الرئاسة في تونس: هل يمكن إسقاط الانقلابات بالانتخابات؟
تاريخ النشر: 26th, September 2024 GMT
لا يزال التونسيون، شعبيًا وسياسيًا، منقسمين في الموقف من الانتخابات الرئاسية، المزمع إجراؤها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول القادم، بين المشاركة والمقاطعة.
لا يبدو هذا السؤال خاصًا بالحالة التونسية، رغم خصوصياتها الراهنة، بقدر ما يتأطّر ضمن سؤال عام قديم يتجدد طرحه عند كل انتخابات في منظومة حكم استبدادي، وهو: هل يمكن إسقاط الانقلابات وأنظمة الحكم الاستبدادية عبر الانتخابات؟
تفيد التجارب في أكثر من بلد، وفي أزمنة وسياقات مختلفة، أن أغلب البلدان التي تغيّر فيها الحكم عبر الانقلاب، قد استحكمت فيها سلطة الانقلاب، وفرضت نظامًا استبداديًا مغلقًا لا يمكن تغييره إلا بالانقلاب عليه.
غالبًا ما تتجه الأنظمة السياسية الوافدة عبر الانقلاب إلى تركيز نظام سياسي استبدادي، لا مجال فيه حتى لهامش ولو بسيطًا من الحريات والديمقراطية. وفي الحالات النادرة التي قبلت فيها الأنظمة الاستبدادية الانقلابية تحت إكراهات الواقع تنظيم انتخابات تشريعية أو رئاسية، فإنها لا تمضي فيها إلا إذا كانت متأكدة أن هذه الانتخابات ستكون تحت السيطرة، وأنها ستكون الرابحة من حيث النتائج والمستفيدة منها من حيث إضفاء مسحة من الديمقراطية "المسقّفة" أو "المضبوطة" تزيد في تثبيت حكمها.
كان ذلك نهج أغلب الأنظمة الانقلابية في أفريقيا وأميركا الجنوبية، وفي بعض البلدان العربية، ومنها قيس سعيد في تونس.
رغم تواتر هذا المشهد في أغلب الحالات الانقلابية، لا يخلو الواقع من استثناءات تاريخية نجحت فيها الانتخابات في إنهاء حكم جاء عبر انقلاب عسكري، وتحقيق التغيير السلمي للسلطة، وقيام حكم مدني. حصل هذا في نيجيريا حيث أنهت انتخابات 1999 سنوات من الحكم العسكري والانقلابات.
وحصل نفس الشيء في تشيلي سنة 1988، حيث أنهت الانتخابات حكم الجنرال أوغستو بينوشيه الذي انقلب عام 1973 ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيًا سلفادور ألليندي. أما في بيرو، فقد اضطر ألبرتو فوجيموري بعد أن حكم البلاد بشكل استبدادي بعد انقلاب ذاتي في 1992، للاستقالة نتيجة ضغوط محلية ودولية بعد اتهامات بالتزوير في انتخابات 2000، لتتم الدعوة لانتخابات جديدة في 2001 فاز فيها أليخاندرو توليدو رئيسًا للبلاد. وحصل نفس الشيء تقريبًا في بوليفيا سنة 1982، وفي الفلبين سنة 1986، وفي غانا سنة 2000.
تؤكد هذه الحالات أن إسقاط الانقلابات وإنهاء حكم الأنظمة الاستبدادية عبر الانتخابات أمر ممكن الحدوث. تثير هذه الاستثناءات السؤال التالي: ما هي الشروط الضرورية التي تجعل من الانتخابات في ظل نظام انقلابي استبدادي آليةً لتغيير هذا النظام وتركيز نظام مدني؟
نحتاج أولًا إلى التذكير بأن إسقاط الانقلابات عبر الانتخابات ليس أمرًا سهلًا، بل هو أمر معقّد جدًّا يتوقف على توفر العديد من الشروط المحلية والدولية، خاصة إذا كانت الأنظمة الانقلابية تعتمد التسلط والقمع وتقييد الحريات نهجًا في إدارة الحكم.
