الأطراف الفاعلة والمؤثرة في سعيها لبلوغ هدفها تلتقي في فضاء واحد
حين يعمُّ عدم اليقين كثيراً بين سكان عالمنا المعاصر، وينتابُهم الخوف، وتضطربُ العلاقات فيما بينهم، يكونون على شفا “حفرة الضياع الجماعي"، حتى إذا ما سقطوا فيها ـ باعتبارها فتنة عامّة ـ تحولت الحياة لديهم إلى "حالة عبثيَّة"، قد لا تكون مقصودة من الذين يصنعون القرار هنا أو هناك بالنسبة لشعوبهم، لكن بكل تأكيد هم يقصدون بها أذى الأخرين بما يحقق مصالح دولهم ومجتمعاتهم، مُتناسين أن المصالح مشتركة بين البشر حتى وإن بغت دولة على أخرى، وكانت مساوية لها أو غير مساوية في القوة، ومعاكسة لها في الاتجاه.
ولأن هذا الوضع مرفوض من الدول القوية والضعيفة، الكبيرة والصغيرة، الفاشلة والناجحة، المتقدمة والمتخلفة، فإن هناك محاولات متعددة ومتنوعة تبذلُ في الوقت الرّاهن من كل الأطراف للخروج من حال التَّيه إلى الرّشد، ولو بشكل نسبي وبطيء، لكنها لا تتسم بالجدية لجهة تحقيق العدالة، أو استرجاع حقوق المستضعفين، لذلك لا تحقق النتائج المرجوة، وتبعاً لذلك تعمق من الشك بين البشر في حياتهم المعاصرة.
الملاحظ هنا، أن الأطراف الفاعلة والمؤثرة في سعيها لبلوغ هدفها تلتقي في فضاء واحد على مستوى الأسلوب، وهو ما نعيشه اليوم ضن مواقف تكرس جميعها" حالة استنزاف عامة"، تشي بخوف مساوٍ من الناحية العملية للبشر في تعاملهم مع حالة" تخطف الطير"، أو لما "تهوي به الريح في مكان سحيق"، وكأن غياب الصدق في العلاقات، والتخلّي عن الخيرية، والدفع نحو تشكيل موقف رفض للآخر، جميعها عوامل مطلوبة لتحقيق استنزاف يقابل بمثله من الآخرين كلما اتسعت مساحة العداء.
عمليّاً، وحتى تاريخيّاً، فإن الاستنزاف ارتبط بالحروب، أي أنه نتاج الأعمال العسكرية ذات الديمومة الأطول من أزمنة الحروب والمعارك، لكن تلك الخلفية التاريخية لم تعد اليوم قاصرة عن الأعمال العسكرية، وإن كانت هذه الأخيرة هي الأساس، لذا فقد تكون دولة ليست شريكة في حرب ما بل بعيدة عنها، ومع ذلك يشملها "الاستنزاف"، على النحو الذي نراه اليوم في عدد من دول العالم، بل أنه يشمل كثيراً من الدول مُتّخذاً شكلاً مختلفاً عن نشأته الأولى، لدرجة يمكن أن نطلق عليه "الاستنزاف السّلمي"، الذي يشمل معظم مجالات الحياة.
في تعميم الاستنزاف اليوم على المستوى العالمي، تبدو الحروب مجرد مقدمات لنهايات كارثية، قد تستمر حتى حين تضع الحرب أوزارها، ونتيجة لذلك لا ينتظر تحقيق انتصار دائم للطرف الأقوى، وفي حال تحققه فإنه لا يتعدى انتصار في جولة، قد تظهر بعدها جولة أخرى تُحوِّل النصر العسكري إلى هزيمة، على النحو الذي رأيناه في حرب الولايات المتحدة في أفغانستان، فقد انهت الوجود الظاهري لطالبان، ثم عادت بعد سنوات، لتكرسها وجودها الحقيقي.. لقد تم استنزافها في الحرب والسلم.
الحالُ تلك تتكرر اليوم ـ بشكل آخر ـ في أوكرانيا، حيث تستنزف هذه الأخيرة، ومعها عدوها روسيا، وكذلك الأمر الدول الداعمة لها من مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي، وخاصة ألمانيا وفرنسا، أي اتساع مساحة الاستنزاف، وهو ما ينطبق أيضا على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، وكذلك حربها ضد حزب الله في لبنان، وأيضا إيران، وهذه الأطراف جميعها ـ بغض النظر إن كانت على حق أو على باطل ـ هي في حرب استنزاف طويلة المدى.
وبعيداً عن ميادين القتال، فهناك استنزاف أيضا بطرق أخرى يتعلق بالطاقة والمناطق الجيوـ استراتيجية، وبالمياه، وبالعمل من أجل عالم متعدد الأقطاب، ولنا في الدور الصيني الاقتصادي في القارة الأفريقية وبعض الدول الآسيوية، والوجود العسكري الفرنسي ـ أو ما بقي منه ـ في دول الصحراء والسّاحل أمثلة دالة، وكذلك الأمر بالنسبة للصدام المحتمل بين مصر وأثيوبيا حول مياه النيل.
