ميدان التحرير بصنعاء يشهد حفل ايقاد شعلة ثورة 26 سبتمبر
تاريخ النشر: 25th, September 2024 GMT
وفي الحفل، الذي بُدئ بآيات من الذكر الحكيم، والسلام الجمهوري بحضور وزيري الدفاع والإنتاج الحربي اللواء الركن محمد العاطفي، والشباب والرياضة الدكتور محمد علي الموّلد، وأمين العاصمة الدكتور حمود عُباد، تقدّم قائد الاستعراض الشبابي الكشفي، محمد المطري، بالاستئذان لبدء العرض.
عقب ذلك قام أشبال وشباب الكشافة بالمرور من أمام منصة الاحتفال، على هيئة استعراض جسّد فيه المشاركون أهداف الثورة اليمنية الستة، ومبادئها العظيمة، وهتفوا بشعارات الحرية المعبّرة عن عظمة ومكانة هذه الثورة الوطنية في نفوس اليمنيين ووجدانهم.
وعبرت فقرات العرض الشبابي الكشفي، مصحوباً بالموسيقى العسكرية والمعزوفات الوطنية، عن المدلولات العظيمة لأفراح الشعب اليمني وابتهاجه بحلول هذه المناسبة الخالدة، وفرحته بالعيد الـ62 لثورة الـ 26 من سبتمبر الخالدة. وعكس العرض الشبابي والكشفي، مستوى التنظيم والانضباط لأبناء الحركة الكشفية الذين أكدوا مضيهم في تحقيق أهداف الثورة اليمنية في ظل القيادة الثورية والسياسية الحكيمة التي أخرجت اليمن من الوصاية والتبعية للخارج.
وفي الحفل، ألقى وزير الشباب والرياضة الدكتور الموّلد، كلمة أشار فيها إلى أن إحياء هذا المهرجان الشبابيِّ الكشفي، حفل إيقاد الشعلة العيد الـ62 لثورة 26 سبتمبر الخالدة، بعد أيام من الاحتفال بالعيد العاشر لثورة ٢١ سبتمبر المجيدة، يأتي في خِضَم الانتصاراتِ المتوالية، التي يجسدها الصمود اليمني في مواجهة قوى الاستكبارِ وطغاة العالم، أعداء الحقِّ والحياة، المعتدين الآثمين على أحرار الأمة في فلسطين واليمنِ ولبنانَ والعراق.
وأكد أن الاعتداءات على دول محور المقاومة جاءت نتيجة رفضها للمشاريع الاستعماريةِ الاستيطانيةِ الأمريكيةِ، البريطانية، الصهيونية، وتقف في خندقِ المواجهة والتصدي لها.
وذكر الدكتور المولد أن الجميع يعلم ما عاناه اليمن جرَّاء العدوان الإقليمي الدولي الهمجي عليه طيلة عشر سنوات، بقيادة أمريكا وبريطانيا خدمة لإسرائيل بأيادٍ سعودية، إماراتية، ارتضى حكامها أن يكونوا خاضعين، ومنقادين يحاربون بالإنابة لصالح المشروع الصهيوني الأمريكي المعادي الذي يستهدف أحرار الأمة.
وأشار إلى العدو يطمع في خيرات اليمن اقتصاديًا، ويسعى لتدمير القيم ثقافيًا وإعلاميًا، وهو مشروع استعماري، تدميري يعي كلُّ يمنيٍّ غايته وأهدافه وممارساته، ويعلمون أنه يستهدف كلَّ اليمن دون استثناء ..
وقال "ونحن نحتفل بهذه الذكرى، علينا أنْ ندرك عددا من الحقائق، ونعي الكثير من المعطيات الماثلة للجميع، التي عايشها أبناء اليمن لعقود تَلَت قيام ثورة 26 سبتمبر".
وأضاف :"فبعد إعلان أهداف ثورة 26 سبتمبر الرامية للتغيير والتطوير، ورفض الاستبداد والتجهيل، والاستعمار، وهي آمال طموحة تنشد واقعًا أفضل يسوده الاستقلالُ والحرية والتنمية والازدهار، سعت الأدوات المرتهنة للخارج، لإفراغ أهداف الثورةِ من مضمونها ومحتواها، ليظلّ اليمن فاقدا للسيادة، ضعيفًا خانعًا تابعًا للخارج الذي صار يتحكم في مقاليدِ الحكم، وسعى لمصادرة السيادة وتدمير المقدرات، وتفكيك النسيج الاجتماعي".
