساته التمييزية والطائفية!
ولم يكن هذا النجاح مرتبطا بالتزوير المنهجي واسع النطاق الذي اشتركت مفوضية الانتخابات نفسها في تنظيمه، بل ارتبط أيضا بعوامل أخرى، بينها طبيعة السلوك التصويتي الزبائني للجمهور السني (سياسة شراء الأصوات عبر استخدام المال السياسي، والتوظيف، واستغلال العلاقة مع السلطة لتقديم الخدمات).
هذا النجاح أغرى المالكي باستخدام الاستراتيجية نفسها في انتخابات مجلس النواب عام 2014، من خلال تحالفات أوسع هذه المرة، وهي تحالفات عقدها قبيل الانتخابات مع ثلاث قوى سنية أساسية يومها هي: الحزب الإسلامي وحركة الحل وجبهة الحوار الوطني، لضمان الولاية الثالثة التي كانت تواجه رفضا من القوى السياسية الشيعية، وكان قريبا من تحقيق ذلك لولا قرار المرجع الأعلى السيد علي السيستاني الذي وأد هذا الحلم!
الفاعل السياسي الشيعي يتوهم أنه قد حسم موضوع الحكم في العراق نهائيا لصالحه
وبعد خروج المالكي من السلطة، استمر الفاعلون السياسيون الشيعة بعده في تبني السياسية نفسها، وقد بدا ذلك واضحا في انتخابات مجلس النواب عامي 2018 و2021، خاصة وأن علاقات القوة التي نشأت بعد هزيمة داعش، والموقف الأمريكي السلبي من استفتاء استقلال إقليم كردستان، جعلت الفاعل السياسي الشيعي يتوهم أنه قد حسم موضوع الحكم في العراق نهائيا لصالحه، وأن في إمكانه أن يعيد ترتيب أوراقه وفق علاقات القوة المستجدة، بعيدا عن المبادئ التي تشكَل بموجبها النظام السياسي بعد عام 2003 مع الوجود الأمريكي!
لكن هذه الاستراتيجية تعرضت أكثر من مرة إلى تحديات كان أبرزها موقف رئيس مجلس النواب سليم الجبوري في آذار 2016، حين «تجرأ» الرجل على كتابة مقال في صحيفة النيويورك تايمز بعنوان: «ابقوا الميليشيات بعيدا عن الموصل» وصف فيها الحشد الشعبي بأنها «ميليشيات طائفية قامت بأعمال قتل انتقامية وتطهير عرقي»! مما اضطر الفاعل السياسي الشيعي يومها إلى استخدام سياسة العصا، بالتعاون مع بعض نواب مدجنين من السنة، للإطاحة به من موقعه كرئيس لمجلس النواب في 14 نيسان 2016، قبل أن يذعن ويستسلم للشروط، وتسمح له المحكمة الاتحادية بعد ذلك بالعودة ثانية إلى موقعه بقرار مسيس مفضوح، وليوافق هو شخصيا على تمرير قانون يشرعن فيها هذه الميليشيات «ألطائفية» كما وصفها!
تكرر الأمر مع رئيس مجلس النواب اللاحق محمد الحلبوسي، الذي كان صنيعة القوى الشيعية المتنفذة، ومدعوما من قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس بشكل خاص، وحين وصل إلى رئاسة مجلس النواب في العام 2018، توهم الحلبوسي أن في إمكانه التمرد على صانعيه، مستغلا الانقسام الشيعي ـ الشيعي بين الصدريين من جهة، والإطار التنسيقي من جهة ثانية، والخروج عن المظلة التي وفرها له حلفاء ايران في العراق، حيث تحالف مع الثلاثي الصدريين والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان مصير هذا التمرد الإطاحة به من رئاسة مجلس النواب، ومن مجلس النواب نفسه، بقرار مسيس ثان من المحكمة الاتحادية!
ويبدو أن سياسة العصا تأتي بثمارها دائما في العراق، خاصة وأن ريوع المناصب، والاستثمار غير المحدود في المال العام، والشبكات الزبائنية التي يتم بناؤها عبر أدوات السلطة، تتبخر في حالة الخروج من المنصب/ السلطة. ولتفادي هذا «التمرد» فقد لجأ الفاعل السياسي الشيعي إلى سياسة جديدة يعتمدها تتعدى عملية تدجين السياسي السني، إلى عرابين أوصياء من الفاعلين السياسيين الشيعة لكل سياسي سني انتهازي يطمح إلى فرصة ليصبح زعيما سنيا، ويحظى بالريوع والاستثمارات والإمكانيات لصنع جمهور زبائني. مع ضمان عدم إمكانية حصول أي «زعيم مصنع» سني على عدد كبير من المقاعد البرلمانية قد توهمه في إمكانية التمرد على صانعيه مستقبلا!
