الرئاسة في تونس: هل يمكن إسقاط الانقلابات بالانتخابات؟
تاريخ النشر: 26th, September 2024 GMT
لا يزال التونسيون، شعبيًا وسياسيًا، منقسمين في الموقف من الانتخابات الرئاسية، المزمع إجراؤها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول القادم، بين المشاركة والمقاطعة.
لا يبدو هذا السؤال خاصًا بالحالة التونسية، رغم خصوصياتها الراهنة، بقدر ما يتأطّر ضمن سؤال عام قديم يتجدد طرحه عند كل انتخابات في منظومة حكم استبدادي، وهو: هل يمكن إسقاط الانقلابات وأنظمة الحكم الاستبدادية عبر الانتخابات؟
تفيد التجارب في أكثر من بلد، وفي أزمنة وسياقات مختلفة، أن أغلب البلدان التي تغيّر فيها الحكم عبر الانقلاب، قد استحكمت فيها سلطة الانقلاب، وفرضت نظامًا استبداديًا مغلقًا لا يمكن تغييره إلا بالانقلاب عليه.
غالبًا ما تتجه الأنظمة السياسية الوافدة عبر الانقلاب إلى تركيز نظام سياسي استبدادي، لا مجال فيه حتى لهامش ولو بسيطًا من الحريات والديمقراطية. وفي الحالات النادرة التي قبلت فيها الأنظمة الاستبدادية الانقلابية تحت إكراهات الواقع تنظيم انتخابات تشريعية أو رئاسية، فإنها لا تمضي فيها إلا إذا كانت متأكدة أن هذه الانتخابات ستكون تحت السيطرة، وأنها ستكون الرابحة من حيث النتائج والمستفيدة منها من حيث إضفاء مسحة من الديمقراطية "المسقّفة" أو "المضبوطة" تزيد في تثبيت حكمها.
كان ذلك نهج أغلب الأنظمة الانقلابية في أفريقيا وأميركا الجنوبية، وفي بعض البلدان العربية، ومنها قيس سعيد في تونس.
رغم تواتر هذا المشهد في أغلب الحالات الانقلابية، لا يخلو الواقع من استثناءات تاريخية نجحت فيها الانتخابات في إنهاء حكم جاء عبر انقلاب عسكري، وتحقيق التغيير السلمي للسلطة، وقيام حكم مدني. حصل هذا في نيجيريا حيث أنهت انتخابات 1999 سنوات من الحكم العسكري والانقلابات.
وحصل نفس الشيء في تشيلي سنة 1988، حيث أنهت الانتخابات حكم الجنرال أوغستو بينوشيه الذي انقلب عام 1973 ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيًا سلفادور ألليندي. أما في بيرو، فقد اضطر ألبرتو فوجيموري بعد أن حكم البلاد بشكل استبدادي بعد انقلاب ذاتي في 1992، للاستقالة نتيجة ضغوط محلية ودولية بعد اتهامات بالتزوير في انتخابات 2000، لتتم الدعوة لانتخابات جديدة في 2001 فاز فيها أليخاندرو توليدو رئيسًا للبلاد. وحصل نفس الشيء تقريبًا في بوليفيا سنة 1982، وفي الفلبين سنة 1986، وفي غانا سنة 2000.
تؤكد هذه الحالات أن إسقاط الانقلابات وإنهاء حكم الأنظمة الاستبدادية عبر الانتخابات أمر ممكن الحدوث. تثير هذه الاستثناءات السؤال التالي: ما هي الشروط الضرورية التي تجعل من الانتخابات في ظل نظام انقلابي استبدادي آليةً لتغيير هذا النظام وتركيز نظام مدني؟
نحتاج أولًا إلى التذكير بأن إسقاط الانقلابات عبر الانتخابات ليس أمرًا سهلًا، بل هو أمر معقّد جدًّا يتوقف على توفر العديد من الشروط المحلية والدولية، خاصة إذا كانت الأنظمة الانقلابية تعتمد التسلط والقمع وتقييد الحريات نهجًا في إدارة الحكم.
