لو أهل عمان أتيت.. والسمت العماني
تاريخ النشر: 26th, September 2024 GMT
عندما قدم وفد قبيلة عبد قيس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكانوا يسكنون في الأحساء والقطيف وهَجَر والمُشقّر، وقد أسلموا قبل أن يروا النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقودهم أشج عبد قيس واسمه المنذر، فذهب أفراد القبيلة إلى المسجد ليروا الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن سيدهم ذهب واستحم وغير ملابسه وتعطر، ثم ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليقابل هذا النبي الكريم وهو في أحسن حلة وأفضلها وذلك تعظيما لقدر الرسول صلى الله عليه وسلم، فعندما رآه الرسول على هذا الحال بعد السلام عليه قال له "فيك خصلتان يحبهما الله" فقال أشج عبد قيس، وما هما؟ قال: (الحلم والأناة) قال: أشيء حدث أم جبلت عليه؟ قال: "بل جبلت عليه" فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله"، فقد فهم أشد عبد قيس بأن هذه الأخلاق والطباع والسجايا هي إما أن تكون هبة من الله متصلة بالفطرة التي جبل الله عليها بعض عباده، وإما أن تكون مكتسبة نتيجة لتأثير البيئة المحيطة والتفكير الجمعي المتراكم والمتوارث، وهذا الأمر يعود بنا إلى الجدلية الأزلية حول منشأ الأخلاق.
ولكن بعد التأمل يتضح أن هنالك أخلاق فطر عليها الناس وهي الأخلاق التي تمثل المشترك الإنساني مثل الرحمة، والعطف، والاحترام، وغيرها مما يشترك فيها البشر جميعا من كل الأعراق والطوائف والديانات، وهنالك بعض الأخلاق التي أكدت عليها الديانات السماوية وقامت ببلورتها والحث عليها، بعد أن اشتركت البيئة والعرف الاجتماعي على تكوينها.
ولو نظرنا إلى القيم والأخلاق العربية قبل مجيء الإسلام لوجدنا أنها تتناسب مع البيئة العربية والأوضاع القائمة في تلك البيئة، ففي تلك الصحراء القاحلة التي تشح فيها مصادر الماء والغذاء ويصبح التنقل من مكان إلى آخر مصحوبا بالمشقة والجهد وقد يؤدي إلى الهلاك، فكانوا يسمون الصحراء مفازة، وهذه عادة تمثل التفاؤل عند العرب، بأن من يقطعها يفوز بالحياة، وإلا فهي مهلكة، كما أنهم يسمون الملدوغ سليما، ففي هذه الصحراء أصبح الناس يمدحون من يخالف شهوة النفس في حب التملك والنجاة بما في اليد، فأصبحوا يمدحون قيمة الكرم، وأصبح الكريم صاحب مزية فارقة في تلك البيئة الفقيرة، فخلدوا كرم حاتم الطائي الذي بلغ به الإيثار أن يذبح خيله لإطعام ضيفه، وربما لا نجد هذه الخلق وهذه الخصلة في مجتمعات أخرى أو دول أخرى كما نجد الكرم عند العرب.
ومن الخصال الحميدة والصفات الرفيعة التي امتدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم أهل عمان، حب الضيف والترفق معه وعدم التعرض له بما يسوؤه، جاء في صحيح مسلم أن "رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا إلى حَيٍّ مِن أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَسَبُّوهُ وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فأخْبَرَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: لو أنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ ما سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ." فهو وصف لساكني هذا البلد الطيب.
وهذه شهادة عظيمة من خير البشر تمثل جوانبا مشرقة من أخلاق أهل عمان، فهم أجابوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وقبلوا الإسلام عن طواعية، ولكن الجميل في الأمر أن الله جبلهم على هذه الخصلة الحميدة بدليل تقبلهم لدعوة الرسول الكريم وتصديقهم إياه، فعمان هذا البلد الطيب ينبت أبنائه في تربته الطيبة ويكونون مثله، مصداقا لقوله تعالى في سورة الأعراف "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ".