وتابع :"مضتْ عقود من عمر الثورة، وأصبح الواقع مؤسفًا ومُرًّا، وظلَّت عدد من أهداف الثورة حبرًا على ورق، وحكام نظام الجوار، يتحكمون في كلِّ تفاصيل المشهد اليمني، ويُحيكون المؤامرات، ويجنّدون العملاء الذين تمرغوا في وحل الخيانة، مقابل أموال مُدنَّسة، وتوسعتْ دائرة التدخلات، وتغلغلتْ في مفاصل الحُكم، وتحوّل اليمن إلى دولة مسلوبة القرار، منهوبة الثروات، مفصولة عن هُويَّتها وتاريخها الإسلامي، فأصبح اليمن في ذيلِ القائمة في كلِّ المجالات، وصار السفير الأمريكي الحاكم الفعلي، وصاحب، القرارِ والنفوذ".
ولفت الدكتور المولد إلى أن ثورة 21 سبتمبر انطلقت كضرورة ملحة لتصحيح مسارِ الثورات السابقة، منبثقة من وعي الشعبِ وإدراكِه لحتمية التغيير والتحرر من التبعيةِ والوصاية الخارجية، تقودها قيادةٌ ثورية مؤمنة مخلصة، بقيادةِ السيِّدِ المجاهد عبدِالملك بدرِ الدينِ الحوثي، ومعه القيادة السياسيةُ برئاسةِ المشير الركن، مهدي المشَّاط، وَوفق رؤية ومنهج قرآني، يحميها شعب عظيم تشبَّع بالهُويَّة الإيمانية.
وأشار إلى أن هذه الثورة الوليدة استطاعت خلال العشر السنواتِ الماضية، أن تصحح مما علِق بالثورات السابقة، وتضع حدًّا للهيمنة والارتهان للوصاية الخارجية، وأنهتْ حِقبة من التبعية لقِوى الهيمنة الإقليمية والدولية، وتمكنتْ من بسط السيادة الوطنية، واستقلال القرار، وترسيخ الهُوية الإيمانية، وبناء جيش وطني قوي، وصناعة أسلحةِ ردعٍ متطورة، ومواجهةِ العدوانِ وتلقينه دروسًا بالغة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وبدء عملية التغيير الجذري.
كما أكد وزير الشباب والرياضة أن ثورة 21 سبتمبر دعمت وساندت الأشقاء في غزَّة وكلِّ فلسطين، عبر الحصارِ الاقتصادي البحري للعدوِّ الإسرائيلي الأمريكي البريطاني، والضربات العسكرية المؤلمة لأهداف استراتيجيةٍ في عمق الأراضي المحتلة، ومواجهة المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة، وإنجازات أُخرى.
وقدّمت جمعية الكشافة والمرشدات وثيقة وفاء وعرفان مرفوعة من شباب الجمهورية اليمنية إلى فخامة المشير الركن مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى - القائد الأعلى للقوات المسلحة، قرأها القائد الكشفي غليس علي غليس جاء فيها: نيابةً عن شبابِ الجمهورية اليمنية يسرُّنا أن نرفعَ إلى فخامتِكم أطيبَ التهاني، ومن خلالِكم لأعضاءِ المجلسِ السياسيِّ الأعلى، ومجالسِ النوابِ، والوزراءِ، والشورى، والقضاءِ الأعلى، وإلى قواتنا المسلحة والأمن البواسل، وإلى جماهيرِ شعبِنا اليمنيِّ الأبيِّ؛ بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورةِ السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة، متمنِّين لكم دوامَ التوفيقِ والنجاحِ في مهامِكم الوطنيةِ.
