لجريدة عمان:
2025-02-16@12:02:42 GMT

فـي حـقـوق الفـرد

تاريخ النشر: 25th, September 2024 GMT

وُلِـدَ الفـرد في التّـاريـخ الحـديث مع ولادة الحـقّ المـدنـيّ والسّـياسـيّ. قبل هـذا لم يكـن هنـاك فـردٌ بالمعـنـى الـدّقـيق، بـل كـان كـلُّ واحـدٍ جـزءا مـن نـظـامٍ جـمـاعـيّ يـنـتـمي إليـه ويـتـحـدّد بـه. كـان مشـدودا إلى روابـط الأهـل والعـشيـر: عائـلـة أو عـشيـرة أو قـبيـلة وما في معنـاها، مُـنْحـكـماً بـما تـقـضي بـه من قـيـمٍ ومن أحكـام؛ ذاتُـه من ذاتـها الجـماعيّـة: ذائـبـةٌ فيها ومـنـدغمـةٌ ولا كيـانَ خـاصّـاً لـه يستطيـع الاستـقـلالَ بـه عن النّـظـام الجـمْـعـانيّ السّـائـد.

الـدّولـةُ، بما هي الإطـارُ النّاظـم لوجـود الجماعة السّيـاسيّـة، هي مـن وفّـر أساسات تحـريـر الأفـراد من قيـود ذلك النّـظـام الجـمـعانيّ وتمـكـيـنـهم، بالتّـالي، مـن الصّـيرورة أفـراداً ذوي كيـانيّـة مسـتـقـلّـة. ولـقـد كانت الحـقـوق التي مُـنِـحت لهـم، من قِـبَـل الـدّولة الحديـثة، هي ما مكّـنـهـم من ذلك الاستـقـلال الذي بـه صاروا أفـرادا، بالقـدر عيـنِـه الذي ظـلّـت فيه تلك الحـقوق قَـيِّـمَـةً على ترسيخ ذلك الاستـقـلال عن الأطـر الجـماعـويّـة الكابـحـة.

ليس يـعْـنينـا، في هـذا المقـام، أن نـحـلِّـل عـملـيّـة التّـفـكُّـك التي شـهِـد عليها النّـظـامُ الجـمْـعـانـيّ في العصـر الحـديث وتـولّـدت منـها الفـردانـيّـةُ في صـيـغـتـها الأولى، والأسبابَ والعـوامل التي كانت في أساس ذلك التّـفـكُّـك، فـتـلك مسـألـةٌ تخـرُج عن نـطـاق السّـياق الذي نحـن فيـه، إنّـما يـعْـنينـا أن نـقـف على عـلاقـة التّـرابُـط التّـلازمـيّ بين الفـرد ومنـظـومة الحـقـوق وعلى دور الـدّولـة، على نحـوٍ خـاصّ، في إنـتـاج تلك العـلاقـة التّـلازمـيّـة بيـنـهـما، بـغيـةَ رصْـدِ وجْـهٍ مـن وجـوه الحـقـوق التي يـقـع توزيـعُـها داخـل النّـظام الاجـتـماعـيّ بـناءً على أحكـام قوانيـن الـدّولة الحـديثـة؛ نعـني حـقـوق الأفـراد.

