الثورة ومعالجة الواقع الجديد
تاريخ النشر: 27th, September 2024 GMT
نعيش هذه الأيام زمنا ثوريا متعاقبا وأمام مثل هذا الزمن المتعاقب الذي يذكرنا بمفردة الثورة كوسيلة حرة ومستقلة للبناء والتغيير ينبغي الوقوف برهة حتى نتأمل هذا الواقع ونحاكمه وفق متطلبات ومبادئ البناء والتغيير والتفاعل مع الضرورات، فنحن اليوم بحاجة إلى التحليل والنقد وإعادة تشكيل وبناء جسور التواصل وإلى مقاربات سوسيولوجية علمية عقلانية، لمشكلات مجتمعنا العربي وتحدياته الثقافية والحضارية فالحالة الثورية التي حدثت لم تكن إلا تعبيرا عن تناقضات موجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها في الواقع .
ومعالجة الواقع الجديد – بالنقدً والتفكيكً – على ضوء أبرز الأدبيات العلمية والفكرية والأكاديمية المعاصرة أصبح ضرورة ثورية في سبيل توظيف ذلك الإنتاج الضخم ومفاتيحه النظرية لتحليل إشكالية مفهوم الثورة والهوية وتداخلهما مع ما تطرحه الرؤى الثورية التي اجتاحت مجتمعاتنا العربية في ظل مناخ ما يسمى الربيع العربي، فالثورة والهوية تركا في واقعنا مصفوفة من التحديات، نشهد آثارها حولنا، تشظيًا وتفككًا للمشتركات الجامعة، وتضخمًا غير مسبوق للانتماءات والولاءات الطائفية والمذهبية والاثنية.
فحديثنا عن الثورة كحالة تبدل وتحديث لا يعني الانتقاص من قيمة المراحل – وهو فهم دأبنا عليه – ولكنه يفترض أن ينزاح إلى حركة التجديد والتحديث فالحياة في تطور مستمر والجمود هلاك وتحلل وتأسن، وهو حالة غير لائقة بالتمدن البشري في كل مراحل التاريخ، وفي المقابل فإن الوقوف عند نقاط مضيئة في الماضي لا يعني تطورا وثورة, بل يعني الاستسلام والهزيمة لشروط الواقع، وأيضا فهما قاصرا للحدث وتموجاته وإرهاصاته، فقدرة أي حدث تقاس من خلال الأثر الذي تركه في البناءات وليس من خلال الموقف الوجداني والانفعالي منه .
هناك من المفكرين من يرى أن ثمة علاقة وثيقة – وهي حاضرة بقوة – لدراسة إشكالية الهوية والثقافة المتحركة والثورية من جهة، وبين الوعي الاجتماعي والأيديولوجيا من جهة ثانية، وتكمن الفكرة الأساسية في دراسات الثقافة والهوية والوعي الجمعي في تحليل التحولات التاريخية التي تؤدي إلى تدمير دائم للأشكال الاجتماعية القديمة، لتحل محلها أشكال جديدة كمسار ثوري متحرك وفاعل .
وأهم الخصائص الأساسية للثقافة الثورية التحولية التي يتفق عليها علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع هي: اللغة، الخصوصية التاريخية، الاستجابة للحاجات الإنسانية، الشخصية الأساسية كمدخل لفهم الثقافة الثورية .
ولا بد أن نعي أنه عندما تبلغ الهيمنة الثقافية درجة متقدمة، يصبح معيار التقييم والمفاضلة بين الثقافات محصورًا في تقليد “النموذج” المتفوق، وتعيش الثقافة المغلوبة أزمة هوية، تحتاج الثقافة – بما هي هوية ناقصة في جوهرها- إلى أن تستكمل ذاتها بالدولة، لتصبح هي ذاتها حقيقية، فقد أرست الثقافة بصفتها سياسة قاعدة “الدولة – الأمة”.
فالهوية ظاهرة حركية مستمرة في التاريخ، تكتسب المعنى والمضمون، كتجربة إنسانية خاضعة لصيرورة العيش والصراع وتحديات الواقع، إنها معطيات وعوامل تمنح الإنسان، بصفته الفردية، والمجتمع كإطار تفاعلي للجماعة، الشعور بالوجود والانتماء والمصير المشترك، وحين يضعف هذا الشعور ويسير في طريق الاضمحلال والضمور تواجه الجماعة مصير التفكك والضياع والتيه الأمر الذي يجعل الجماعات لقمة سائغة لحركات الاستعمار .
