قلبي القاسي يأبى التجاوز.. عُقدتي وإنتكاستي أنت يا أبتي
تاريخ النشر: 26th, September 2024 GMT
سيدتي، بالرغم من كل ما حققته من نجاحات وتألق، وبالرغم من أن حياتي مستقرة على جميع الأصعدة. وبالرغم من أنني عوضت نفسي وأمي وإخوتي ما لم ينالوه في حياتهم إلا أن ثمة نقطة سوداء. تأبى أن تختفي من قلب متعب منهك يأبى تجاوز ما ألمّ به.
هو أبي ذلك الرجل الذي لم أنل منه سوى الإسم، رجل تلخصت الأبوة في نظره على الزجر والغطرسة والصراخ والتقتير.
لطالما أحسسنا أنّها لم تكن لتتقبّل الإهانة لولا رغبتها في أن نحيا في بيئة سليمة بعيدة عن الطلاق والشتات العاطفي. ولو كان بمقدورها لضمنت لنا حياة كريمة بعيدة عن أب لم يستثمر فينا شيئا. في حين حاول أن يحصد ويستولي على ثمرة تعب وشقاء والدتنا التي حافظت علينا بكل ما أوتيت من قوة.
قد لا تصدقين سيدتي أنني وأنا في سني هذا لا رغبة لي في الزواج وتكوين أسرة. فجميع الرجال الذين صادفتهم نسخة من والدي الذي غرس في قلبي الخوف والوجل الكبير. خائفة أنا أن أرتبط بمن هو غير جدير بقلبي، رجل يطعنني في فؤاد توسّم فيه خيرا. زوج يقتل فيّ رغبتي في الحياة، زوج قد ينقلب عليّ ويجعلني أندم أنني بعت حياتي حتى أشتري قلبه وقربه.
قد لا تصدقين أنه لم يسألني والدي يوما عن سبب عدم إرتباطي، ولم يكلّف نفسه حتى القلق على مصيري كوني أكبر إخوتي. ولعل ما زاد الطين بلّة أنه بنفس التفاصيل والمشاعر يتباهى بنا ويخبر من يعرفهم. أنه لولا سيطرته على الوضع ولولا تمكّنه من المسؤولية لما كنّا نحن أولاده لننجح ونفلح. ضاربا عرض الحائط كيان زوجة ماتت هي ليحيا هو وننجو نحن. ثمة غصة في قلبي. أريد أن أصرخ بكل ما أوتيت من قوة من أنك سبب عقدتي يا أبي، من أنك سبب ما أنا فيه من حيرة وإنكسار. أريد أن يعلم ويحسّ بالغبن الذي يعتريني ، غبن كبير يأبى أن يمحي من حياتي.
أختكم س.مايا من الوسط الجزائري.
الرد:هوّني عليك أختاه وتما سكي، فلا يجوز لمن هي في مثل وقارك ونبل أخلاقك أن تتصرف بمثل هذا التصرف الذي لن يزيد سوى من تعقيد الأمور ومنحها منحى أخر لا يخدمك بالمرة أنت وأسرتك.
من المؤكّد أختاه أن تنمو مشاعرك بهذا الكره والمقت لوالد لم يرحمك أنت وإخوتك. ومن الجميل أنّك بالرّغم من كل الظّروف التي عشتها لم تنساقي للهاوية أو فساد الأخلاق أنت وأخواتك، وهذا الشّيء إن دلّ فإنما يدلّ على طيبة والدتك التي زرعت فيكم نعم التربية والأخلاق. أحسّ بما تكابدينه من صراع وضعك بين مطرقة أب منحك الحياة وسندان عقد لا متناهية جعلتك تفقدين الأمان في حياتك. لقد بتّ تتوجّسين من الناس ومن المستقبل، وقد إنحصرت حياتك في بوتقة واحدة تتمثل في أن تكملي مشوار حياتك وأنت تنبذين وجود الرجل في تفاصيلها، وهذا أمر غير مجدي وغير سويّ بالمرّة.