فخامة الأخ الرئيس: لقد تابعنا بكلِّ تقديرٍ واعتزاز خطوات التغيير الجذري التي أعلنها قائد الثورة السيد عبدِالملك بدرِ الدينِ الحوثي - يحفظُه الله - بتشكيل حكومة التغيير والبناء، والتغييرات في السلطة القضائية، والتي تعد المرحلة الأولى من مراحل التغيير الجذري الذي يهدف إلى بناء الدولة اليمنية الحديثة، وكذا الانتصار لمظلومية الشعب الفلسطيني، بعمليات بطولية نوعية من خلال فرض الحصار البحري على طرق امدادات العدو الإسرائيلي، ووصول طائراتنا المسيرة وصواريخنا البالستية إلى عمق تواجد المحتلين الصهاينة في يافا وحيفا وغيرها من البلدات المحتلة، والتي جسدت حكمة وشجاعة السيد القائد، نصرة لغزة والشعب الفلسطيني، وأكدت للعالم بأسره أن هنا شعباً مؤمناً قوياً مقتدراً عصياً على السعودية والإمارات، ومرتزقتهم الحالمون بعودة عهد الوصاية والارتهان بعد أن صححت ثورة الـ21 من سبتمبر الشعبية الظافرة مسار الثورات السابقة وكسرت كل رهانات ومؤامرات الأعداء، وأعلنت الحرية والاستقلال وعززت صمود وثبات الشعب اليمني في مواجهة أعداء الأمة.
وفقكم الله وسدد على طريق الخير خطاكم. عاش اليمنُ حراً أبيا مستقلا موحداً.
الرحمةُ والخلودُ للشهداء..
الشفاءُ للجرحى..
الحريَّةُ للأسرى..
الخزيُ والعارُ للخونةِ والعملاء.
اخوانكم شباب الحركة الكشفية
عقب ذلك قام القائدان الكشفيان عباس النمري وسمير البدوي، بتسليم وثيقة الوفاء والعرفان إلى وزيري الدفاع والإنتاج الحربي والشباب والرياضة وأمين العاصمة، لتسليمها إلى رئيس المجلس السياسي الأعلى.
وفي الاحتفال الذي حضره نائب وزير الشباب والرياضة نبيه أبو شوصاء وقيادات عسكرية وأمنية وشبابية ورياضية وثقافية، وقيادات أمانة العاصمة، ومفوض عام الكشافة عبدالله عبيد، وسكرتير عام مفوضية الكشافة مطهر السواري، وأعضاء وقيادات الحركة الكشفية، قُدّمت لوحة استعراضية بعنوان "شموخ وطن"، أداء فرقة "وعد الآخرة" بإشراف دائرة العلاقات العامة بوزارة الدفاع والإنتاج الحربي.
وشملت اللوحة عرض لمهارات شباب الكشافة في الفنون القتالية، وعبرت عن دور الشباب في الثورة واستعدادهم للحفاظ عليها والمشاركة في النهوض والتنمية بالوطن وحمايته من الأخطار المحدقة به في كل المراحل بما في ذلك الأعوام التي يمر بها اليمن من عدوان وحصار.
كما قُدمت لوحة فنية استعراضية بعنوان "الولاء وتصحيح المسار"، فكرة وسيناريو مفوض الكشافة عبدالله عبيد، وإخراج وتصميم علي المحمدي ومتابعة ميدانية لمفوض كشافة الأمانة علي شملان، عبرّت عن عزيمة اليمنيين وقوتهم وصلابتهم في بناء وطنهم في ظل قيادة ثورية ممثلة بالسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي.
وتضمنت اللوحة التي قدم فيها المشاركون بأزياء يمنية تقليدية، أناشيد وأهازيج وزوامل شعبية وطنية مصحوبة برقصة البرع، عكست الموروث الثقافي العميق للشعب اليمني، وأكدت صموده في وجه الأعداء والانتصار عليهم، ومساندته للشعب الفلسطيني في قطاع غزة الذي يتعرض لأبشع الجرائم والمجازر الصهيونية.
ووسط هتافات وطنية لشباب وأشبال الكشافة وابتهاج وفرحة جموع الحاضرين والجماهير الغفيرة في ميدان التحرير بصنعاء والمعزوفات الوطنية للموسيقى العسكرية، قام وزيرا الدفاع والشباب والرياضة وأمين العاصمة، وأمين عام المجلس الأعلى لمناضلي الثورة اليمنية اللواء الركن لقمان باراس، ومعهم القائد الكشفي علي الجرموزي، بإيقاد شعلة العيد الـ 62 لثورة 26 سبتمبر المجيدة.
