بوابة الوفد:
2025-02-21@21:26:25 GMT

عالمٌ فى رحاب الإبداع

تاريخ النشر: 26th, September 2024 GMT

كان لى خالٌ فى قريتنا، شيخ وقور جاوز السبعين من عمره، وبلغت به التجارب مبلغها الذى تصفو معه التجربة، فتجود بالحكمة الخالصة، والكلمة الصادقة، والرأى السديد. 

تبدو على مُحيّاه أمارات الذكاء والحضور؛ كنت كثيراً ما استعذب الجلوس معه دوماً ولا أمل من حديثه الشيق، وكانت جلسته فيوضات من فقه وعلم وأدب وذوق وترقية وحياة، هو الشيخ مهدى على عبدالرحيم، طيّب الله ثراه، كان يدَرِّس لنا ونحن تلاميذ فى المرحلة الإعدادية اللغة العربية والتربية الدينية، ويراقب تطورنا فيما بعدها حتى تخرّجنا فى كلياتنا ثم التحقنا بالدراسات العليا، ولمّا كبرنا فرح بنا فرحاً شديداً حينما علم بحصولنا على الدكتوراه، لأنه كان مُحبّاً للعلم، فخوراً به، وبمن ينتسب إليه، لا يعرف فى الحياة أسمى منه قيمة، ولا أنفع فى الدارين منه وسيلة ولا غايّة.

كان من طلاب المعرفة الإلهيّة حقيقةً، لا يلتفت إلى دنيا، ولا تستهويه مفاتنها، ولا يجرى وراء منفعة شخصية، كان الحق على لسانه أبلجَ ناصعاً لا يخشى فيه لومة لائم، ولربما تسببّت جراءته فى الحق فى استعداء بعضهم ممّن كانوا يكرهون طلاقة الحق ويعشقون صولة الباطل. 

تعلمت منه سر الحَوْقلة، فقد كان يكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وكان يرى فيها سرَّاً عجيباً، ويحثنا على المداومة عليها، ويحدثنا شغوفاً عن عجائب الدوام عليها، رحمه الله رحمة واسعة. 

وذات يوم فى إحدى جلساته الصافية تطرق الحديث معه إلى العلم والعلماء، وإلى الرّدة عنه والفتور منه، وإلى التفوق فيه ثم النكوص عن هذا التفوق؛ وحدّثنا عن الأدب والأدباء وإبداع المبدعين، فإذا به يجود من وحى خبرته بألطف ما سمعت وخبرت، وبأثمن ما قرأت وعرفت من نفائس الوعى والمعرفة وتذوق الحقائق على النموذج الذى لا كلفة فيه ولا فى التعبير عنها حين يُراد من الكلفة الزخرفة والتنميق أو يُراد من التعبير عنها غير ما هو مكنون فى النفس ومبثوث فى طويا الضمير.

قال الشيخ المُحنك البصير، والذى هو فى سن الكهولة: هكذا يا ولدى علمتنى الحياة: أن العلم مركوزٌ فى نقاء الطبائع الإنسانية ارتكاز النار فى الهشيم؛ ما إنْ تتوهج شعلة النار فى عود واحد من أعواد كومة متراكمة من هشيم حتى تتقد وتشتعل ثم تلتهب وحافزها ما وراءها كامنٌ فيها يدفعها إلى مزيد من التلهب والاشتعال. 

وكذلك العلوم والآداب والمعارف والفنون مركوزة فى طبع الطابع المطبوع على البحث والنظر أو على السليقة العلميّة أو الأدبية متى وجد الباعث على إخراجها من باطن إلى ظاهر، ومن داخل إلى خارج، ومن مستور خفى إلى مجلو واضح لا ظلمة فيه ولا كثافة.

إذا نحن وجدنا الباعث على إخراج «الجوانيّ» الكامن فى أعماق الذات حين تعى جُوَّانيها، صار ما بالداخل قوة حرية بالاهتمام والاكتراث أكثر ممّا نأخذه من ظواهر الأمور وسفاسفها. 

يكمن الباعث ممّا لاشك فيه فى ذلك الفتيل الأول لإشعال هذه القوة الباطنة المستترة، وهى قوة «الاستعداد». 

والاستعداد جذوة روحيّة عميقة ما تلبث أن تهيج فى جوف صاحبها حتى تأخذه من فوره إلى البحث والتفتيش أخذاً يُفْرقه عن غيره من بنى جلدته. 