ومن هنا يبرز السؤال الذي يقول :
– ما الذي دفع بالوعي العربي نحو منحدر الهويات الطائفية والمذهبية والإثنية والقبلية، من خلال إحياء كيانات ما قبل الدولة الوطنية في زمن ثورات الربيع العربي ؟
لقد تسبب الطابع العسكري لأنظمة الحكم الثورية العربية في القرن العشرين في أزمة الهوية، وفشل الدولة القطرية، وفشلت في إدماج مكوناتها الأولية القبلية والطائفية والمذهبية في بنتيها، بل الثابت أنها عززت المكونات الأولية وسعت إلى توظيفها كأدوات في صراعها للاستحواذ على السلطة، لذلك فالدولة العربية فشلت تمامًا في بناء نماذجها القومية أو الوطنية، بل فشلت أيضًا في بناء الدولة ذاتها، كمؤسسات وإطار للمواطنة.
وهذا الفشل عمل على تنمية جذور العنف، وجذور الحرب المعولمة، ومهد الطريق إلى السلاح ومثل ذلك ظاهرة متأصلة في البنية التاريخية للنظام العالمي، وهي في التشكيلة التاريخية للهيمنة الغربية المتجذرة في فائض القيمة التاريخي منذ القرن الخامس عشر وما تلاه.
فالشيء الأساسي في التحليل البنيوي للهيمنة الغربية، ليس محصورا في الميل إلى الحروب بل أيضا في تركيزه على تشكيلة فائض القيمة التاريخي – أي البناء الطبقي وسيطرة طبقة على حقوق الطبقة الاجتماعية المنتجة -، فالموجة الأولى للغزو، والنهب، والتغلغل، والاحتلال، كانت لضرب المنطقة الإسلامية العربية في هويتها وفي ثقافتها وفي مرتكزات العدالة الاجتماعية التي يؤكد عليها الدين الإسلامي الذي يجرم النهب والغبن والاستغلال .
لقد حملت حركات التحرر في القرن الماضي الكثير من الإجابات عن السؤال الحضاري وقطعت شوطا – قد يكون صائبا أو خاطئا لكن له حظ وأجر المجتهد – في التفاعل مع السائد ووضعت شروطا جديدة في علاقة الإنسان بالدين وبالعلم وبالكون وبالحضارة والمجتمع والاقتصاد والتقنية والفن والسياسة وأن شاب ذلك البطء في حركة التطور والعنف في أحيان كثيرة كصفة لازمة للحركات الثورية في ذلك الزمن إلا أنها حاولت أن تحدث قدرا من التحديث في سبيل النهضة .
ونحن اليوم مطالبون بحل الكثير من الإشكالات وفق معطيات التطورات المعاصرة والمستويات الحضارية المتعددة حتى نواكب العصر ونؤثر به كما نتأثر به .
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
بعد ستة سنوات من ديسمبر أرضية أكثر صلابة لتأسيس دولة، على مبادئ الوفاق
إن كان هناك شيء قدمه حدث ديسمبر كتجربة في تاريخ الشعب السوداني فهو الوعي الناتج عن التعلم بالطريقة الصعبة وهو أغبى أشكال الوعي حيث لا يحتاج إلى أي مجهود ذهني، يدرك الأشياء بعد وقعوها.
ولكن مع ذلك فهناك من لم يتعلم!
بعد التخريب الذي أحدثته ثورة ديسمبر في الدولة ومؤسساتها وبعد الحرب التي أتت على ما تبقى من الدولة، أصبحنا الآن على وعي أكبر بالدولة وبمؤسساتها.
أشعر بالغضب والرعب في الوقت نفسه حين أتذكر ذلك الكم الهائل من الحمقى الذين كانوا يجادلون بضرورة حل جهاز الأمن الوطني، ويشتد غضبي بشكل خاص عندما أتذكر أن بعضهم من حملة الشهادات العليا في مجالاتهم، أذكياء أكاديميا ولكنهم حمقى سياسيا، كانوا يريدون حل جهاز الأمن وكشف الدولة بشكل كامل. هذا نموذج واحد لوعي ديسمبر الهش والزائف.
وأتذكر كيف عانيت شخصيا في شرح أمور بديهية حول العدالة والمحاسبة، ولكنها بالنسبة لقطيع ديسمبر كانت كفيلة بتصنيفي ككوز ضد الثورة. كنت أقول لا يوجد شيء اسمه أحزاب سياسية تحاسب حزب سياسي، المحاسبة السياسية يتولاها الشعب، ومن أجرم جنائيا يقدم للقضاء. فكرة واضحة لا تحتاج إلى عبقرية سياسية ولكنها كانت عصية على عقل ديسمبر بأطيافها المختلفة.