وهذه الاستراتيجية وحدها هي التي تفسر الهجمة التي بدأها الحلبوسي ضد إقليم كردستان، والتي تبعتها هجمات أخرى من تابعين له، او من جيوش إلكترونية محسوبة عليه، أو من تابعين آخرين غير محسوبين عليه!
فقد غرد الحلبوسي وبلا مقدمات، بأنه يرفض «تسليح قوات محلية واجبها الدستوري يقتصر على حفظ أمن داخلي ضمن حدود مسؤوليتها بمدفعية ثقيلة متطورة» وأن هذا السلاح يجب أن يكون «حكرا بيد الجيش العراقي فقط».
وكان يمكن قبول هذه التغريدة لو أن الرجل قد اعترض على تسليح قوات الشرطة الاتحادية، المرتبطة عضويا بمنظمة بدر، بالمدفعية الثقيلة مع أن واجبها الدستوري يقتصر على حفظ الأمن الداخلي! وكان يمكن قبول هذه التغريدة لو أن الرجل قد اعترض على تسليح المليشيات الولائية/ العقائدية التي لا تأتمر بأوامر الدولة العراقية بل تشكل دولة موازية تماما، بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها الدروع والمدفعية والطائرات المسيرة!
لكنه لم يتحدث عن كل ذلك رغم أنه كان لا يزال حينها يشغل موقع رئيس مجلس النواب، وبالتالي لا يمكن فهم هذه التغريدة إلا في سياق الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدها الفاعل السياسي الشيعي؛ فمن الواضح أن الحلبوسي قبل بدور الأداة بيد عرابه الجديد قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق، في صراعه المفتوح ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأن هذه التغريدة هي بمثابة «صك براءة» عن تمرده السابق، وإعلان لصك طاعة جديد، تمهيدا لمنحه مكانا في انتخابات مجلس النواب العام القادم!
لا يمكن لعلاقات القوة المتوهمة وحدها أن تحدد مستقبل العراق، كما لا يمكن لهذه الأوهام أن تلغي الوقائع على الأرض، لقد فشل السنة الذين حكموا العراق على مدى 82 عاما في انتاج نظام حكم يؤمن بالتعددية ويحتكم للقانون والمؤسسات، وسقطوا وأسقطوا الدولة معهم بسبب الأوهام نفسها في العام 2003، لكن الموهومين الجدد لم يتعلموا الدرس!
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العراق الحلبوسي العراق البيشمركة الحلبوسي الاطار التنسيقي سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه التغریدة فی انتخابات مجلس النواب رئیس مجلس فی العراق
إقرأ أيضاً:
لماذا السياسيون في بلداننا مهمومون جداً؟
طبعاً ليس للتعميم، حيث إن لكل قاعدة حالة شاذة، أو كما علَّمَنا المنطق، النسبية تمثل شرطاً أساسياً من شروط الموضوعية.
ولكن لنعترف في لحظة صدق مع الذات: إن الغالب على رجال السياسة ونسائها في بلداننا الوجوه الواجمة وحمل ثقل الهموم. قد يندرج ذلك كما يحب أن يؤوله البعض في إطار أننا ننتمي إلى ثقافة تَعدّ المسؤولية وحكم النّاس تكليفاً وليس تشريفاً.إلى حد ما، يمكن أن يكون الأمر كذلك. غير أن هذا التأويل يظل ناقصاً، وتبقى في الفهم منطقة ذات مساحة لا بأس بها، تهيمن عليها العتمة.
كي نوضح أكثر، سنعتمد المقارنة آلية في فتح أفق الفهم: لماذا غالبية وجوه ساسة أوروبا والولايات المتحدة مبتسمة ومرحة وتلقائية. وحتى القلة منهم الذين ليسوا كذلك، نراهم تحت وطأة خبراء الاتصال السياسي الذين يلفتون انتباههم إلى ضرورة التحلي بابتسامة عريضة تعلو محياهم.
نثير هذه النقطة لأن السياسة في الفضاء الأوروبي والغربي تكليف أيضاً.