حـين قـلـنا، في منـاسـبات سابـقـة، إنّ الـفـرد ليس معـطًـى طـبيـعـيّـاً وإنّـما هـو معـطًـى سـياسـيّ، وأنّ الأفـراد والمـواطنـيـن لم يخـرُجوا من أرحـام أمّـهـاتـهـم إلى العالـم وإنّـما خـرجـوا من أحشـاء المؤسّـسات السّـياسيّـة (= الـدّولـة) والـقوانـيـن...، فـلـكي نشـدِّد على أنّ الـدّولـة وحـدهـا مَـن اسـتطـاع أن يعـيـد هـنـدسـةَ المجـتـمـع على قـوامٍ جـديد مغايـر لذلك الذي سـاد لأحـقـابٍ من الزّمـن مـتـطاولة، اخـتـفـت في هـذه الهنـدسـة صـورة الجـمـاعات الأهـلـيّـة من عصـائـب وعشـائـر وقـبائـل أو، قُـلْ، اخـتـفـى أيُّ تـشـريعٍ قـانـونيّ شـرعـيّ لها وكـأنّـها، بالنّـسبة إلى الـدّولـة الوطـنيّـة، غيـرُ ذاتِ وجـود فيـما انـصـرف اعـتـرافُ الـدّولـة وقـوانيـنـها إلى كيـانٍ اجـتـماعيّ واحـد هو الفـرد. إنّـه الوحـدة الاجـتـماعـيّـة المـعـتـرَف بـها من الـدّولـة، من دون سـواهـا ابـتـداءً، ثمّ قـبـل سـواها تاليـاً (الجمـاعـات الإنتاجيّـة والمهـنـيّـة والتّـعاونيّـة والمدنـيّـة ثمّ السّـياسيّـة)؛ إذْ هـو مَـن تـخاطِـبُـه قـوانيـنُـها في المـقام الأوّل. لـقـد كـان مـدار هـذه الهـنـدسـة الجـديـدة للمـجـتمع - التي نـهـضتِ الـدّولـة بـإنجـازهـا - على عـمـلـيّـة فَـرْدَنَـة Individualization المجـتـمـع؛ أي قـسـمتـه إلى أفـراد مستـقـلّـين. وقضـتِ الفـردنـةُ هـذه - في ما قضـت بـه - بفـصـل هـؤلاء عن كـلّ الرّوابـط التي تشـدُّهـم إلى جماعـات أهليّـة وعـصـبيّـات جمـاعـويّـة، وإحكـام ربطـهم بكـيانـيّـةٍ عـليا واحـدة ومرجعيّـة هي الـدّولـة، وإعـادة تحديـدهم بما هُـم منـتـمون إليها، حصـريّـاً، ومحـكـومـون بـقوانيـنـها.

بـهذا المعـنى، إذا كـان مبـدأ الفـرديّـة قـد تَـوَلَّـد من عـمليّـةِ نـقـضٍ شاملـة لمـبـدأ الجـمـاعـويّـة، الذي عليه سارت سـنـن المجـتمـعات الإنسانـيّـة لآلاف السّـنيـن، فإنّ ذلك ليس يـعـني، أَلْـبَـتَّـةَ، أنّـه مبـدأٌ يـقـع في مـوقـع تَـقابُـلٍ دائـم مـع مبـدأ النّـظـام الجـماعـيّ؛ آيُ ذلك أنّ الفـرد المُـنْـفَـكَّ عـن روابـط الانـتـماء الجـمْـعانيّ هـو، في الوقـت عيـنِـه، الفـردُ المنـتـمي إلى جمـاعـةٍ اجتـماعيّـة جـديـدة أعلى من الجمـاعـات الأهـليّـة السّابـقـة هي الجمـاعـة الوطـنيّـة. إنّـه خـاضـعٌ، مـثـل غـيره من أفـرادها، لمنظـومـة القـوانيـن التي تـسُـنّـها الـدّولـة لشـؤون الجمـاعـة تـلك. هـكـذا نُـدْرِك أنّ الفـردانيّـة - في ابـتـداء نشـأتـها على الأقـلّ - لم تـمـثّـل مصـدرَ تـهـديـدٍ للـدّولـة والمجـتـمع؛ ليس فـقـط لأنّـها منـتـوجٌ سياسيّ من منـتـوجـات الـدّولـة فـقـط، بـل لأنّـها لا تـتـحـقّـق كـفـردانـيّـة إلاّ بالـدّولـة، ثـمّ لأنّـها ملـجـومـة بأحكـام القـوانيـن التي تـفرضـها الـدّولـة؛ الأمـر الذي يمـنـع من تـهـديـد السِّـلم والاستـقـرار من طـريـق انـتـهـاك تلك القـوانـيـن: التي منـها، مـثـلاً، تـغـليب المصالـح الخاصّـة على المصالـح العامّـة، إرادة الفـرد على إرادة الجمـاعـة الوطـنـيّـة، الحـريّـة الفـرديّـة على الـدّولـة والقـانـون. هـذا يـؤدّيـنـا إلى الكـلام على الوجْـه الأَعْـنَـى بالاهـتـمام في مـوضـوع الفـرد وحـقـوقـه هـو المتـعـلّـق باللّحظـة السّـياسيّـة الانـعـطافـيّـة التي يكـون فيها الفـردُ مـواطـنـاً؛ أي التي يـتـطابـق فيـها مـبـدآ الفـرديّـة والمُـواطَـنـة فـيـتـولّـد منـه تَـشَـبُّـعٌ جـديـدٌ للفـرديّـة بالمبـدأ الجمـاعـيّ الذي تـمثّـله منـظـومـةُ المواطَـنـة.