أولًا: معارضة سياسية ومدنية قوية ومنظمة ومؤثرة في الرأي العام، جاهزة للمنافسة في الانتخابات والفوز بها. ويقتضي وجود هذه المعارضة بمثل هذه المواصفات، كلّها أو أغلبها، بناء ديناميكية إيجابية داخل المعارضات تبني المشتركات والتوافقات الكبرى، وترتّب الأولويات لتقدّم ذلك في إطار عرض سياسي يعبّر عن مشروع وطني بديل عن حكم الانقلاب.كما تحتاج هذه المعارضة إلى بناء الثقة بينها وبين عموم الشعب، وخاصة قواه الحيّة التي تمثّل رافعات للتغيير. ويقتضي نجاح هذا المسار أن تجتمع المعارضات في إطار جبهة سياسية وانتخابية واحدة دون أن يعني ذلك إلغاء الاختلافات بينها.
كما يقتضي نجاح هذا التمشي في بناء معارضة قوية تقديم مرشح واحد، وخاصة في الدور الثاني، تتوفر فيه شروط القبول الشعبي والقدرة على المنافسة الانتخابية، والاتفاق أيضًا على رؤية لترتيب الحكم في صورة الفوز تجعل من تحقيق الوعود الانتخابية وإحداث نقلة إيجابية في حياة المواطنين، هدفها وغايتها.
ثانيًا: مزاج شعبي يطلب التغيير ليأسه من الحكم القائم في تحسين ظروف حياته، وخاصة المعيشية. قد تختزن الشعوب غضبها من حكامها لفترات قد تطول أحيانًا، ولكنها عندما يتوفر القادح تغادر مربع الصمت وتنطلق إلى مربع الاحتجاج والغضب "الهادر" للتعبير عن رفضها واقعها، ومطالبتها بالتغيير.قد يعبّر الشعب الغاضب عن إرادته في التغيير عبر أحد الخطين التاليين: خطّ الاحتجاج المدني المتصاعد الذي قد يتحول إلى انتفاضة ثم إلى ثورة على النظام، أو خطّ المشاركة الواسعة في الانتخابات؛ لهزيمة مرشح النظام.
يعتبر الطلب الشعبي على التغيير، شرطًا مهمًّا وحاسمًا من شروط إسقاط الانقلابات والنظم الاستبدادية. وتتعاظم أهمية الطلب الشعبي للتغيير بقدر ما تنخرط فيه قوى التغيير، مثل: الشباب والعمال والنساء عبر منظماتهم وهيئاتهم، إضافة إلى القوى "المهمّشة" أو غير "المؤطرة" من العاطلين عن العمل، ومن غير المنتسبين لمنظمات المجتمع المدني والسياسي.
ثالثًا: توفر الحد المطلوب من الشروط الضامنة لنزاهة الانتخابات وشفافيتها، وهو أمر لا يتوفر إلا بأحد طرق ثلاثة. الأول؛ الضغط السياسي والمدني المتراكم عبر محطات مختلفة تفرض على النظام الانقلابي الاستبدادي الالتزام بتنظيم الانتخابات وفق المعايير الدولية لحرية الانتخابات ونزاهتها وشفافيتها، مثل: القانون الانتخابي، والهيئة المشرفة على الانتخابات، وتراتيب العملية الانتخابية، والرقابة على سيرها وعلى فرز الأصوات. هذا الطريق قد يفتح على فوز المعارضة وتحقيق التغيير السياسي عبر انتقال سلمي للسلطة.الطريق الثاني؛ هو رغبة النظام الانقلابي في احتواء الضغوط عليه من الداخل والخارج بإجراء الانتخابات أولًا، وبتوفير الحد الأدنى الديمقراطي لإجرائها، دون أن يغامر الانقلاب بأن تنفلت منه المبادرة ويجد نفسه قد وقع في فخّ انتخابات قد تدفع به خارج السلطة مع ما يفتحه ذلك من محاسبة وملاحقة ومتاعب.
الطريق الثالث؛ هو حرص منظومة الانقلاب على ضمان ديمومة قبضتها على الحكم، وإن اقتضى الأمر تغيير رأس السلطة عبر انتخابات "مضبوطة" ومتحكم في نتائجها.