أولًا: معارضة سياسية ومدنية قوية ومنظمة ومؤثرة في الرأي العام، جاهزة للمنافسة في الانتخابات والفوز بها. ويقتضي وجود هذه المعارضة بمثل هذه المواصفات، كلّها أو أغلبها، بناء ديناميكية إيجابية داخل المعارضات تبني المشتركات والتوافقات الكبرى، وترتّب الأولويات لتقدّم ذلك في إطار عرض سياسي يعبّر عن مشروع وطني بديل عن حكم الانقلاب.كما تحتاج هذه المعارضة إلى بناء الثقة بينها وبين عموم الشعب، وخاصة قواه الحيّة التي تمثّل رافعات للتغيير. ويقتضي نجاح هذا المسار أن تجتمع المعارضات في إطار جبهة سياسية وانتخابية واحدة دون أن يعني ذلك إلغاء الاختلافات بينها.
كما يقتضي نجاح هذا التمشي في بناء معارضة قوية تقديم مرشح واحد، وخاصة في الدور الثاني، تتوفر فيه شروط القبول الشعبي والقدرة على المنافسة الانتخابية، والاتفاق أيضًا على رؤية لترتيب الحكم في صورة الفوز تجعل من تحقيق الوعود الانتخابية وإحداث نقلة إيجابية في حياة المواطنين، هدفها وغايتها.
ثانيًا: مزاج شعبي يطلب التغيير ليأسه من الحكم القائم في تحسين ظروف حياته، وخاصة المعيشية. قد تختزن الشعوب غضبها من حكامها لفترات قد تطول أحيانًا، ولكنها عندما يتوفر القادح تغادر مربع الصمت وتنطلق إلى مربع الاحتجاج والغضب "الهادر" للتعبير عن رفضها واقعها، ومطالبتها بالتغيير.قد يعبّر الشعب الغاضب عن إرادته في التغيير عبر أحد الخطين التاليين: خطّ الاحتجاج المدني المتصاعد الذي قد يتحول إلى انتفاضة ثم إلى ثورة على النظام، أو خطّ المشاركة الواسعة في الانتخابات؛ لهزيمة مرشح النظام.
يعتبر الطلب الشعبي على التغيير، شرطًا مهمًّا وحاسمًا من شروط إسقاط الانقلابات والنظم الاستبدادية. وتتعاظم أهمية الطلب الشعبي للتغيير بقدر ما تنخرط فيه قوى التغيير، مثل: الشباب والعمال والنساء عبر منظماتهم وهيئاتهم، إضافة إلى القوى "المهمّشة" أو غير "المؤطرة" من العاطلين عن العمل، ومن غير المنتسبين لمنظمات المجتمع المدني والسياسي.
ثالثًا: توفر الحد المطلوب من الشروط الضامنة لنزاهة الانتخابات وشفافيتها، وهو أمر لا يتوفر إلا بأحد طرق ثلاثة. الأول؛ الضغط السياسي والمدني المتراكم عبر محطات مختلفة تفرض على النظام الانقلابي الاستبدادي الالتزام بتنظيم الانتخابات وفق المعايير الدولية لحرية الانتخابات ونزاهتها وشفافيتها، مثل: القانون الانتخابي، والهيئة المشرفة على الانتخابات، وتراتيب العملية الانتخابية، والرقابة على سيرها وعلى فرز الأصوات. هذا الطريق قد يفتح على فوز المعارضة وتحقيق التغيير السياسي عبر انتقال سلمي للسلطة.الطريق الثاني؛ هو رغبة النظام الانقلابي في احتواء الضغوط عليه من الداخل والخارج بإجراء الانتخابات أولًا، وبتوفير الحد الأدنى الديمقراطي لإجرائها، دون أن يغامر الانقلاب بأن تنفلت منه المبادرة ويجد نفسه قد وقع في فخّ انتخابات قد تدفع به خارج السلطة مع ما يفتحه ذلك من محاسبة وملاحقة ومتاعب.
الطريق الثالث؛ هو حرص منظومة الانقلاب على ضمان ديمومة قبضتها على الحكم، وإن اقتضى الأمر تغيير رأس السلطة عبر انتخابات "مضبوطة" ومتحكم في نتائجها.