واختتم حفل إيقاد شعلة ثورة 26 سبتمبر بخروج طابور العرض على هيئة استعراض للفرق الكشفية وسط المعزوفات العسكرية والوطنية ومن ثم السلام الجمهوري.
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
كلمات دلالية: الشباب والریاضة ثورة 26 سبتمبر أهداف الثورة الثورة ا
إقرأ أيضاً:
17نوفمبر 1958 وبروش البكا: ثورة الجهادية على الملكية (3-3)
في إعادة النظر في عقيدة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان تسليماً من عبد الله خليل واستلاماً من الفريق عبود
17نوفمبر 1958 وبروش البكا: ثورة الجهادية على الملكية (3-3)
عبد الله علي إبراهيم
(أعيد هنا نشر ثلاثة فصول من كتابي ". . . ومنصور خالد" (2018) أعدت فيها النظر في ذائعة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان مجرد عملية "تسليم وتسلم" بين عبد الله خليل رئيس الوزراء (أو حزبه) للجيش. وهي ذائعة أفسدت ذوقنا في تحليل ذلك الانقلاب، بل تعدى ذلك إلى بؤس تحليلنا لما بعده من انقلابات. وساق هذا إلى نظريات في الانقلاب غاية في الكآبة و"قدر ظروفك". اطلعت في هذا النظر المجدد إلى أدبيات مجهولة أو مهملة. منها "تقرير لجنة تقصي الحقائق عن انقلاب 17 نوفمبر"، وكتابات الرفيقة روث فيرست عن ذلك الانقلاب في كتابها عن الانقلاب في أفريقيا، وكتاب ب بختولد في السياسة السودانية، وكتاب وليد الأعظمي عن الوثائق البريطانية عن السودان، وكتابات لجعفر حامد البشير قريب الصلة باللواء، وأخرى لمحمد أدروب وعصام ميرغني. وسعيت لدار الوثائق الأمريكية بماريلاند لأتحقق من ذائعة أن الأمريكان من كانوا من وراء الانقلاب التي هي رواية الشيوعيين).
للفريق عبود، مذكرات نشرها في كتاب الوعد ببيروت في 1959 روى فيها كيف ترعرع الانقلاب في جوانح نفسه. يريد به إنقاذ الشعب الذي رنا لقواته المسلحة من تخبّط الأحزاب وفوضاها. وقال فيها إن قادة الجيش، الذين أزعجهم تهافت الاستقلال، أخذوا يجتمعون بصورة سرية للعثور على حل، لتردي البلاد في الفوضى. وذكر يوماً حاسماً من تلك الأيام هو 16 مارس 1958 اجتمع فيه بمنزله بالضباط وحلفوا المصحف ألّا يبوح أحدهم بسِرِّ ما انطووا عليه. وكان في ذلك اللقاء ميلاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة كأداة الحكم المرتقب للعساكر. وتوالت اجتماعات الضباط بمكتبه ليلاً، مرتين في الأسبوع، لتدارس الأوضاع السياسية وتدبير سبل خلاص للشعب من سوء الحكم. وقال إن لقاء المكاتب أفضل من لقاءات البيوت المثير للشبهة. فمفهوم أن يكون القادة بمكاتبهم متى شاءوا. وقال عبود إن خبرته في الصيد قد علمته أن من مكمنه يؤتى الحَذِر. وقال إنه كان يسمع شكاوى الناس من الحكام وهو، الذي أضمر لهم الخير، صامتٌ، لا يطلعهم على مكنونه قائلاً في نفسه: "إننا سننقذكم، إننا لن نترككم: إنني لا أطمع في حكم، ولا أريد مركزاً. كل ما أريده سعادة شعب ونهضة أمة". وقال إن انقلاب 17 نوفمبر وليد تلك الاجتماعات.