الطريقان الثاني والثالث قد يفتحان على استمرار النظام الانقلابي الاستبدادي في الحكم بمسحة ديمقراطية قابلة للزوال بسرعة اكتسبها من مشاركة المعارضة في الانتخابات تسد المنافذ أمام تغيير سياسي يفتح على حكم مدني ديمقراطي.
إلى جانب الشروط الداخلية الضرورية، يحتاج إسقاط الانقلابات إلى توفر بعض الشروط الخارجية المساعدة ومنها:
أولًا: دعم المجتمع الدولي المدني الحقوقي والعامل في مجال مراقبة الانتخابات، بما يحاصر نوازع النظم الانقلابية والاستبدادية من بسط يدها في انتهاك حقوق الإنسان، ويمنع سعيها إلى تزوير نتائج الانتخابات، وقبل ذلك إرغامها على توفير الحد المقبول من ضمانات نزاهة الانتخابات، وسلامة المسار الانتخابي.فقد عرفت العديد من الحالات التي نجحت "المقاومة الانتخابية" في إسقاط الانقلابات، معاركَ ضارية بين المجتمع المدني المحلي والدولي، وبين الأنظمة الانقلابية انتهت بإذعان هذه الأنظمة بالتراجع عن الكثير من إجراءاتها القمعية والكفّ عن العديد من الخروقات والتجاوزات بما حسّن بالنتيجة من البيئة الانتخابية، وأعطى للشعوب الأمل في التغيير من خلال المشاركة المكثفة في الانتخابات.
ثانيًا: جوار إقليمي داعم أو على الأقل قابل بالتغيير وغير معادٍ له، إما لسابق خصومة مع النظام الانقلابي وإمكانية التعاون مع الحاكم الجديد، أو قبولًا بالأمر الواقع والحرص على التعامل معه وعدم معاداته لأسباب داخلية أو إقليمية ودولية. أيًّا كان الدافع، فإن وجود جوار إقليمي داعم أو غير معادٍ هو أمر مهمّ ومساعد على إسقاط الانقلاب عبر الانتخابات، كما أنه عامل من عوامل استقرار الحكم الجديد.هذه الشروط بشقيها: المحلي والخارجي ليست وصفة جامعة لا يمكن إسقاط الانقلابات إلا بتوفرها كاملة غير منقوصة، فقد يتوفر بعضها في الأول، ثم تأتي بقيتها لاحقًا، وقد تتداخل شروط أخرى مساعدة نتيجة سياقات داخلية وخارجية. هذه الشروط هي دروس مستفادة من أغلب التجارب التي نجحت فيها الانتخابات، حتى وهي تجري تحت أنظمة انقلابية واستبدادية، في إحداث تغيير مدني سلمي نحو نظام ديمقراطي.
ويبقى إسقاط الانقلابات بالانتخابات مسارًا طويلًا تتراكم فيه النضالات والمكاسب من روافد متعددة تساهم في توفير شروط التغيير حتى تصبح واقعًا يلمسه المناضلون والمراقبون في تغير موازين القوة لصالح حركة التغيير. عندما تأتي الانتخابات في مثل هذا السياق، تكون لحظة حاسمة في التغيير بعد أن نجحت المعارضة في إنهاك الانقلاب بتسديد العديد من اللكمات (النقاط) الصائبة.
أخيرًا، لا يمكن حصر الموقف من الانتخابات في الحالة التونسية وشبيهاتها في ثنائية حادة بين المشاركة والمقاطعة، إذ العبرة في الموقف هي مدى قدرته على تحقيق الأهداف المرجوة.