المـواطـن، في الـدّولـة الحـديثـة، تجسـيدٌ مـاديٌّ سـياسـيّ لـعـلاقـة جـدليّـة بيـن مبـدأيـن يجـمعـان، في بـنيـةٍ واحـدة، بيـن الفـرديّ والجمـاعـيّ هـما: الحـقّ والواجـب. المـواطـن - ويُسـمّـى في اللّـغـة السّياسيّـة الأمـريكـيّـة دافـعَ الضّـرائب - مـلتـزمٌ تجـاه الـدّولـة التي هو عضـوٌ فيـها بأداء واجبـات تُـرتّـبـها عليه الـقـوانيـن: من احتـرام القـانون إلى دفْـع الضّـرائـب إلى التّـضحـيّـة (الخـدمـةُ العسـكـريّـة منـها). مجـرّد انـتـمائـه إلى الـدّولـة وتَـمـتُّـعـه بـحمـايـتـها يـفـرض عليه أداء واجـبٍ يعـرف أنّـه سـيسـتـفـيـد منـه (لأنّـه واجـب جمـاعيّ). في المقابـل تـلـتـزم الـدّولـةُ - التي هـي المـجـتـمعُ منـظَّـماً ومُـمَـأسَـسـا - بـتـمـتـيـعـه بحـقوقـه المـدنـيّـة والسّـياسيّـة التي بـهـا تـكـون مـواطـنَـتُـه مكـتـملـةَ الأركـان. لا مكـان، في الـدّولـة الوطـنـيّـة، لـمقايـضـةٍ بيـن الحـقّ والواجـب لأنّـهـما مـعـا قَـدمَـا المواطـنـة التي بهـما تمـشـي هـذه والتي بـهـما يكـون الـفـردُ مـواطـناً. هـكـذا يـرفـع مفـهـومُ المواطِـن الفـرد من حـدوده النّـوويّـة الصّـغـرى (الفـرديّـة) إلى الحـدود الجماعـيّـة. إنّـه ليس فـردا فحسـب، صاحـب حـقّ، بـل هـو فـردٌ صـاحـبُ حـقٍّ وعليـه واجـب... تجـاه الجمـاعـة الوطـنـيّـة. على أنّـه في الحاليـن مـعـاً (الفـرد والمـواطـن) يكـون للحـقّ طـابـع فـردي؛ لأنّ الـدّولـة تُـفَـرْدِن المجـتـمـع (= تُـصـيِّـرُهُ أفـراداً) وتُـقْـطِـع لـهم الحقـوق بمـا هُـم كذلك: أفـراد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الس ـیاسی ـة الفـردی ـة الن ـظـام الـد ولـة ـة التی لأن ـه ـة الت

إقرأ أيضاً:

غيَّر قوانين سجون الاحتلال.. من هو الأسير مازن القاضي الذي خدع إسرائيل؟

صفقة تبادل أسرى جديدة حدثت اليوم، إذ أطلقت حركة حماس سراح 3 أسرى إسرائيليين، مقابل إفراج سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن نحو 395 أسيرا فلسطينيا، من بينهم 36 من المحكومين بأحكام مرتفعة، وأبرز هؤلاء الفلسطينيين الأسير مازن القاضي من مدينة البيرة قرب رام الله، والذي تسبب في تغيير قوانين سجون الاحتلال.

تغيير قوانين سجون الاحتلال

الأسير مازن القاضي، الذي أدين بتنفيذ عملية في مطعم «سي فود ماركت» عام 2002، أسفرت عن مقتل ثلاثة إسرائيليين، وحُكم عليه بالسجن 3 مؤبدات أمنية «المؤبد الأمني الإسرائيلي 100 عام» و25 عاما أخرى.

أشعل اسم «القاضي» الداخل الإسرائيلي عام 2023، عندما كشفت التحقيقات الأمنية، أنه استطاع أن يوطد علاقته مع 5 مجندات إسرائيليات كن يعملن كحارسات في سجن رامون، موضحين أن الأسير الفلسطيني استطاع أن يحتفظ بهاتف محمول داخل زنزانته، حيث استخدامها لإجراء مكالمات وحتى لتبادل الصور والمعلومات من داخل السجن.

