لجريدة عمان:
2025-03-18@15:17:29 GMT

فـي حـقـوق الفـرد

تاريخ النشر: 25th, September 2024 GMT

وُلِـدَ الفـرد في التّـاريـخ الحـديث مع ولادة الحـقّ المـدنـيّ والسّـياسـيّ. قبل هـذا لم يكـن هنـاك فـردٌ بالمعـنـى الـدّقـيق، بـل كـان كـلُّ واحـدٍ جـزءا مـن نـظـامٍ جـمـاعـيّ يـنـتـمي إليـه ويـتـحـدّد بـه. كـان مشـدودا إلى روابـط الأهـل والعـشيـر: عائـلـة أو عـشيـرة أو قـبيـلة وما في معنـاها، مُـنْحـكـماً بـما تـقـضي بـه من قـيـمٍ ومن أحكـام؛ ذاتُـه من ذاتـها الجـماعيّـة: ذائـبـةٌ فيها ومـنـدغمـةٌ ولا كيـانَ خـاصّـاً لـه يستطيـع الاستـقـلالَ بـه عن النّـظـام الجـمْـعـانيّ السّـائـد.

الـدّولـةُ، بما هي الإطـارُ النّاظـم لوجـود الجماعة السّيـاسيّـة، هي مـن وفّـر أساسات تحـريـر الأفـراد من قيـود ذلك النّـظـام الجـمـعانيّ وتمـكـيـنـهم، بالتّـالي، مـن الصّـيرورة أفـراداً ذوي كيـانيّـة مسـتـقـلّـة. ولـقـد كانت الحـقـوق التي مُـنِـحت لهـم، من قِـبَـل الـدّولة الحديـثة، هي ما مكّـنـهـم من ذلك الاستـقـلال الذي بـه صاروا أفـرادا، بالقـدر عيـنِـه الذي ظـلّـت فيه تلك الحـقوق قَـيِّـمَـةً على ترسيخ ذلك الاستـقـلال عن الأطـر الجـماعـويّـة الكابـحـة.

ليس يـعْـنينـا، في هـذا المقـام، أن نـحـلِّـل عـملـيّـة التّـفـكُّـك التي شـهِـد عليها النّـظـامُ الجـمْـعـانـيّ في العصـر الحـديث وتـولّـدت منـها الفـردانـيّـةُ في صـيـغـتـها الأولى، والأسبابَ والعـوامل التي كانت في أساس ذلك التّـفـكُّـك، فـتـلك مسـألـةٌ تخـرُج عن نـطـاق السّـياق الذي نحـن فيـه، إنّـما يـعْـنينـا أن نـقـف على عـلاقـة التّـرابُـط التّـلازمـيّ بين الفـرد ومنـظـومة الحـقـوق وعلى دور الـدّولـة، على نحـوٍ خـاصّ، في إنـتـاج تلك العـلاقـة التّـلازمـيّـة بيـنـهـما، بـغيـةَ رصْـدِ وجْـهٍ مـن وجـوه الحـقـوق التي يـقـع توزيـعُـها داخـل النّـظام الاجـتـماعـيّ بـناءً على أحكـام قوانيـن الـدّولة الحـديثـة؛ نعـني حـقـوق الأفـراد.