الطريقان الثاني والثالث قد يفتحان على استمرار النظام الانقلابي الاستبدادي في الحكم بمسحة ديمقراطية قابلة للزوال بسرعة اكتسبها من مشاركة المعارضة في الانتخابات تسد المنافذ أمام تغيير سياسي يفتح على حكم مدني ديمقراطي.
إلى جانب الشروط الداخلية الضرورية، يحتاج إسقاط الانقلابات إلى توفر بعض الشروط الخارجية المساعدة ومنها:
أولًا: دعم المجتمع الدولي المدني الحقوقي والعامل في مجال مراقبة الانتخابات، بما يحاصر نوازع النظم الانقلابية والاستبدادية من بسط يدها في انتهاك حقوق الإنسان، ويمنع سعيها إلى تزوير نتائج الانتخابات، وقبل ذلك إرغامها على توفير الحد المقبول من ضمانات نزاهة الانتخابات، وسلامة المسار الانتخابي.فقد عرفت العديد من الحالات التي نجحت "المقاومة الانتخابية" في إسقاط الانقلابات، معاركَ ضارية بين المجتمع المدني المحلي والدولي، وبين الأنظمة الانقلابية انتهت بإذعان هذه الأنظمة بالتراجع عن الكثير من إجراءاتها القمعية والكفّ عن العديد من الخروقات والتجاوزات بما حسّن بالنتيجة من البيئة الانتخابية، وأعطى للشعوب الأمل في التغيير من خلال المشاركة المكثفة في الانتخابات.
ثانيًا: جوار إقليمي داعم أو على الأقل قابل بالتغيير وغير معادٍ له، إما لسابق خصومة مع النظام الانقلابي وإمكانية التعاون مع الحاكم الجديد، أو قبولًا بالأمر الواقع والحرص على التعامل معه وعدم معاداته لأسباب داخلية أو إقليمية ودولية. أيًّا كان الدافع، فإن وجود جوار إقليمي داعم أو غير معادٍ هو أمر مهمّ ومساعد على إسقاط الانقلاب عبر الانتخابات، كما أنه عامل من عوامل استقرار الحكم الجديد.هذه الشروط بشقيها: المحلي والخارجي ليست وصفة جامعة لا يمكن إسقاط الانقلابات إلا بتوفرها كاملة غير منقوصة، فقد يتوفر بعضها في الأول، ثم تأتي بقيتها لاحقًا، وقد تتداخل شروط أخرى مساعدة نتيجة سياقات داخلية وخارجية. هذه الشروط هي دروس مستفادة من أغلب التجارب التي نجحت فيها الانتخابات، حتى وهي تجري تحت أنظمة انقلابية واستبدادية، في إحداث تغيير مدني سلمي نحو نظام ديمقراطي.
ويبقى إسقاط الانقلابات بالانتخابات مسارًا طويلًا تتراكم فيه النضالات والمكاسب من روافد متعددة تساهم في توفير شروط التغيير حتى تصبح واقعًا يلمسه المناضلون والمراقبون في تغير موازين القوة لصالح حركة التغيير. عندما تأتي الانتخابات في مثل هذا السياق، تكون لحظة حاسمة في التغيير بعد أن نجحت المعارضة في إنهاك الانقلاب بتسديد العديد من اللكمات (النقاط) الصائبة.
أخيرًا، لا يمكن حصر الموقف من الانتخابات في الحالة التونسية وشبيهاتها في ثنائية حادة بين المشاركة والمقاطعة، إذ العبرة في الموقف هي مدى قدرته على تحقيق الأهداف المرجوة.