لديك كل الحق كأنثى وكإمرأة من أن تعانقي السعادة وتختاري لقلبك الطيب رجلا يرافقك المشوار، رجل تبنين معه مستقبلك بعيدا عن أنقاض تجربة مريرة عشتها إلى جانب أب متحجّر الفؤاد متزمّت المراس.أحسّ بالألم الذي يعتصر فؤادك والّذي يجب أن يؤلّب إلى طاقة إيجابية وإنطلاقة جديدة تأتي بالنفع عليك، وتدخل البهجة في قلب أمّك المسكينة التي لا يهون عليها أن ترى دموع الإنكسار في عينيك بهذا القدر.
إنتفضي وإختاري لك رفيقا حنونا يعوضك ما فات، رجل يكون لك الأب والزوج والرفيق والصديق والسند، رجل تكونين معه أمّا لأبناء لينالوا بفضل إحسانك وحنانك ما نلته أنت من ظلم وتعتير.
كما أن عديد من الناس عاشوا إنكسارات وصدمات أكبر مما عشته بكثير لكنهم بحثوا عن قبس النور في حياتهم. وغيروا واقعهم وخطوا ما أردوا في مستقبلهم ضاربين عرض الحائط. أذى كاد يقضي على الأمل فيهم، فلتكوني أنت أختاه واحدة من هؤلاء ولتبعثي بحياتك إلى نور ما بعده نور.
ردت:”ب.س”
المصدر: النهار أونلاين
إقرأ أيضاً:
فراغ الكون هو الذي يعطي حياتنا المعنى
أخطأ نيتشه حينما قال: إذا ما حملقت في الهاوية لوقت طويل فإن الهاوية سوف تبادلك حملقة بحملقة. فالحق أن الفراغ يبقى على صمته، بلا هوادة، ويبقى مفزع الجسامة. ولكننا حينما نشخص إلى السواد اللانهائي الذي يحدد شسوع كوننا، نجد خيارا مطروحا أمامنا. فبوسعنا إما أن نتراجع خائفين منصرفين عن مواجهة إنسانيتنا لذلك الرعب الكوني الخالص، أو أن بوسعنا أن نحوِّل سواد الكون إلى نور يضيء التفرُّد في كل شيء مما نعرفه هنا على الأرض. أنا عالم فلك، من العلماء الذين يدرسون نشأة الكون وتاريخه وتطوره. وقد أنفقت عمري بحثا في جزء خاص من الكون يطلق عليه الفراغات الكونية، وهي تلك المساحات الشاسعة من اللاشيء التي تمتد بين المجرات. وأغلب كوننا فراغ، فقرابة 80% من حجم الكون مصنوع من لاشيء على الإطلاق. وفقا للحساب الدقيق للوفرة الكونية، فإن كوكبنا والحياة التي نجدها عليه تساوي في الأساس صفرا. فيا لمنتهى الضآلة. إن هي إلا ذرة من الأزرق والأخضر عالقة في محيط من الليل، وإن هي إلا نتفة ضئيلة من الصخر والماء تدور في فلك نجم من النجوم. وقد عملت القوى الكبرى التي تشكل كوننا على إنماء هذه الفراغات على مدار مليارات السنين، فإذا بوحشيتها الراهنة تبرز هذه الضآلة وتزيدها وضوحا. ودعكم من الكواكب والنجوم، فعلى هذه النطاقات الهائلة، تبدو حتى المجرات العظيمة نفسها محض نقاط من الضوء. وثمة غواية عند مواجهة النطاق الحقيقي للكون الفارغ تدعونا إلى أن ننظر إلى عالمنا الضئيل نظرة عدمية، وإلى أن نشعر بأن أعظم إنجازاتنا لا يرقى إلى شيء، وأن تاريخنا أهون من أن يترك أثرا، وأن همومنا ومخاوفنا جميعا عديمة الشأن، وأن إنسانيتنا نفسها شديدة الهوان. لقد أنفقت سنين أعمل على فهم ما يمكن أن تعلَّمه لنا الفراغات الكونية عن الكون الأوسع وتاريخه. وفي مسار دراستي، تعلمت أن أرفض تلك الغواية العدمية. نعم، الكون يغلب عليه الفراغ، ولكننا عثرنا على كثير من الأعاجيب في تلك المساحات العظيمة. فالفراغات ببساطة غير موجودة، إنما هي تحدد المجرات وتبرز