حـين قـلـنا، في منـاسـبات سابـقـة، إنّ الـفـرد ليس معـطًـى طـبيـعـيّـاً وإنّـما هـو معـطًـى سـياسـيّ، وأنّ الأفـراد والمـواطنـيـن لم يخـرُجوا من أرحـام أمّـهـاتـهـم إلى العالـم وإنّـما خـرجـوا من أحشـاء المؤسّـسات السّـياسيّـة (= الـدّولـة) والـقوانـيـن...، فـلـكي نشـدِّد على أنّ الـدّولـة وحـدهـا مَـن اسـتطـاع أن يعـيـد هـنـدسـةَ المجـتـمـع على قـوامٍ جـديد مغايـر لذلك الذي سـاد لأحـقـابٍ من الزّمـن مـتـطاولة، اخـتـفـت في هـذه الهنـدسـة صـورة الجـمـاعات الأهـلـيّـة من عصـائـب وعشـائـر وقـبائـل أو، قُـلْ، اخـتـفـى أيُّ تـشـريعٍ قـانـونيّ شـرعـيّ لها وكـأنّـها، بالنّـسبة إلى الـدّولـة الوطـنيّـة، غيـرُ ذاتِ وجـود فيـما انـصـرف اعـتـرافُ الـدّولـة وقـوانيـنـها إلى كيـانٍ اجـتـماعيّ واحـد هو الفـرد. إنّـه الوحـدة الاجـتـماعـيّـة المـعـتـرَف بـها من الـدّولـة، من دون سـواهـا ابـتـداءً، ثمّ قـبـل سـواها تاليـاً (الجمـاعـات الإنتاجيّـة والمهـنـيّـة والتّـعاونيّـة والمدنـيّـة ثمّ السّـياسيّـة)؛ إذْ هـو مَـن تـخاطِـبُـه قـوانيـنُـها في المـقام الأوّل. لـقـد كـان مـدار هـذه الهـنـدسـة الجـديـدة للمـجـتمع - التي نـهـضتِ الـدّولـة بـإنجـازهـا - على عـمـلـيّـة فَـرْدَنَـة Individualization المجـتـمـع؛ أي قـسـمتـه إلى أفـراد مستـقـلّـين. وقضـتِ الفـردنـةُ هـذه - في ما قضـت بـه - بفـصـل هـؤلاء عن كـلّ الرّوابـط التي تشـدُّهـم إلى جماعـات أهليّـة وعـصـبيّـات جمـاعـويّـة، وإحكـام ربطـهم بكـيانـيّـةٍ عـليا واحـدة ومرجعيّـة هي الـدّولـة، وإعـادة تحديـدهم بما هُـم منـتـمون إليها، حصـريّـاً، ومحـكـومـون بـقوانيـنـها.

بـهذا المعـنى، إذا كـان مبـدأ الفـرديّـة قـد تَـوَلَّـد من عـمليّـةِ نـقـضٍ شاملـة لمـبـدأ الجـمـاعـويّـة، الذي عليه سارت سـنـن المجـتمـعات الإنسانـيّـة لآلاف السّـنيـن، فإنّ ذلك ليس يـعـني، أَلْـبَـتَّـةَ، أنّـه مبـدأٌ يـقـع في مـوقـع تَـقابُـلٍ دائـم مـع مبـدأ النّـظـام الجـماعـيّ؛ آيُ ذلك أنّ الفـرد المُـنْـفَـكَّ عـن روابـط الانـتـماء الجـمْـعانيّ هـو، في الوقـت عيـنِـه، الفـردُ المنـتـمي إلى جمـاعـةٍ اجتـماعيّـة جـديـدة أعلى من الجمـاعـات الأهـليّـة السّابـقـة هي الجمـاعـة الوطـنيّـة. إنّـه خـاضـعٌ، مـثـل غـيره من أفـرادها، لمنظـومـة القـوانيـن التي تـسُـنّـها الـدّولـة لشـؤون الجمـاعـة تـلك. هـكـذا نُـدْرِك أنّ الفـردانيّـة - في ابـتـداء نشـأتـها على الأقـلّ - لم تـمـثّـل مصـدرَ تـهـديـدٍ للـدّولـة والمجـتـمع؛ ليس فـقـط لأنّـها منـتـوجٌ سياسيّ من منـتـوجـات الـدّولـة فـقـط، بـل لأنّـها لا تـتـحـقّـق كـفـردانـيّـة إلاّ بالـدّولـة، ثـمّ لأنّـها ملـجـومـة بأحكـام القـوانيـن التي تـفرضـها الـدّولـة؛ الأمـر الذي يمـنـع من تـهـديـد السِّـلم والاستـقـرار من طـريـق انـتـهـاك تلك القـوانـيـن: التي منـها، مـثـلاً، تـغـليب المصالـح الخاصّـة على المصالـح العامّـة، إرادة الفـرد على إرادة الجمـاعـة الوطـنـيّـة، الحـريّـة الفـرديّـة على الـدّولـة والقـانـون. هـذا يـؤدّيـنـا إلى الكـلام على الوجْـه الأَعْـنَـى بالاهـتـمام في مـوضـوع الفـرد وحـقـوقـه هـو المتـعـلّـق باللّحظـة السّـياسيّـة الانـعـطافـيّـة التي يكـون فيها الفـردُ مـواطـنـاً؛ أي التي يـتـطابـق فيـها مـبـدآ الفـرديّـة والمُـواطَـنـة فـيـتـولّـد منـه تَـشَـبُّـعٌ جـديـدٌ للفـرديّـة بالمبـدأ الجمـاعـيّ الذي تـمثّـله منـظـومـةُ المواطَـنـة.