المناسب في مثل الحالة التونسية المحكومة بالغموض والتقلب، أن يكون بناء الموقف بناءً على تقدير سياسي لميزان القوة، وعبر مسار تتحرك فيه قوى التغيير من موقع الفاعل المؤثر وليس الملاحظ الذي يقف على هامش المسار، بشكل يمنح هذه القوى المتابعة الدقيقة لمسار الانتخابات في كل مراحله بكل تعرجاته وتعقيداته، والتأثير فيه بالضغط من أجل تحسين البيئة الانتخابية وتعبئة الشارع الانتخابي المطالب بالتغيير للمشاركة بكثافة يوم الاقتراع، فلا يُسقِط انقلابًا بالضربة القاضية إلا انقلابٌ عليه، أما إسقاط الانقلاب بالانتخابات فلن يكون إلا عبر مسار من النضال السياسي السلمي والمدني، وعبر المشاركة الواسعة يوم الاقتراع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات عبر الانتخابات الانتخابات فی فی الانتخابات انتخابات فی العدید من نظام ا
إقرأ أيضاً:
رؤى في تعدد مداخل تقاطع مع الديني والسياسي.. مشاتل التغيير (10)
تعد فكرة تعدد العوالم لدى مالك بن نبي فكرة مفتاحية في هذا المقام وهي ثلاث؛ عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء. إلا أن هذه العوالم بتفاعلاتها وتشابكاتها إنما تؤكد على توليد عوالم أخرى مثل عالم الرموز حينما يتفاعل عالم الأشياء مع عالم الأفكار، وكذلك حينما يتفاعل عالم الأشخاص والأفكار فإنه يتحول الشخص إلى فكرة تحوله إلى رمز؛ فإن هيمن الشخص تحول إلى وثن؛ أي أن تحول الشيء إلى فكرة يحوله إلى رمز، وتحول الرمز إلى شيء يقدمه كوثن.
وهناك عالم الأحداث الذي هو ناتج لتفاعل العوالم الثلاثة ليس هناك عالم أحداث خلو من أفكار وإدراكات وعالم أشخاص يتفاعل فيها وعالم أشياء يشكل مساحة للتفاعل، وهناك عالم الإمكانية، وهو يمكن أن يتولد نتاج التفاعل بين العوالم المختلفة. وفي هذا الإطار فإن العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية ليست بعيدة عن هذه العوالم جميعا وليست بعيدة عن مولداتها، ومن هنا وجب علينا ألا نخلط بين عوالم بعوالم وألا نخلط بين من يتولد من تفاعل عوالم بعوالم، وألا نخطئ النظر في وضع هذه العوالم وتفاعلاتها.
العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية ليست بعيدة عن هذه العوالم جميعا وليست بعيدة عن مولداتها، ومن هنا وجب علينا ألا نخلط بين عوالم بعوالم وألا نخلط بين من يتولد من تفاعل عوالم بعوالم، وألا نخطئ النظر في وضع هذه العوالم وتفاعلاتها
المدخل الأول يتعلق بسيطرة عالم الأشخاص على عوالم أخرى، فإنما يشكل مؤشرا على أن يتحول الأمر إلى عبادة لأشخاص يتحول فيه استخدام عالم الأشياء من أجل شخص، وتتحول فيه الأفكار إلى شخص، وتصير الشخصانية هي الحالة المميزة والصفة لكافة العلاقات. هذا الوضع لا يمكن أن يولد إلا حالة استبدادية في هذا المقام؛ إن معنى ذلك في طبيعة علاقة الديني بالسياسي أنه وفقا للتطورات التي حدثت بشأن الدولة القومية من جانب والدولة المركزية التي ورثت الإدارة الكولونيالية المركزية في سلوكها وسياساتها من جانب آخر؛ إنما جعل الديني مصدر خوفٍ مستمر لأي سلطة، ذلك لأن الدين قام بدور كبير في حفز السياقات الوطنية والجماعة الوطنية في التاريخ المصري والخبرة التي حملها، إذ شكل تيارا أساسيا استطاع أن يحقق عناصر مهمة في إحكام النسيج الاجتماعي، وهو أمر لم يكن مصدر خوف للإدارة الكولونيالية فحسب، ولكن للأسف الشديد أنه صار مصدر خوف وعدم ثقة لإدارة الدولة المركزية التي ورثت الاستعمار.