ولو تتبعنا الأخبار والسير لتجار عمان المسلمين الذين خلدتهم كتب التاريخ لوجدنا أن أنهم كانوا دعاة إلى دين الله عز وجل من خلال عظيم أخلاقهم وتعاملهم مع غيرهم، وكيف أنهم نشروا الإسلام في القرن الإفريقي، وفي بلدان شرق آسيا، ولنا في قصة المغامر العماني حمد بن محمد المرجبي الملقب بـ"تيبوتيب" فاتح الكونغو وناشر الإسلام في دول إفريقيا، أنصع الأمثلة على النشاط العماني في الدعوة إلى هذا الدين الحنيف.
ومن الأمثلة المعاصرة على أن الأخلاق العمانية وسمتهم هو أحد أدوات الدعوة إلى الإسلام والدخول في دين الله، القصة التي حكاها الأستاذ الدكتور العراقي المشهور في برامج الإعجاز البياني في القرآن الكريم فاضل السامرائي وهي أنه كان يعمل في إحدى الجامعات في إحدى الدول العربية ولكن جاره في السكن الجامعي عالم من علماء الجيلوجيا من الجنسية الأسترالية، فكانوا يلتقون ويجلسون مع بعضهم البعض، يتحدثون في أمور علمية ولا يتطرقون إلى الموضوعات الدينية، ولكن في أحد الأيام جاء هذا العالم الجيلوجي الذي يعمل في هذه الجامعة للبحث عن أ.د.فاضل السامرائي فوصف له ربما في مطعم الجامعة فذهب ليبحث عنه في المطعم، وعندما وجده جاء إلى طاولته قال له أريد أن أصارحك بأمر مهم، فقال له وما هو، قال له أنا أسلمت، فتعجب السامرائي من هذا الأمر، فسأله مستفسرا، هل تقصد أنك تريد الدخول إلى الإسلام، أو أنك تريد إخباري بأنك مسلم، فقال له بل أردت إخبارك بأني مسلم منذ 30 سنة، وعندما سأله: أنت بهذه المعرفة والمكانة العلمية وهذا التخصص الدقيق ما الذي دفعك إلى الإسلام؟ فقال له كنت في سلطنة عمان، وتعجبت من حسن تعامل الناس مع بعضهم البعض في السوق، فعندما بحثت عن سبب هذه الصفة الغالبة على هذا الشعب، وجدت أنها لها علاقة بالدين الإسلامي، ولذلك أدركت أن الدين الذي استطاع أن يهذب أخلاقهم ويجعل تعاملهم مع بعضهم بهذا المستوى لهو جدير بالإيمان به، وقد أسلمت بعد أن اطلعت على الدين الإسلامي وتعاليمه، فيقول أ.د.فاضل السامرائي: وأنا أحببت أهل عمان قبل أن أزور عمان".
فهذه الخصوصية في الأخلاق العمانية والسمت العماني والأسلوب والطريقة والعادة تتجلى بشكل يومي من خلال تعامل الناس مع بعضهم البعض ومع غيرهم من الزوار الذين يقدمون من شتى بقاع العالم، ويشهدون ما يشاهدون ويعايشون هذا السمت الأصيل في الشخصية العمانية بعيدا عن التكلف والاصطناع، وهي نتاج للتربية الأسرية والمدرسية والمجتمعية التي ينشأ عليها أبناء هذا البلد.
ولكن يجب على الأجيال المحافظة على المسلك الطيب، على الرغم من المتغيرات في هذا الزمن التي تحاول أن تغير في القيم الأسرية والاجتماعية من خلال الحرب الفكرية التي تغزوا جميع المجتمعات نتيجة دخول التقنية الحديثة في الحياة اليومية وما يصحبها من أفكار قد تكون موجهة لخلخلة الأنسجة الاجتماعية، ومحاولة اجتلاب أفكار دخيلة متنافية مع الأخلاق والقيم الدنية والاجتماعية.