المـواطـن، في الـدّولـة الحـديثـة، تجسـيدٌ مـاديٌّ سـياسـيّ لـعـلاقـة جـدليّـة بيـن مبـدأيـن يجـمعـان، في بـنيـةٍ واحـدة، بيـن الفـرديّ والجمـاعـيّ هـما: الحـقّ والواجـب. المـواطـن - ويُسـمّـى في اللّـغـة السّياسيّـة الأمـريكـيّـة دافـعَ الضّـرائب - مـلتـزمٌ تجـاه الـدّولـة التي هو عضـوٌ فيـها بأداء واجبـات تُـرتّـبـها عليه الـقـوانيـن: من احتـرام القـانون إلى دفْـع الضّـرائـب إلى التّـضحـيّـة (الخـدمـةُ العسـكـريّـة منـها). مجـرّد انـتـمائـه إلى الـدّولـة وتَـمـتُّـعـه بـحمـايـتـها يـفـرض عليه أداء واجـبٍ يعـرف أنّـه سـيسـتـفـيـد منـه (لأنّـه واجـب جمـاعيّ). في المقابـل تـلـتـزم الـدّولـةُ - التي هـي المـجـتـمعُ منـظَّـماً ومُـمَـأسَـسـا - بـتـمـتـيـعـه بحـقوقـه المـدنـيّـة والسّـياسيّـة التي بـهـا تـكـون مـواطـنَـتُـه مكـتـملـةَ الأركـان. لا مكـان، في الـدّولـة الوطـنـيّـة، لـمقايـضـةٍ بيـن الحـقّ والواجـب لأنّـهـما مـعـا قَـدمَـا المواطـنـة التي بهـما تمـشـي هـذه والتي بـهـما يكـون الـفـردُ مـواطـناً. هـكـذا يـرفـع مفـهـومُ المواطِـن الفـرد من حـدوده النّـوويّـة الصّـغـرى (الفـرديّـة) إلى الحـدود الجماعـيّـة. إنّـه ليس فـردا فحسـب، صاحـب حـقّ، بـل هـو فـردٌ صـاحـبُ حـقٍّ وعليـه واجـب... تجـاه الجمـاعـة الوطـنـيّـة. على أنّـه في الحاليـن مـعـاً (الفـرد والمـواطـن) يكـون للحـقّ طـابـع فـردي؛ لأنّ الـدّولـة تُـفَـرْدِن المجـتـمـع (= تُـصـيِّـرُهُ أفـراداً) وتُـقْـطِـع لـهم الحقـوق بمـا هُـم كذلك: أفـراد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الس ـیاسی ـة الفـردی ـة الن ـظـام الـد ولـة ـة التی لأن ـه ـة الت

إقرأ أيضاً:

تعرف على رئيس الشاباك رونين بار الذي أقاله نتنياهو

وعُين بار نائبا لرئيس الشاباك في عام 2018 ثم رئيسا للجهاز في أكتوبر/تشرين الأول 2021، علما بأنه أعلن تحمله المسؤولية عن الإخفاق في كشف تحضيرات هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

17/3/2025

مقالات مشابهة

  • معتمر مصري: فضل الله هو الذي جعل الحرمين في أيدٍ أمينة بيد السعوديين.. فيديو
  • زيادة 125 جنيهًا للبطاقات التموينية ذات الفرد الواحد.. في هذا الموعد
  • «وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها على الفرد والمجتمع».. ندوة توعوية بشبراخيت في البحيرة
  • حديث أركو مناوي ..الذي نفذ في خضّم المعركة ورغم مرارات الحرب
  • موجز
  • تعرف على رئيس الشاباك رونين بار الذي أقاله نتنياهو
  • راشيل كوري: الناشطة الأمريكية التي ضحت بحياتها دفاعا عن منزل فلسطيني
  • "فاهمني".. مشروع تخرج طالبات كلية الإعلام عن مهارات الذكاء العاطفي
  • بمواصفات خيالية.. هل يكون «OnePlus» الحاسب الذي ننتظره؟
  • هزاع بن زايد: صون حقوق الأطفال وهويتهم أولوية مطلقة