المدخل الثاني في عمليات التقاطع والتفاعل بين هاتين الظاهرتين (السياسية والدينية)؛ دخول عناصر في تحليل العلاقة بين الظاهرتين، وأهم هذه العناصر التي دخلت هي الثقافي والقيمي، فنحن أمام معادلة ترتكن في أصولها إلى أربعة عناصر أساسية؛ الأول إعادة تعريف السياسي؛ الثاني إعادة تحديد المجال الديني؛ الثالث إعادة الاعتبار للقيم؛ الرابع إعادة بروز الثقافي في عملية التحليل. على سبيل المثال فقد أصبح الديني يشكل مصدرا ومرجعية للقيم؛ ورد الاعتبار للقيم في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
وتأثير القيمي في السياسي جزء لا يتجزأ من تدهور مقولة علم خال من القيم؛ فأصبح السياسي لا يمكنه بأي حال من الأحوال تجاهل الديني أو تهميشه، وأصبح الديني طاقة لا يمكن إنكارها في عالم السياسة والعلاقات الدولية. والتساؤل الذي يتعلق بذلك: أين عناصر تلك العلاقة الرشيدة المتوازنة بين عناصر المعادلة الأربعة في تكوينها؟ أين الوسط الذي يشكل دافعا أو حافزا لعلاقات سوية بين هذه التقاطعات الأربعة فيما بينها لضبط العملية؟
المدخل الثالث الذي يحسن أن نتوقف عنده ببعض من التأني؛ فهو المجالات التأسيسية التي ترتبط بالظواهر عامة وهو ما يمكن أن نطلق عليه "4 Ps"، والتي تتكون من أربع مجالات الشخصي (Personal) والخاص (Private)، والعام (Public)، والسياسي (Political)، ويضاف إلى ذلك العولمي (Plus Global)، لأن العولمي يحيط بالأربعة، فقد تداخل فيه ما هو شخصي، وخاص، وعام وسياسي.
إن دخول الديني على هذه المعادلة من المجالات المختلفة يمكن أن يحدث ارتباكا كما يحدث ترشيدا في سياق هذه المعادلة، ومن هنا وجب النظر إلى طبيعة العلاقات بين هذه المداخل المختلفة في إطار وضع كل مجال في مقامه، بحيث لا تتعدى على بعضها، أو تطغى على بعضها، ولكنها تستطرق استطراقا جميلا من غير اعتساف أو ضغط أو تهرُؤ أو غير ذلك من أمور تُخرج هذه المجالات عن طبيعتها.
المدخل الرابع: العلاقة بين الداخلي والخارجي لا تحدث العلاقة بين الديني والسياسي بمعزل عن العلاقة بين الداخلي والخارجي، بل ربما كانت هذه العلاقة الأخيرة هي أحد أهم الدواعي التي تدفع إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الديني والسياسي وإعادة تعريف السياسي من جانب وإعادة تحديد المجال الديني من جانب آخر.
وفقا للتطورات التي حدثت بشأن الدولة القومية من جانب والدولة المركزية التي ورثت الإدارة الكولونيالية المركزية في سلوكها وسياساتها من جانب آخر؛ إنما جعل الديني مصدر خوفٍ مستمر لأي سلطة
وفي هذا السياق، يبدو لنا من جملة ما قررنا أن العولمة قد تكون لعبت دورا أفسد طبيعة العلاقة بين الشخصي والخاص والعام والسياسي، وأن هذا الإفساد قد تم نظرا لعدم مراعاة النسب المقررة والمتوازنة بين هذه المجالات، فإنه من نافلة القول أن نؤكد أن البعض قد قرن العولمة باعتبارها "دينا وضعيا" أو ما أسماه البعض "ديانة السوق"؛ أكدت ضمن مساراتها وعملياتها على حالة من تنميط البشر على شاكلتها في عملية تبدو في دخول البشر دين العولمة.
في هذا السياق، لا بد وأن نؤكد على أن زحف الخارج على الداخل في شئون كثيرة ومنها الديني؛ قد طال الإسلام كدين أكثر من أي دين آخر، خاصة وفق عملية صناعة الصورة، فصار هو الدين الذي يرتبط بالعنف وكذا بالإرهاب، صار هو الدين الذي يُرمز له بالعدو الأخضر، صار هو الذي يمثل قوس الأزمات الحالي والمحتمل، صار هو مجال الفعل لأى عملية سيطرة أو تحكم في المعمورة.