إذاً الاستنزاف يجتاح معظم دول العالم، بشكل مباشر أو غير مباشر، بل أنه يعد سمة عصرنا، وأكثر ما يخيف فيه أنه يجعلنا أقرب إلى الحرب من جهة، وأنه يشمل كل مجالات الحياة من جهة أخرى، والأكثر من هذا يُعيدنا إلى زمن النهب بقوة السلاح، وبمنظومة قانونية تُشرْعِن الأعمال الإجرامية.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: إسرائيل وحزب الله تفجيرات البيجر في لبنان رفح أحداث السودان الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية الحرب الأوكرانية إسرائيل وحزب الله أحداث السودان تفجيرات البيجر في لبنان
إقرأ أيضاً:
حفيد مانديلا: اليمن أيقظ ضمير العالم في الدفاع عن فلسطين.. ونتعهد بتحقيق وعد التحرير
يمني برس |
أشاد البرلماني الجنوب إفريقي السابق “زويليفليل مانديلا”، حفيد الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، بالدور الريادي الذي يؤديه الشعب اليمني في مناصرة القضية الفلسطينية، مؤكدًا أن موقف اليمن قد ألهم الشعوب الحرة في مختلف أرجاء العالم.
وفي تصريح له، اعتبر مانديلا أن “اليمنَ قد قدّم نموذجًا ملهمًا في مقاومة الظلم والعدوان، وأثبت أن الإرادة الشعبية أقوى من حسابات المصالح السياسية، من خلال دفاعه البطولي عن الفلسطينيين ونضاله المستمر من أجلهم”.
وأوضح مانديلا أن الكيان الصهيوني “يغرق في الغطرسة وينتهج سياساتٍ عنصرية تطهيرية تُجسد جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية”، داعيًا كافة الدول إلى دعم محور المقاومة والانخراط الفعلي في مؤازرة الشعب الفلسطيني ومحاسبة الكيان الغاصب.
وأشار إلى أن جنوب إفريقيا، بدعم من قواها الشعبية ومؤسساتها القضائية، نجحت في سحب الكيان الصهيوني إلى أروقة العدالة الدولية، سواء في المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية، كجزء من تحرك تاريخي لكشف جرائمه أمام العالم.
وفيما يخص التضامن الدولي، بيّن مانديلا أن “الانتفاضة الإلكترونية” نجحت في قلب ميزان الرواية، وفضح الدعاية الصهيونية المدعومة غربيًّا، مشيرًا إلى أن “أغلبية الشعوب باتت اليوم تدرك فداحة الجرائم الصهيونية وتستنكر التواطؤ الغربي”.
وحثَّ الدول العربية والإسلامية على استلهام تجربة الدول الإفريقية في دعم قضايا التحرر، داعيًا إلى رفض كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني والوقوف الصادق إلى جانب أهل غزة والضفة، قائلًا: “من المعيب أن تتخلف الأمة عن واجبها الأخلاقي والتاريخي”.
وأضاف مانديلا أن “المخطط الصهيوني يسعى لتوسيع نفوذه في المنطقة خدمة لمشروع (إسرائيل الكبرى)، وهو ما يستدعي تحركًا عربيًا وإسلاميًا جادًا لكبح هذا التوسع الذي لا يستهدف فلسطين وحدها بل استقرار المنطقة بأكملها”.
كما نبّه إلى خطورة التغلغل الصهيوني في القارة الإفريقية، مؤكدًا أن الكيان الصهيوني يستثمر في ملفات حساسة كندرة المياه للتأثير على القرار السياسي في الدول الإفريقية، ويستخدم أدوات استخباراتية للتدخل في الانتخابات وبث الفوضى.
وفي هذا السياق، أشاد مانديلا بالموقف الجماعي الإفريقي في الأمم المتحدة الذي ما زال يشكّل كتلة دعم صلبة للقضية الفلسطينية، مؤكدًا أن هذا الدعم تُوّج مؤخرًا بطرد الكيان الصهيوني من الاتحاد الإفريقي، بفضل جهود الدول الممانعة وعلى رأسها الجزائر.
وعن الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، استحضر حفيده زيارته التاريخية لغزة وتصريحه الشهير بأن “حرية جنوب إفريقيا لا تكتمل دون حرية فلسطين”، مستنكرًا محاولات الغرب لتشويه إرثه وتحويله إلى مجرد رمز سلام محلي، في حين كان رمزًا أمميًا للنضال التحرري.
واختتم مانديلا تصريحه بالتأكيد على أن الجيل الجديد في جنوب إفريقيا متمسك بوصية نيلسون مانديلا، ويؤمن بأن تحرير فلسطين ليس شعارًا بل التزامًا حقيقيًا ستشهده الأجيال القادمة في حياتها.