تشوب هذه المذكرات، كما لا يخفى، لغة الإعلام التي يكتسب فيها القادة المتجبرون حين خلا لهم الجو مزايا بالتقادم وادّعاءات المنتصر. ولكنها تدعونا لمراجعة تسليمنا الورع بأن البِيْه أو الساسة هم الذين أوحوا للضباط "المحترفين الزاهدين" في السياسة بانقلاب 17 نوفمبر. فقد اتفق لنا أن الجيش كان خلواً من السياسة حتى وسوس له وسواس الساسة في أذنه بها. ومن القائلين بنظرية خلو الجيش من السياسية، عصام الدين مرغني في كتابه “الجيش السوداني والسياسة" (2002). فهو يرى أنه، بخلاف تمرد الفرقة الجنوبية في 1955، كان الجيش احترافياً قائماً بما أمره به الدستور. وأنه لم ترصد أي جهة وجود نشاط سياسي أو عمل تنظيمي سري يهدف إلى التدخل ضد النظام الديمقراطي الشرعي والاستيلاء على السلطة. ولكنه عاد لاحقاً، وبسرعة، في الكتاب لينقض غزله عن براءة الجيش عن السياسة. فلم يكن بوسعه بالطبع تجاوز مشروع الرائد يعقوب كبيده الانقلابي في1957 في سياق السياسة المصرية الوحدوية، ولقاءات الصاغ صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة المصرية، به. وقد جرى تعقُّب كبيدة والقبض على عناصر انقلابه قبل وقوعه. وقد جرى التحقيق في الملابسات وتمت إحالة كبيدة وجعفر نميري ومحمود حسيب وعوض أحمد خليفة للاستيداع.
من المؤمنين بنظرية براءة الجيش من السياسة هذه الصحافي عثمان ميرغني. فقد قال مستنكراً من يزعم أن الفريق عبود انتزع السلطة بانقلاب عسكري. فالساسة، في قول عثمان، هم الذين ذهبوا إليه في القيادة العامة في غمرة نزوات صراعهم السياسي، ورجوه، وبكوا له، وقالوا له من أجل الوطن خُذ السلطة. فلم يكن عبود سياسياً ولا طالباً للسلطة. وعليه لم يكن الجيش لما تولى السلطة خائناً لقسم بلاده ولا صياداً للسلطة بما أنعم اللهُ عليه من عافية القوات المسلحة. وتخلّق مثل شاطحة عثمان السياسية هذه وأصبحت حدوته خرافية عذبة على يد الروائي الطيب صالح بما رزقه الله من الخيال الطليق. قال الطيب: "كان عبود على سِنِّ التقاعد يريد أن يقضى بقية العمر يتعبّد ويأنس بصحبة الرجال من سِنِّه. فجاءه الضباط وقالوا له نعمل ثورة، وأنت قائدها. وقال لهم الله يهديكم أنا وصلت سِنّ المعاش. وقَبِل على مضض، وحكم البلد بلا نفس؛ شغل روتين. وكان يلقي بعض الخُطب بلا قناعة ولا حماسة ترد فيها. مثل إننا سنضرب بيدٍ من حديد. ويوم سمع "يسقط عبود الطاغية" جمع جماعته وقال لقد قلتم لي إن الشعب معنا وما هو معنا كما هو واضح. وتحسّر على سنوات ضاعت لم يقضِها في هناءة المعاش يحكم من ظنهم معه وهم ليسوا معه. وانزوى. وقام ضابط آخر بثورة، فهتف الناس في الأسواق "يعيش عبود البطل". الشعوب أمرها عجيب، وهذا الشعب من أعجب الشعوب". وربما احتجنا للعلم الدقيق بانقلاب عبود لأجل أن نهبط من حالق الطيب صالح إلى حقائق التاريخ. فعبود (أو مَنْ دبَّج له سيرته الرئاسية آنفة الذكر) متفق مع الطيب في جانب أنه لم يكن يطمع في الحكم. ويختلف مع الطيب في أنه لبَّى نداء الوطن أصالة عن نفسه، لا وكالة عن غيره. لم ينهض بالأمر بعد استجداء الضباط بل قاد الضباط لإنقاذ الوطن من براثن الساسة.