قوة الاستعداد هى قطعا من قوة الوجود الروحي، تلك القوة الفطرية فى بنى الإنسان يتفاوت الباذلون المجتهدون فيها كتفاوت الأنصبة فى موازين الحياة بين الربح والخسران؛ وتنقسم بينهم - وما هى بالقسمة الضيزى - حسب الجهد المتوافر لخدمة الاستعداد الباعث للعلو والارتقاء. 

واحدٌ منهم يعليها ويرفعها ويجند نفسه لخدمتها، والآخر يهبط بها إلى الدرجة التى تتلاشى معها، فيسقط دونها، فلا ارتفاع إلى حيث ترتفع فى موازينه وتقديراته غيرها، ولا رقى لها ولا تجنيد لخدمتها حيث لم تعد هى مصدر اهتمامه ولا مبعث أفكاره وسلوكياته ولا حركة نشاطه. 

واحدٌ راح يراها أقوى من كل قوة سواها، وواحد لا يعبأ بها ولا ينظر إنْ نظر إلى شيء من دلالتها لا لشيء إلا لأنها لا تدرك بالنظر ولا تنال بمدارك المحسوس، على الرغم من أنها توجد للجميع: الغافل منهم والنبيه، واليقظ فيهم لمقوماتها والسَّهيان، الطامع فى أن ينال منها حظاً رفيع المستوى والقنوع. 

تلك إذن ليست بالقسمة الضيزى، ولا هى بالجائرة على حقوق العباد والمخاليق.

الكلُّ - يا ولدى - مُدْرِكٌ منها على حسب استعداده، وفورتها فيه من فورة استعداده، فإذا انقسم الناس فيها إلى رجل يرفعها ورجل يخفضها، فالاستعداد فى طليعة هذا الانقسام الذى يغلب عليه الإيمان على الجحود والنكران: الإيمان بها كقوة ناهضة للفرد إذا هو فهم هذه القوة، وعمل بما يجعله أهلاً لتلقى مواردها وعطاياها. 

ثم إذا هو عرف أن هذه القوة من فيض الروح ومن وازع الضمير يتحرك ما إنْ تحركت ويرتفع متى ارتفعت فيه قواه الصالحة للبقاء وللعلو وللمطالب الإنسانية السامية على وجه العموم.

وعجباً كل العجب لهذا الشيخ المُحنك الخبير!

المصدر: بوابة الوفد

إقرأ أيضاً:

وما ذنب المساجد تحرقونها وتمنعوا الناس الصلاة فيها ؟!!

وما ذنب المساجد تحرقونها وتمنعوا الناس الصلاة فيها ؟!!
مسجد بحري الكبير الذي كان عامرا بالمصلين، حرقوا المسجد ودمروها وكانهم جاء لتدمير المساجد، حريق كامل داخل المسجد وبالرغم من ذلك نجد ان المصاحف لم تحترق ليريهم عجائب قدرته، في انه يحفظ من يشاء ويعذب من يشاء، ومع كل ذلك يطلب مستشارهم عمران عبدالله يطلب من افراد الميليشيا ان يصلوا الصبح حاضر ويسألوا الله ان يحفظهم، والله كتب في كتابه المسطور ان الله لا يهدي القوم المجرمين والظالمين وما في أظلم عند الاه ممن يخرب المساجد ويمنع الناس من اداء الشعائر (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم) وان شاء الله ما سترونه من الجيش لا يسوى شئ مما سترونه من الله.

د. عنتر حسن

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الخسارة..! بعد الطرد.. كم مباراة سيغيب فيها دوران عن النصر؟
  • وما ذنب المساجد تحرقونها وتمنعوا الناس الصلاة فيها ؟!!
  • فضاء يضم الإبداع وكل ما كرهه الدكتاتور.. فيلا أنور خوجا تتحول لمقر للإقامة الفنية
  • في جولته الـ33.. بستان الإبداع إلى وجهة جديدة نحو الجنوب
  • من التهجير إلى الإبداع الرياضي.. عندما أسهم الكورد الفيليون في نهضة كرة القدم بمهران
  • “”المفكر عبد الفاضل الغوالي يقدم إصداره الجديد في رحاب جمعية المستكشفين الشباب””
  • وظائف شاغرة في عالم المغامرات
  • القصة وما فيها
  • النيابة تأمر بدفن جثمان «خط الصعيد ونجله» وسط تشديدات أمنية بأسيوط
  • أسس كتابة الإبداع الأدبي فى ندوة بمكتبة المستقبل غدا الخميس