المدخل الخامس: الحالات والمقامات والآليات والمآلات. ومن الأهمية بمكان أن نؤكد بشأن العلاقات بين العوامل والمتغيرات المختلفة والمجالات المتنوعة؛ أن تلك العلاقات تفرز بطبيعتها شأنا عملياتيا (العمليات)، والوصل ما بين هذه العمليات الأربع في العلاقة بين السياسي والديني إنما يتطلب منا دراسة عدد من الموضوعات منها:
1- الخبرات والتجارب والنماذج التاريخية السلبية والإيجابية للعلاقة بين الظاهرة السياسية والدينية في الأديان المختلفة وخبراتها المختلفة.
2- مدى تأثير الدين ضمن تلك الخبرات والنماذج التاريخية والخبرات المعاصرة.
3- الآليات التي يمكن استخدامها لتعظيم تأثير الدين لتأسيس علاقات سوية صحيحة إيجابية دون اتخاذ موقف مسبق يتعلق باستبعاد الدين من جملة الحياة الدنيوية والمدنية (قواعد العيش المشترك، أصول التعايش، التربية الدينية الحاضرة الجامعية، الجماعة الوطنية الصالح المشترك العام، سفينة الوطن.. الخ).
4- المآلات وفهم تلك الحالات والمقامات والآليات وما تنتجها من آثار محتملة على أرض الواقع.
المدخل السادس: تمويه الحدود بين السياسي والديني. من جملة ما تراكم لدينا من فهم عوالم كل المداخل السابقة؛ من الضروري أن نعطى مجموعة من المؤشرات والمعايير التي يمكن أن نستند إليها في "رفع الالتباس بين الديني والسياسي والعام من شئونهم عن عموم الناس". ونشير إلى جملة من التنبيهات:
أولها أن استبعاد أحد طرفي العلاقة لمصلحة الآخر إنما يشكل نظرة تعسفية غير منهاجية، ومن هنا وجب علينا من الناحية البحثية المنهاجية -وليس من ناحية الرأي والفكر أو اتخاذ مواقف فكرية- أن نقف بحدة وبشدة ضد توجيهات وتوجهات العلمانية الفجة، التي تستبعد الدين من جملة فاعليات الحياة، وتحاول أن تفسر ذلك الواقع على غير طبيعة العوامل الفاعلة فيه؛ إن ذلك المتدين المتطرف في رؤيته هذه لا يختلف عن العلماني الفج لأن كلا منهما يسحب الآخر لصالح تصوره، فمنهج من يجعل الدنيا بلا دين والآخر يجعل الدين بلا دنيا. والاثنان يعبّران عن حالة انسحابية لا يمكن أن تنتج إلا علائق غير سوية غير صحيحة وغير صحية.
ثانيها أن التأويل الصحيح للقول الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث تأبير النخل "أنتم أعلم بشئون (أمور) دنياكم" التي لا تفتأ بعض التوجهات العلمانية من أن تتبنى بعض مقولات دينية في تسويغ رؤاها، فقد أراد الفريق الأول أن ينفي مطلقا الصلة بين أمور الدنيا بأمر الدين من قريب أو من بعيد، وهو تزيّد في تفسير وتأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بينما يعني الفريق الثاني أن ما من شأن للدنيا مهما دق أو صغر إلا وللدين وصفه تفصيلية له في مجراه ومرساه وفي سائر أحواله، وهذا اتجاه يصادر على حقيقة الاجتهاد كأصل بنياني من أصول البنيانية للشريعة؛ وما عبّر عنه السيوطي في رسالته التي عنونها بـ"الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض".
ثالثها أنه في هذا السياق وجب علينا أن نؤصل ونفصل معنى الشأن الذي يقوم بـ"شئون" على سبيل الجمع؛ و"أمور" على سبيل الجمع، وأيضا على سبيل التنكير فإن هذا الأمر كما هو مبين من سياق الحديث النبوي إنما يعبر عن شئون فنية وأمور تتعلق بالآليات والوسائل. بدا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤصل معنيين لا يجب التفريط فيهما في شأن العلاقة بين السياسة والدين؛ أما الأمر الأول فإنه يتعلق بأن الولاية الدينية لا تعطي أهلية لأي إنسان كائنا من كان أن يتدخل في الأمر الفني من دون اختصاص، وفي ذلك الشأن يجب أن نأخذ قول الحباب بن المنذر في غزوة بدر حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم "أَبِوَحْيٍ فَعَلْتَ أَوْ بِرَأْيٍ؟ قَالَ: بِرَأْيٍ يَا حُبَابُ".