كنتُ حدستُ في كلمةٍ سبقت أن انقلاب الضباط على عبد الله خليل البِيْه في اجتماعهم يوم 18 نوفمبر ربما دلَّ على أنهم استقوا خطة الانقلاب من عدة مصادر. ولم تكن دعوته لهم للاستيلاء على الحكم سوى سانحة لم يفرطوا فيها. وقارئ تقرير لجنة التحقيق في الانقلاب الصادر في 1965 يجد بسهولة أنه كان هناك مشروعان لصورة الحكم تنافسا في سياق الانقلاب. فقد كان البِيْه يريد بالانقلاب أن يملي على منافسيه المدنيين شروطه للحكومة القومية التي اتجهت الأنظار إليها كالحَلِّ الأمثَل لمأزق الحكم في أواخر 1958. فقد خطط البِيْه ليفرض الجيش مجلس سيادة ومجلس وزراء بقوائم متفق بها معه. وكان سيناريو الضباط، من الجهة الأخرى، أن يعسكروا الانقلاب جملة واحدة. فحتى خلال حوار الضباط مع البِيْه، أو بين أنفسهم قبل الانقلاب، وضح أنهم يميلون إلى استلام السلطة كاملة حتى لا يُدمَغوا بالحزبية. وقد كانت الخطتان موضع مدارسة اجتماع 18 نوفمبر. وحسم الضباط الأمر بإنشاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة بديلاً عن مجلس السيادة. وعينوا مدنيين بالوزارة لم يراعوا فيهم خيارات البِيْه. وعدَّ البِيْه هذا غدراً من الضباط، وظل يذكره لهم حتى مماته.
مكرُ الجهاديين هذا على الملكيين دليلٌ على أن رغبتهم لحكم البلاد لم تنشأ بإيحاء البِيْه وحده كما جرى الاعتقاد. فلم يكن بوسع الجيش ألّا يختلط بنابل السياسة. ولم يكن بوسع ضباطه أن يصمُّوا آذانهم عن جاهها وسلطانها منحاً ومنعاً. فقد أقلقَ الجهادية من مَلَكية الحركة الوطنية، الذين تولوا الحكم الذاتي في 1954، أشياء بدا لهم بها أنهم ربما ظلموا الجيش أو تجاهلوه في قسمة السلطان. فقد روى الأستاذ جعفر حامد البشير طرفاً من هذا الصراع الملكي الجهادي. وكان لجعفر علاقة باللواء أحمد عبد الوهاب منذ الأربعينات ببندر-قرية الدامر ثم الخرطوم. وقد وصفه بأنه ممن يستمتع بالحوار ويشارك فيه متى انعقد المجلس. وقد تحدث جعفر إليه في الجنوب بعد أن أخمد تمرد 1955. وشكا اللواء لجعفر انصراف الحكومة الوطنية عن العناية بوضع الجيش ومخصصاته وتوفيق أوضاع ضباطه من حيث المرتب والسكن والمكاتب. وقال إنهم يجدون أنفسهم في الكفة الخاسرة متى قارنوا أنفسهم بضباط الجيوش العربية الذين احتكوا بهم. وقال لجعفر إنهم سينقلون مظالمهم لمجلس السيادة والوزراء عن طريق وزير الدفاع. لكنهم بحاجة إلى دعم من الصحافة. وقد وقف جعفر، المحرر بصوت السودان، مع مطلب الضباط بمقالات كان اللواء قد زوده بنقاطها المهمة. وقد وجدت اهتمام الحكومة وأسعدت الضباط وعلى رأسهم عبود الذي اتّصل بجعفر وشكره لأن الحكومة سرعان ما استجابت لهم.
ولا يستبعد المرء أن تكون ثقة الضباط في كفاءة الملكية في الحكم قد تدنَّت بعد الحوادث العنيفة الدموية التي عصفت بالبلاد خلال فترة الحكم الذاتي. مثل حادثة "تمرد" الأنصار في مارس 1954 وتمرد الفرقة الجنوبية في 1955. وهي مواجهات استدعت استنفار الجيش أو ألقت به في المعمعة. وقال الأستاذ محمد أدروب أوهاج إن اللواء محمد نصر عثمان حدَّثه فقال إن الضباط استشعروا عجز الحكومة المدنية منذ 1955 وهو عام أحداث الجنوب، وراودتهم أفكار أن يحكموا البلد هم. وقد حظي اللواء أحمد عبد الوهاب بقصيدة "فتى الدامر" من البروفسير عبد الله الطيب لدوره المشهود في إخماد تمرد 1955:
ألا حي فتى الدامر ليث الغابة الشهما
وفتيان الدفاع الغاسلين العار والضيما
ألا قل لنساء الحيِّ زغردن ولا إثما
تبرجن كما شئتن إنّ النصر قد لاحا
وهي من ديوانه الأول أصداء النيل (1957). وقد أزعجت الناس شائبة العنصرية في بعض لغته. وكتب المرحوم جوزيف قرنق كلمة عنها في جريدة "الميدان". وقد أعاد عبد الله الطيب النظر في أجزاء منها في الطبعة الثانية.