وخلال التحقيقات، كشفت إحدى المجندات التي كان يتم التحقيق معها، أن هناك 4 أخريات متورطات معها، وعلى إثر تلك الواقعة، قررت السلطات الإسرائيلية حظر عمل المجندات في السجون التي تحتجز أسرى فلسطينيين، لمنع تكرار مثل هذه الحالات، وفق ما نقلت شبكة سكاي نيوز. 

مَن هو الأسير مازن القاضي؟

الأسير مازن القاضي، الذي قضى داخل سجون الاحتلال نحو 23 سنة، انخرط في العمل النضالي الفلسطيني منذ طفولته وشارك في انتفاضة الأقصى، ما أدى إلى اعتقاله في مارس 2002 بعد تحقيق استمر 50 يومًا في مركز عسقلان.

بعد 21 شهرًا من اعتقاله، صدر حكم بسجنه مدى الحياة ثلاث مرات بالإضافة إلى 25 سنة، رغم ذلك، تمكن من استكمال دراسته وحصل على شهادة الثانوية العامة، ثم البكالوريوس، وكان بصدد استكمال درجة الماجستير إلا أن أحداث السابع من أكتوبر وتعنت الاحتلال منعه من هذا.

خلال فترة اعتقاله، فقد والده وحُرم من توديعه، كما أن عائلته مُنعت من زيارته بشكل متكرر.

معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال 

وكانت هيئة شؤون الأسرى، قد قالت في أغسطس 2024، خلال زيارة محامي هيئة شؤون الأسرى والمحررين له، كشف الأسير مازن القاضي، عن معاناة الأسرى في عزل سجن ريمونيم بعد نقله من عزل الرملة.

تحدث عن المعاملة القاسية التي تشمل تقييد الأسرى للخلف وإجبارهم على الجلوس على الركب ووجوههم للحائط أثناء العد اليومي أو خلال جولة المدير، كما أوضح أن الطعام المقدم لهم قليل ورديء، ما تسبب في فقدانه 25 كيلوجرامًا من وزنه.

أما عن ظروف المعيشة، فأشار إلى امتلاك كل أسير غيارين فقط، مع السماح بالاستحمام لمدة 15 دقيقة يوميًا وبكمية ضئيلة من الشامبو تُقسّم بينهم، كما يُسمح لهم بالخروج لساحة السجن لمدة ساعة واحدة فقط يوميًا.

وذكر أن عمليات نقل الأسرى تتم بوحشية، عبر اقتحام الزنازين بشكل مفاجئ، استخدام قنابل الصوت وغاز الفلفل، والاعتداء عليهم جسديًا لإرهابهم.

على الصعيد الصحي، صرح القاضي بأنه تعرض لاعتداء عنيف في سجن مجيدو في أكتوبر 2023، نتج عنه جرح في رأسه تم تقطيبه، وتضرر العصب في إصبعين من يده اليمنى، ما أفقده القدرة على تحريكهما حتى الآن، ويحتاج إلى علاج ومتابعة طبية.

مقالات مشابهة

  • ترامب:الذي ينقذ بلاده لا ينتهك أي قانون
  • غيَّر قوانين سجون الاحتلال.. من هو الأسير مازن القاضي الذي خدع إسرائيل؟
  • التحدي الوجودي الذي يواجه العرب!
  • صريح جدا: هذا هو الشخص الذي يثق فيه الجزائري و يبوح له بسره
  • أردوغان: نتوقع أن يفي ترامب بالوعد الذي قطعه قبل الانتخابات
  • المملكة تدين حادث الدهس الذي وقع في مدينة ميونخ الألمانية
  • مبادرة الطريق الأخضر.. البيئة تشارك المجتمع المدنى فى زراعة 1250 شجرة بالمحميات الطبيعية.. إمام: نصيب الفرد المصري من المساحة الخضراء سُدس توصيات الصحة العالمية.. وعيسي: التمويل المناخي فريضة غائبة
  • في الذكرى الـ20 لرحيله.. "ثابت" البطل الذي لا ينسى
  • كيف رد ترودو على ترامب الذي يرى في ضم كندا فرصة؟
  • مشروع رفيق الحريري... الذي انتقم له التاريخ!