التباين بينها. وخصائص تلك الفراغات ـ أي أشكالها وأحجامها وما إلى ذلك ـ تعكس القوى الغامضة التي تحكم تطور الكون. وداخل هذه الفراغات نعثر بين الحين والآخر على مجرة متقزمة معتمة كأنها واحة في صحراء. وقد تبين لنا أن الفراغات تفيض بطاقات كونية قد تطغى في يوم من الأيام على بقية الكون. صحيح أن كوكب الأرض ـ من الناحية الكونية ـ ليس بالضخم ولا بطويل العمر. ولكن ما تلك إلا وسيلة واحدة من وسائل قياس الأهمية. فبالمقارنة مع الفراغات، ثمة شيء خاص يجري على كوكبنا. وبرغم عقود من البحث، لا تزال الأرض هي المكان الوحيد المعروف في الكون كله الذي ترفع فيه كائنات عاقلة أعينها إلى السماء في عجب. كوكب الأرض هو المكان الوحيد المعروف الذي توجد فيه الإنسانية، والذي (يمكن) أن توجد فيه الإنسانية. وهو المكان الوحيد المعروف الذي يوجد فيه الضحك والحب والغضب والبهجة. وهو المكان الوحيد المعروف الذي يمكن أن نعثر فيه على الرقص والموسيقى والفن والسياسة وعلم الفلك. وكل ما لدينا من خلافات وغيرة وتعقيدات جميلة هي التي تجعل منا بشرا ليست عديمة المعنى. ووجود الفراغات الكونية وهيمنتها هما اللذان يضمنان النقيض، والقصص والتجارب التي نملأ بها حياتنا فريدة لأنها لن تحدث أبدا في الشسوع الخاوي الذي يتألف منه أغلب الكون. ولقد تعلمت أن الدروس التي نتعلمها من فراغات الكون موجودة أيضا في فراغات حياتنا. فالفراغات تصقل وتحدد، وتنشئ التقابل، وتمتلئ بالإمكانيات. والألم الذي نحس به من جراء خسارة هو آخر تذكرة لنا بهبة الحياة التي نكن لها أعمق الحب. والصمت في مواجهة عرض يتلألأ بالتوقع المحتدم. واختيارنا أن ننصرف عن الأنباء الباعثة للتوتر ضروري ليتيح لنا التركيز على كل ما هو مهم. لقد فهم الفنانون والفلاسفة منذ أمد بعيد قوة الفراغ. فالشاعر والراهب البوذي في القرن الثاني عشر سايجايو تأمل الفجوات القائمة فيما بين قطرات المطر المتساقطة فلاحظ أن السكتات فيما بين أصواتها مهمة بقدر أهمية القطرات نفسها، إن لم تعلها أهمية. والموسيقي جون كيج تحدانا بمقطوعته (4ʹ33)، وهي مقطوعة مؤلفة كليا من الصمت، تنشئ تجليا للفراغ يسعى الجمهور إلى ملئه بالسعال المحرج والضحك المتوتر، فيصبح ذلك في ذاته موسيقى. والمعماري الهولندي ريم كولهاس احتفى باستعمال الفضاءات السلبية قائلا: «حيث يوجد اللاشيء، يكون كل شيء ممكنا». والفراغ في رأي المحلل النفساني كارل يانج هو فضاء نفسي لا بد أن ندخل إليه لتحقق قدراتنا الكاملة ونصوغ لأنفسنا حياة جديدة. وبعد مليارات السنين من الآن سوف تتضخم الشمس ويستحيل كوكب الأرض غبارا. أما الفراغات الكونية، وهي حراس اللاشيء العظيم، فسوف تبقى، وتلك الحقيقة العارية، المزعجة في الوهلة الأولى، تمنحنا القدرة على الاعتزاز بما أوتينا من هبات. قل طرفة لأصدقائك. قاتل من أجل ما تؤمن به. اتصل بوالدتك. أبدع شيئا لم ير الكون مثيلا له من قبل. فما عناد الفراغات الكونية إلا دعوة لك إلى العمل. ولن يفعل الكون من أجلنا شيئا إلا أن يعطينا حرية الوجود، أما ما نفعله بذلك الوجود فمتروك كله لنا، ومسؤوليتنا هي أن نملأ الكون بالمعنى والغرض. |