لا شك أن الواقع العربي، اليوم ومنذ عقود، مأزوم جداً، وهو ما يفسر سر وجود غالبية الفاعلين في السياسة في بلداننا، إضافة إلى أننا ننتمي إلى ثقافة لا تعالج الأزمات بالابتسامة، وميولاتنا العاطفية يغلب عليها الحزن أو توقُّعه.
لو نركز على الهم في حد ذاته، سنرى أنه مبرَّر جداً ويصعب على من يتقلد مسؤولية سياسية في بلد عربي أن يكون منشرح الصدر لأن ثقل المسؤولية في الواقع العربي مضاعَف مرات ومرات، مقارنة باستحقاقات تحمُّل المسؤولية في الفضاء السياسي الأوروبي والغربي.
فالواقع العربي، بشكل عام، اليوم، يتقاطع بين مسارين اثنين متعبين: من جهةٍ بلدانُنا ما زالت في حاجة كبيرة إلى البناء والتأسيس، ومن جهة ثانية وفي الوقت نفسه يسيطر عليها هاجس إدارة الشؤون اليومية للمواطنين.
نحن هنا نتحدث عن اتجاهين ومسارين، وتطبيق لاستراتيجيتين في الوقت نفسه. فالتأسيس يتطلب أموالاً ضخمة وعائداتها على المديين المتوسط والبعيد. كما أن التأسيس يشترط الهدوء والرصانة وحسن التخطيط وأخذ الوقت الكافي والبناء في ظروف قليلة الضغط. ولا ننسى أهمية الاستقرار للتمكن من التأسيس في القطاعات الكبرى الأساسية، وتوفير المستلزمات؛ من إمكانيات مادية وقنوات دعم وتشريعات وخبرات وكفاءات. لذلك ليست كل الدول العربية، اليوم، تستطيع القيام بعملية التأسيس أو مواصلتها، أو حتى المحافظة على ما تم قطعه في مسار التأسيس، وهنا نذكر قطاع غزة ولبنان، وما حصل في العراق، وما تعرفه سوريا. ويكفي التوقف ملياً عند المثال اللبناني الذي لطالما اقترن بالجمال والحياة، وكيف أنه يعرف مرات ومرات فجيعة الدمار والهدم، وكأنه ممنوع من البناء، وممنوعة بيروت من الاحتفاظ بنفسها، كما هو شأن المدن الأوروبية التي أبعد ما تكون عن تهديدات الهدم والدمار، وتعتني بعراقتها وتراكمها هانئة البال.
كذلك، من المهم الإشارة إلى أن حقيقة الهدر الحاصل للعمران لأكثر من بلد عربي بسبب العدوان الإسرائيلي تُفقد التأسيس والبناء أي معنى لهما؛ لأنه لا يمكن البناء في سياق تهديد وعدوان واستهداف.
لذلك فإن البناء، على أهميته وضرورته، بات يشبه الترف في الواقع الراهن، وتحديداً في السنوات الأخيرة، حيث استنزفت إدارة الأزمات والشؤون اليومية للمواطنين الجهد والطاقة والموارد بأنواعها، وكل ذلك تم حتماً على حساب بناء أوطاننا.
إذن البناء هو فوق قدرة غالبية البلدان العربية، باستثناء بعض الدول التي تمتلك الإمكانيات والاستقرار لذلك.
أما الجزء الوافر من تأويل سبب هموم الساسة في غالبية بلداننا، فإنه يتأتى من إدارة الشؤون اليومية للمواطنين، إذ لم يعد ذاك باليسر النسبي الذي كان؛ حيث المتطلبات اليومية الراهنة تغيرت، وظلت أجهزة الدول هي المسؤولة والمحركة للاقتصاد، في حين أن القطاع الخاص لم يستوعب بعدُ ضرورة مشاركته في الاستثمار في الوطن والبيئة الاجتماعية، ومعاضدة جهود المرافق العمومية لضمان بيئة ينفع فيها الاستثمار ويتحقق فيها الربح وتصنع الثروة.
ومما زاد في هموم السياسي انعكاسات أزمة «كوفيد 19» على الاقتصاد، وتداعيات إفلاس العديد من المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وما تطلبته إدارة الأزمة من اعتمادات خاصة، دون أن ننسى تأثيرات الحرب على أوكرانيا على ارتفاع أسعار البترول والقمح.
إن المتطلبات اليومية وتوفير الحاجيات وتلبيتها تُغرق السياسي في دوامة تزداد يومياً، في ظل سياق دولي متوتر يُربك الأسعار، ومن ثمة يحوّل إدارة الشأن اليومي الاقتصادي إلى مشقة حقيقية تولد الشعور بثقل الهموم.