ومن المقترحات التي ربما تساعد في تعزيز السمت العماني هو استحداث منهج مدرسي يتضمن دارسة للأخلاق وتعامل الطالب مع والديه ومع المجتمع من حوله، والتعريف بالخصوصية العمانية في هذا المجال، وصولا إلى الأخلاق الداعية إلى تزكية النفس ووصولها إلى مدارج الكمال لتعيش حياة تتفق مع المنهج الإسلامي الصحيح.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الرسول صلى الله علیه وسلم مع بعضهم أهل عمان ه علیه عبد قیس قال له
إقرأ أيضاً:
فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان
لماذا استخدم القرآن الكريم كلمة «قلوبهم شتى» فـي قوله تعالى: «تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى»، ولم يقل:«عقولهم شتى»؟
لأن القلوب هي مكامن العداوات والتحاسد، والتنافر، والتباغض، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يكشف لنا حقيقة هؤلاء اليهود، أنه وإن بدا لكم أنكم ترونهم جميعًا وتحسبونهم صفًا واحدًا، لكن الصحيح أن قلوبهم شتى، فبينهم من التحاسد والتباغض والتنافر والعداوات ما لا مزيد عليه، إلى حد أن توصف قلوبهم بهذا الوصف، أنها شتى، شتيت، متفرقة، لا تجتمع على أمر، أما ما يتعلق بالعقول، فقد تقدم الوصف بأنهم لا يعقلون، وتقدم الوصف أيضًا بأنهم لا يفقهون فـي السورة نفسها، فـي السياق القرآني نفسه.
فإذن، القلوب خصت بالذكر؛ لأنها مكامن لأسباب التباعد والتنافر والعداوة، وفـي المقابل، فإن الله تبارك وتعالى أيضًا وصف المؤمنين فقال: «وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما فـي الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم»، فلما ذكر ألفتهم؛ لأنها هي المحال، هذه القلوب هي المحال للتآلف، والتعاطف، والتراحم، والتآخي، كما أنها محال للعداوات والحزازات والشحناء والبغضاء، فلذلك خصت بالذكر، والله تعالى أعلم،
هل شرب ما نسميه اللبن عند الإفطار يدخل فـي السنة؟
أولًا، ما السنة فـي الإفطار من الصيام، الذي ورد أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يفطر على رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد حسا حسوة من ماء، هذا الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يرد فـي ذكر إفطاره من الصيام -عليه الصلاة والسلام- ذكر اللبن، لا اللبن الذي يحلب، ولا اللبن الذي هو الفاخر، كما يقول الفـيروز آبادي، يعني إلقاء تسمية اللبن على ما نعرفه نحن اليوم بالحليب، الذي هو المحلوب مباشرة أو الذي يتخثر، اللبن الرائب، هذا الاستعمال موجود فـي اللغة أصلاً كـ«كله لبن»، فلم يرد أنه فـي إفطاره عليه الصلاة والسلام، كان يتناول اللبن، ولكنه كان يشرب اللبن فـي غير الإفطار.
والذي يؤخذ من الأدلة الشرعية أن يفطر على ما هو مباح، مناسب ملائم لصحته، دون تكلف، أيضًا ما ورد من أنه كان يفطر على ثلاث تمرات، أما حديث «مما لم تصبه النار»، هذا ضعيف، حتى لا يكثر السؤال مرة أخرى، أن الإفطار مما مسته النار، هذا الأثر الذي ورد فـي أنه كان يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار، أثر ضعيف لا تقوم به حجة، أيضًا العدد استطراد، أن نغتنم الثواني الباقية، ذكر العدد، وأنه كان يفطر يعني من صيامه على وتر.
لم يرد، وإنما كان فـي فطره من شهر الصيام قبل خروجه للصلاة يوم الفطر، فإنه كان يأكل تمرات، وكان يأكلها -صلى الله عليه وسلم- وترا، لكن فـي عموم ما ورد من أن الله وتر يحب الوتر، واستحباب الوتر، فذلك محمود، لكن لا على سبيل أيضًا التقريب، ولم تكمل، ولم يعن تأتي بوتر، لا، وإنما من أراد، فهو حسن، والله تعالى أعلم.
أدير محلًا لبيع مواد البناء، وفـي بعض الأحيان نتعامل مع مقاولين ونخصص لهم سعرًا أقل من غيرهم من الزبائن؛ لأنهم يشترون بصورة مستمرة، يطلبون فاتورة مختلفة ليقدموها لصاحب العمل، عادة ما تكون بسعر مختلف مرتفع عن القيمة الحقيقية، هل تصح هذه المعاملة؟
إن كانت هذه الفاتورة التي يصدرها البائع هي لإثبات ما اشتراه المشتري منه، والسعر الذي اشترى به، فإن زيادته فـي إثبات القيمة هو من التدليس، وهذا لا يصح شرعًا، أما إذا كانت هذه الفاتورة إنما هي لبيان سعر السلعة، دون النظر إلى الشراء والمشتري، فهذا مما يمكن أن يُتساهل فـيه.