المناسب في مثل الحالة التونسية المحكومة بالغموض والتقلب، أن يكون بناء الموقف بناءً على تقدير سياسي لميزان القوة، وعبر مسار تتحرك فيه قوى التغيير من موقع الفاعل المؤثر وليس الملاحظ الذي يقف على هامش المسار، بشكل يمنح هذه القوى المتابعة الدقيقة لمسار الانتخابات في كل مراحله بكل تعرجاته وتعقيداته، والتأثير فيه بالضغط من أجل تحسين البيئة الانتخابية وتعبئة الشارع الانتخابي المطالب بالتغيير للمشاركة بكثافة يوم الاقتراع، فلا يُسقِط انقلابًا بالضربة القاضية إلا انقلابٌ عليه، أما إسقاط الانقلاب بالانتخابات فلن يكون إلا عبر مسار من النضال السياسي السلمي والمدني، وعبر المشاركة الواسعة يوم الاقتراع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات عبر الانتخابات الانتخابات فی فی الانتخابات انتخابات فی العدید من نظام ا
إقرأ أيضاً:
مفهوم التغيير كأحد مرتكزات المشروع الحضاري القادم .. مشاتل التغيير (2)
قبل أن نتحدث عن مشتل التغيير وأبرز أشكاله وأنواعه وتجلياته في الماضي فيما عُرف بثورات الربيع العربي وما نفضله من تعبير عن تلك الحقبة بالثورات العربية؛ من المهم أن ندرس مناهج التغيير ونفحصها فحصا متأنيا وبحثا حصيفا ودرسا رصينا من خلال عمليات أخرى تتعلق بمناهج التفكير والتدبير والتسيير، بما يحفظ لعمليات التغيير والتجديد قدراتها وتقدير إمكاناتها حتى تنتقل الى البحث في أشكال ومسالك الفاعلية والتأثير؛ حيث أن منهجية التغيير عمليات مركبة ليست مفردة منبتة الصلة، ولكنها ترتبط بمنظومات أخرى تضمن لها الإسناد والدعم وتحرك مساراتها، ضمن تراكم يضمن الجدية والنجاعة والفاعلية لهذه المنهجية التي تقوم على ثلاث مستويات: استراتيجية التغيير، شبكية التغيير (العلاقات بين الفاعلين والواقع والمرشحين للقيام بعملية التغيير)، ومعوقات ومسهلات التغيير، ويتوج كل ذلك ببناء استراتيجية مصاحبة تتعلق بخطاب التغيير.
وضمن الحديث عن استراتيجيات التغيير ومنهجيته ربما نحتاج للاهتمام بمعالجة موضوعات مهمة، منها على سبيل المثال ما يشير إلى الضرورات التي تتعلق بفهم الواقع والقدرة على تحريك عملية التغيير والخروج بها من حال الكمون إلى حال الفعل، من حال الممكن والإمكان الى حالة التأمين والتمكين، كما نحتاج حينما نتحدث عن استراتيجية التغيير والفعل التغييري أن نهتم بعدة مستويات على قمتها تقع مسألة الوعي، ثم البحث على مستوى الهياكل والأبنية والمؤسسات، ثم تبصر العلاقات والسياسات، وترتيب الغايات والأولويات، وذلك حتى لا تتكرر الأخطاء السابقة التي مرت بها الثورات العربية، وأن نستفيد من الخبرات والتجارب، خاصة وأن المضادين للثورة تمكنوا -في الخبرات السابقة- من وضع المتاريس في طريق عمليات التغيير الحقيقية، ومن ثم يجب أن يكون في المشتل مساحة لتجنب ذلك، وأن تتم تنمية حالة من الفطنة بشأن وسائل الالتفاف ومحاصرة كل أشكال ومسالك الثورة الحقيقية.
إرادة الاستثمار للحظات الزخم الثوري في البلدان العربية وخاصة بعد طوفان الأقصى، وانتصار الإرادة الفلسطينية على الكيان الصهيوني المدعوم من معظم دول العالم وخاصة الدول الغربية، وكذلك الثورة السورية وانتصارها المدوي في معركة الطغيان رغم وجود القوى الدولية والإقليمية التي كانت تناصر وتدعم وتساند النظام البائد؛ صارت أمرا جوهريا حتى بعد أن نجح المضادون للثورات في تشويه ومحاصرة تلك الثورات من كل طريق وبكل الأساليب
إن إرادة الاستثمار للحظات الزخم الثوري في البلدان العربية وخاصة بعد طوفان الأقصى، وانتصار الإرادة الفلسطينية على الكيان الصهيوني المدعوم من معظم دول العالم وخاصة الدول الغربية، وكذلك الثورة السورية وانتصارها المدوي في معركة الطغيان رغم وجود القوى الدولية والإقليمية التي كانت تناصر وتدعم وتساند النظام البائد؛ صارت أمرا جوهريا حتى بعد أن نجح المضادون للثورات في تشويه ومحاصرة تلك الثورات من كل طريق وبكل الأساليب.