بعد انتصار الثوار السوريين الذين خاضوا حربا دموية ضد النظام السوري رأينا كيف تعاملوا مع مؤسسات الدولة ومع الموظفين في هذه المؤسسات بل ومع الحكومة نفسها. من البديهيات أنك يجب أن تستفيد من الموجود وأن تبني عليه، لا أن تهده وتدمره لتبدأ من جديد. لماذا كان من الصعب على ديسمبر قيادة وقطيعا رؤية هذه الفكرة الواضحة، مؤسسات الدولة والكفاءات التي تدربت فيها من مال الشعب السوداني يجب الإستفادة منها؟ هل هذه فكرة صعبة؟
ثم نأتي إلى درة تاج الثورة لجنة التمكين سيئة الذكر، كانت لجنة كارثة وفضيحة بكل المقاييس فنيا سياسيا وقانونيا وأخلاقيا، غباء وجهل وفساد وانحطاط وكانت هي السبب الأساسي في هزيمة الثورة وذلك حين هزمت كل شعاراتها وجعلتها عارية ما سهل الانقضاض عليها بعد ذلك.
وإن تكلمنا عن الحكومة فقد كانت كانت حكومة من الخونة والعملاء بامتياز. تبين أن حمدوك الذي كان صنما يعبد هو أكبر عميل؛ إستجلب البعثة الإستعمارية بقيادة سيء الذكر فولكر وفي النهاية ذهب وعمل في الأمارات وتحالف مع المليشيا في حربها ضد الجيش وضد الدولة. وكذلك البقية ولا حاجة لتعديد الأسماء.
.
أصبحنا الآن بعد ديسمبر والحرب التي أعقبتها أكثر وعيا بالسيادة الوطنية، هذه الكلمة كانت غائبة كليا عن قاموس ديسمبر. أصبحنا نفرق بين الوطني والعميل بوضوح تام. أصبحنا نفهم ماذا يعني سيادة وقرار وطني وتدخلات خارجية.
هل تتذكرون من كانوا يهتفون لرئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر فولكر فولكر وكأنه المنقذ؟ هذا هو وعي ديسمبر. وحين تم طرد فولكر هناك من راح يهدد ويتوعد الدولة وكأنها ارتكبت خطأ وبعضهم بدأ يبشرنا ببعثة إستعمارية جديدة يقودها خواجة عسكري. ولكن نحن طردنا فولكر غير مأسوف عليه وتم طي فترة سوداء من التدخل الخارجي في شأننا ولم يخسف الغرب بنا الأرض. هذا هو معنى السيادة، هذا ما يجب أن نتعلمه.
لقد تعلمنا الكثير ولدينا الآن بعد ستة سنوات من ديسمبر أرضية أكثر صلابة لتأسيس دولة، على مبادئ الوفاق والوحدة الوطنية لا على أساس التقسيم الديني قوى ثورة وقوى ضد الثورة وكأن الثورة دين مع أنها ثورة خاوية من أي مضمون، وعلى مبادئ السيادة الوطنية وامتلاك القرار الوطني دون وصاية ودون تدخلات، وعلى أساس الاحتكام للشعب بقواه الحية الصلبة الراسخة لا الواجهات الوهمية من المنظمات المشبوهة التي تدعي تمثيل الشعب باسم حقوق الإنسان والمرأة وما شابه من اللافتات.
وقبل كل ذلك تعلمنا ما معنى الدولة وما معنى مؤسسات وما معنى جيش وشرطة وأمن ياجن. عرفنا ما معنى الاستقرار وأن المؤسسات الأمنية هي ركائز الاستقرار، وأن الاستقرار ليس لعبة في أيدي شفع من المراهقين سياسيا.
ولذلك لن يسمح الشعب مرة أخرى بتعطيل الدولة والحياة باسم الثورة بواسطة أطفال لا يعرفون ماذا يريدون، كما لن يسمح الشعب بأن تقوده شخصيات مشبوهة تأتي من كندا وأمريكا أو أوربا.
ديسمبر أضافت الكثير للوعي السياسي؛ وعي بالطريقة الصعبة ولكنه وعي علي أي حال، هذا ما نأمله على الأقل.
حليم عباس