لكن الصورة التي يذكرها السائل هي من النوع الأول، فالبائع هنا يبيع السلعة بسعر أقل؛ لأن المشتري ممن اعتاد أن يشتري منه، لكنه يريد أن يكتب قيمة أغلى فـي الفاتورة، كما يقول هو لتقديمها لمن طلب منه البناء، ففـي هذا تدليس وإيهام، ولا يصح الإعانة عليه، أما إذا كانت لغرض آخر، وبصورة غير إثبات الشراء وقيمته، وتحديدًا بالسلعة والمشتري، فحينئذ يُنظر فـيها بحسبها، والله تعالى أعلم.
أهل قرية قاموا ببناء مجلس عام على أرض قد أُوقفت لتعليم القرآن الكريم، ولم يُعوَّض الوقف بشيء، الآن السؤال: ما حكم هذا الفعل؟ هل اتفاقهم جميعًا يغير الحكم؟ وماذا عليهم أن يفعلوا لتدارك الخطأ؟
نعم، أخطأوا فـي هذا الفعل، فإن كان الأصل هو عدم جواز تغيير الوقف، فلا يصح أن يُبدل الوقف، ولا أن يُباع، ولا أن يُوهب، بل الواجب على القائمين عليه أن يجتهدوا فـي إجراء هذا الوقف على ما وُقف عليه، وتحقيق غبطته، وأن يبذلوا وُسعهم فـي ذلك، لكن إن لم يُحقق الوقف غايته، فتَعطَّلت منافعه، وعلى هذا ينقطع أجر الواقف الذي ابتغاه من إنشاء هذه الصدقة الجارية، فحينئذٍ يُنظر فـي المعاوضة إن لم يمكن تجديد هذا الوقف وإعماله بما يعود بالنفع على الموقوف عليهم، يمكن حينئذ فقط النظر فـي معاوضته، على أن تكون المعاوضة بأصلٍ يُجعل وقفًا لا يقل منفعة عن الوقف الأصلي، ويُستعمل فـي ذات الموقوف عليه فـي الوقف الأصلي المُبدل منه.
فإن لم يفعلوا ذلك، فإن عليهم الضمان مع التوبة، فلا يجوز أن يُحوَّل وقفٌ اتُّخذ وجُعل، إما بشرط الواقف، أو بتحديد من يصح أن يشترط فـي هذا الوقف، أو بمضي العمل عليه واشتهاره بأنه وقفٌ لأمرٍ ما، فلا يصح تغييره إلا بسبب معتبر شرعًا، فالواجب أن يُعوَّض الوقف القديم بوقف أو أصلٍ وقفـيٍّ جديد، ولا يجوز أن يُهمل ويتلاشى.
وقد ذُكر أنه حُوِّل إلى مجلس عام، فإذا كان هؤلاء يظنون بأن المجلس العام يقوم مقام الوقف الأصلي، فهذا غير صحيح، ما لم يكن الوقف الأصلي أريد به أن يكون مجلسًا عامًا، أما الظن بأن عموم المرافق الخيرية فـي المجتمع، التي يعود نفعها على الناس، بعضها يقوم مقام بعض فـيما يتعلق بالأوقاف، فهذا غير صحيح، لأن الأوقاف، ما لم يكن الموقوف عليه جهة عامة، فإن فعلهم هذا لا يدخل فـي الوقف العام من صنوف البر وأعمال الخير الواسعة العامة الشاملة. أما إذا كان محددًا كما هو فـي هذا السؤال، فلا يصح أن يؤول إلى التلاشي والفناء، بل لا بد من تعويضه بوقف جديد.
فإذا كان الوقف الأصلي لتعليم القرآن الكريم أو مدرسة للقرآن الكريم، فلا يجوز أن يكون ذلك على سبيل الاحتيال، بحيث يكون التعليم فـيه نادرًا أو قليلًا، وإنما يجب أن يكون الغرض الأساسي الذي يعوَّل عليه وينتفع به هو اتخاذه مكانًا لتعليم القرآن الكريم، وليس مجرد مجلس عام تُجرى فـيه المجالس العامة.
وفـي هذه الحالة، يجب أن يُردَّ إلى أصله ليكون مدرسة للقرآن الكريم شكلًا ومضمونًا، والله تعالى أعلم.