استثمار هذا الزخم يؤكد سنة ماضية؛ أن التغيير قادم لا محالة، إما أن تكون فاعلا فيه أو مجرد موضوع للتغيير تبدو في حالة كسل في التفكير وهزال في العمل والتأثير، ومن ثم فإن السبيل هو طوفان الوعي الذي يمثل التشكيلات الوسيطة التي ستبني هذا الطوفان الجارف الذي سيقود عمليات التغيير، خاصة وأن العالم في حالة تغير عميق وشامل. وهناك حالة من التدافع الحاد المركب المكثف وانعكاساته غير المنكورة على كافة المستويات والساحات والمساحات والمجالات.
وتأسيسا على ذلك ضرورة ولزوما، من المهم أن نشير الى فكرة جوهرية تتعلق بما يمكن تسميته "جغرافيا التغيير" والتي تؤصل معنى اعتبار جهات الاختلاف الأربع الإنسانَ في المكان والزمان وما يطرأ عليه من أحدات ومتغيرات وتحولات، وهو ما يؤكد معنى قاعدة مالك بن نبي التي تشير إلى مسألتي الصحة والصلاحية؛ تأكيدا منا أن مشاتل التغيير تتنوع في بيئاتها وسياقاتها، كل تلك الأمور لا بد أن تؤخذ في الحسبان ضمن عمليات التغيير ضمن قواعد الفاعلية والتأثير. التغيير إذن عملية مركبة تحرك كل أصول ومكامن التغيير وآلياته وتراتب مستوياته.
من المهم ونحن نحدد مسارات العمل التي يمكن أن نفكر فيها وبرامج التغيير الممكنة أن نستبطن بمعرفة بصيرة وقديرة هذا التدافع بمستوياته وتجلياته المختلفة، وبالتالي فإن النظر بصفة مستمرة في مسارات التغيير وحالة التدافع في حركته العامة خاصة عند تحويلها لبرامج عمل؛ هو من ضرورة الانتباه والتنبه إلى سلوك الأطراف الأخرى وخياراتهم وإمكانياتهم التي يمكن أن توجه لإجهاض المشروع ومحاربته، مثلما حدث في الثورات التي طالت بلدانا عربية، وأخافت دولا عدة، فلاذت بعضها بسعيٍ حثيث في العمل على مستويات إقليمية ودولية بتخريب تلك الثورات ومحاولة الإجهاز عليها بطرق مختلفة؛ أهمها ترسيخ حالة من الشعور في الرأي العام "ليتنا نعود إلى ما قبل الثورات".
وعليه، تأتي أهمية طوفان الوعي الذي نؤكد عليه، فالتصورات بخصوص التغيير الهادف إلى عمليات تغيير جذري مقترنة بالوعي وحفز التغيير بوجه عام؛ هي ما تحتاجه أمتنا العربية، ودول الطوفان أو دول الثورات، ولذلك علينا أن نستثمر في مشتل التغيير ببناء هيكل لعمليات التغيير واستراتيجياته، بالتعرف على خريطة الإمكانات، وما نستطيع أن نفعّله من خريطة الأهداف التي سيتم الوقوف عليها باعتبارها أولويات في العمل والنشاط والحركة، بما في ذلك الاتفاق على تحديد مقاييس لعملية التغيير، سواء في جانبها السلبي أو الإيجابي.
هذا الأمر يتطلب منا العمل بمنهجية محددة لها أطر ومستويات وفواعل ومجالات وسياقات وسنن وهو ما تتضمنه الآية الكريمة "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11)، وقد أكد سبحانه وتعالى على هذا المعنى في سورة الأنفال بقوله: "ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرا نِّعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال: 53). ولذلك نرى أن القرآن الكريم يتحدث عن أربعة أنواع من التغيير؛ التغيير الإلهي، وتغيير النفس الفردي والجماعي، وتغيير القوم. أي أن مسألة التغيير متسعة وذات دلالات عميقة ومتصلة، ترتكز على ضرورة إعادة النظر في معظم المقولات السائدة ومراجعتها على أساس من نسق قياسي لمفهوم إسلامي أساسي مثل مفهوم التغيير، وهو ما يحقق الضبط في النظر، وعدم الارتكان إلى مقولات الاستثناء، أو أن هيمنة الاستبداد وسيطرة المستبدين لعدم لياقة مجتمعاتنا للتغيير، الأمر الذي يدفعنا إلى التأكيد على أن التغيير عملية يحتاج إلى رعاية وعناية.