صارت عملية التجديد عملية مستمرة وحدتها الزمنية "القرن" تؤكد على أنه كلما خبت الشريعة من تقصير البشر المؤمنين بها في فاعليتها، وجب عليهم أن يبحثوا من كل طريق عن سبل تجديدها؛ ومسالك نهوض الأمة بها؛ ووصلها بأصلها، وهذا بحق هو معنى التجديد؛ ومشاتل التغيير والإصلاح مشرعة مفتوحة
إن هذا التمييز بين المسائل التي تلتقي بالدين الموحى والأمور التي تتعلق بعمليات الحرب "الفنية" فقد كان لها مدخلا في هذا. ومن ثم كان على صاحب الولاية الدينية أن يذكّر بأمر ثانٍ هو أنتم أعلم بأمور دنياكم، فمن حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى إلى لفت النظر إلى الإيمان بقدرة الله، ومن حيث إن الأمر أدى إلى إخراج من غير تأبير النخل شيصا (أي لم يثمر ثمرته الأصلية)، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على أن في كل اختصاص لا بد وأن يعود الناس إلى صاحب الولاية الفنية والاختصاصية، وأن التخصص وجب أن يكون في خدمة الأمة والإنسان والعمران.
رابعها أن الدين الإسلامي على وجه الخصوص يقدم رؤية في فهم الدين قد تختلف عن تلك الرؤية التي شاعت في تصور الدين كعلاقة شخصية، أو كما تتصوره بعض التوجهات العلمانية. شمول الدين الإسلامي فرض تصوره على أنه له رؤية كلية لكافة مجالات الحياة، ترتبط بالأصول المعرفية والأصول القيمية والأصول السلوكية والأصول المقاصدية؛ السياسي فيه ليس بعيدا عن الدين، ولكن ليس معنى عدم بعده عنه أن يسيطر أو يتحكم شخوص الدين بالسياسي،ولكن بمعنى كيف يمكن أن يرفد الدين المجال السياسي بكل ما يؤدي إلى تنظيم فعاليته وتقويم مساراته واستثمار طاقاته.
خامسها أن من المبادئ العامة المرتبطة بخصائص هذه الشريعة أن تلك الشرعية انتظمت في مساق عام يؤكد على معنى أنها "أجملت ما يتغير، وفصلت فيما لا يتغير"، وظل ذلك أساسا معرفيا ومنهاجيا للشريعة الإسلامية في هذا المقام لتؤكد على المعنى الذي يؤكد على العلاقة بين عالمين؛ عالم الثابت وعالم المتغير فيما يتعلق بالعلاقة فيما بينهما، فكلما انتهى الأمر إلى دائرة الثبات كان ذلك أكثر تفصيلا، وكلما ارتبط الأمر بدائرة التغير كان ذلك أكثر إجمالا، وهو يتعلق بما سبق وأن قررناه من أن الاجتهاد أصل بنيوي في الشريعة، وأن التجديد من الفروض الواقعة ما حدثت الحوادث وما تراكمت القضايا وما نزلت النوازل وما طرأت الطوارئ.
وصارت عملية التجديد عملية مستمرة وحدتها الزمنية "القرن" تؤكد على أنه كلما خبت الشريعة من تقصير البشر المؤمنين بها في فاعليتها، وجب عليهم أن يبحثوا من كل طريق عن سبل تجديدها؛ ومسالك نهوض الأمة بها؛ ووصلها بأصلها، وهذا بحق هو معنى التجديد؛ ومشاتل التغيير والإصلاح مشرعة مفتوحة.. ولنا في ذلك عودة ومعالجة في مقال آخر.
x.com/Saif_abdelfatah