وبناء عليه، فإن قولنا بأنه مشتل هو أمر مقصود في ذاته وبنيانه وكيانه، خاصة وأن عملية ضبط النظر هذه تحتاج لاتخاذ مجموعة من المواقف الفكرية الواضحة التي تربط بين الحركة الحاضرة والمستقبلية.
إن استحضار مفهوم الحضاري هو من واجبات الوقت وليس رفاهية أو زينة مفاهيمية، وهو إذ يتعلق بالاستخلاف والتغيير فإنه يطمح أن يضبط عملية هداية الإنسان، وأن ينظمها منهجا واتجاها وغاية، وأن يحافظ بذلك على تفرده في الجماعة المهتدية، وبالتالي فهو يطمح أن يجعل أسس تربية الإنسان وأهدافها متفقة مع تكريمه واستخلافه في الأرض
هذه العمليات والمواقف حتى تحقق المراد منها تحتاج إلى تحديد وبناء سياقها المناسب والملائم الذي يجعل دول الثورات العربية مرتبطة بالطوفان، وتستلهم الخبرات والتجارب الناجحة وتتجنب الفشل والإفشال المتعمد. ومن هنا، فإن استحضار مفهوم الحضاري هو من واجبات الوقت وليس رفاهية أو زينة مفاهيمية، وهو إذ يتعلق بالاستخلاف والتغيير فإنه يطمح أن يضبط عملية هداية الإنسان، وأن ينظمها منهجا واتجاها وغاية، وأن يحافظ بذلك على تفرده في الجماعة المهتدية، وبالتالي فهو يطمح أن يجعل أسس تربية الإنسان وأهدافها متفقة مع تكريمه واستخلافه في الأرض.
ويتأسس المنظور الحضاري على النظرية الإسلامية من الناحية المنهاجية، ويعتمد طريقتها ويعتبر ضوابطها في معالجة الواقع وفقهه أهم عناصره، كمقدمة أساسية لتنزيل الحكم الشرعي بعد استنباطه من النصوص الدالة عليه، بما يحقق التكامل مع المنظور الأصولي القائم على منهاجية الاجتهاد، وما يرتبط بذلك من تنزيل الأحكام على الوقائع تنزيلا إسلاميا متكاملا يكون مطابقا لمفهوم الهداية؛ حيث ينبغي أن يؤدي إلى مستوى الإحسان في الأداء، ذلك المستوى الذي تبلغ به الشخصية الإنسانية مرضاة الله.
إلا أن منهاجية الاجتهاد لا تهمل أن الفرد والجماعة عرضة الانحراف في حاجة دائمة لبذل الجهد الواعي للمحافظة على الاتجاه الصحيح والعودة إليه لدى أي انحراف، وإذا بلغ الانحراف مداه فإن انهيارا شاملا سيتهدد الجماعة في كيانها الفكري والسياسي، ثم في وجودها وكيانها الاجتماعي الحضاري وفي مشاعرها وشعائرها، وليس لأية جماعة تزيد عن كونها جماعة إنسانية مسئولة ومستخلفة، فإذا التزمت بالهدى التزاما واعيا شاملا فإنها ستواجه متطلبات المسؤولية وتتقدم في معارج الهدى لا معارج التقدم التكنولوجي، أو المعرفي والاقتصادي فحسب، وأي تراجع عن هذا الالتزام يهدد بإزالتها مهما كان مستوى تقدمها المادي الشكلي.
التغيير كفعل حضاري واستراتيجي قد يجعلنا نؤصل المفهوم المرجعي باعتباره يؤكد على أهم معانيه ومغازيه الكبرى؛ التغيير بما يمثل من سنة ماضية؛ وعملية كلية جامعة؛ واستشراف لحالة مستقبلية؛ ووعي راشد وسعي سديد يتعلق بمشاتل التغيير الحضارية في الأمة؛ يتطلب منا هذا التأصيل في مقال آت بحول الله.
x.com/Saif_abdelfatah