انتقال الضباط من حومة الوغى إلى حومة البرلمان والحكومة طريق سالك جربناه مراراً وتكراراً خلال سني حرب الجنوب الأهلية. ولهذه الهجرة مشابه حتى في النظم الديمقراطية الثابتة. فقد ترشح دانتي فاسيل للكونغرس الأمريكي وفاز وأصبح رئيس لجنة العلاقات الخارجية به من 1984 إلى 1992. وكان فاسيل قد حارب في جبهة شمال أفريقيا في الحرب العالمية الثانية. ولما سألوه لماذا يريد أن يصبح نائباً بالكونغرس قال: " إذا كان قدر الرجال الأمريكيين أن يُبعث بهم إلى الحرب فأنا أريد أعرف جلية الأمر من وراء هذا المبعث وأن أكون جزءاً من عملية اتخاذ مثل هذا القرار."
ما يستحق أن نأخذه بشيء من الجد هو أن هؤلاء الضباط كانت لهم ذاتية سياسية بدرجة ربما غابت منا لشدة سيطرة فكرة "التسليم والتسلم" علينا. ولا أجد تبريراً لانقلابهم على البِيْه، الذي نزعم أنه وليُّ فكرتهم، في الساعات الأولي لذلك الانقلاب إلا احتمال أن كان لهؤلاء الضباط تدبيرٌ طارف أو تليد للاستيلاء على الحكم. ولا تتفق الروايات على متى بدأ الضباط العظام في التفكير في الانقلاب. فالعميد أحمد مجذوب البحاري يقول "إن تفاكرهم حول الانقلاب اتخذ شكل دردشة مع القائد العام ورفاقه في زيارة قام بها للخرطوم قبل أغسطس 1958". وقال العميد أحمد عبد الله حامد "إن العقيد حسين على كرار جاءه في الأبيض وجس نبضه عن الانقلاب". ومن الجدير بالذكر أن حسين كان قد عاد لتوه من بعثة من مصر. وربما ألهمته الخلطة بعسكر مصر وصولجانهم شيئاً عن الجيش والحكم. ودور حسين في انقلاب 17 نوفمبر يستحق نظراً مستقلاً. فعلاوة على ما سبق، عيَّنوه بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة وسكرتيراً له بلا أقدمية فأثار حفيظة العميد عبد الرحيم شنان والعميد محي الدين أحمد عبد الله كما سنرى في الفصل القادم.
كان في حكم المستحيل ألا تدرك الضباطَ السياسةُ في وقتٍ كانت السياسة قد اقتحمت عليهم صحن الثكنات. فقد أزعجَ الضباط الكبار خاصة تحركات صغارهم للاستيلاء على الحكم. فقد قال حسين على كرار للجنة التحقيق في الانقلاب إن السياسة كانت قد تمكنت من الجيش وكان الانقلاب هاجساً للكل. وبدا أن الجميع متفقون أنه مما لابد منه. وقد شرع الصاغ كبيدة فيه لولا أنه كُشف. ولكن ما انقسم الضباط حوله حقاً هو من الأولى بالقيام بالانقلاب. فالصاغات (الرواد) من جهة أرادوا أن يقوموا هم به بينما كانت الرتب الأعلى تريد أن يكون التحرك بأمر القائد. وشعر كبار الضباط كأنهم في حالة سباق مع صغارهم لبلوغ السلطة بالانقلاب. وورد في تحقيق اللجنة أنه إذا ما عملوها الكبار سيعملها الصغار. وكان أشد ما يدفع الرتب العليا لفكرة الانقلاب واستلام السلطة لوقت معلوم هو منع صغار الضباط من عملها. وكان أحمد عبد الوهاب في شهادته أمام لجنة التحقيق شديد الاقتناع بأن الخطر هو بالحق في الضباط الصغار. فقد بلغته، وهو قائد حامية أم درمان، وشاية من صف ضابط عن تحركات انقلابية باكرة لكبيده في 1957. فتعقبه وألقى عليه القبض وقدمه للمحاكمة. ولم يكف صغار الضباط من التفكير في الانقلاب. وكانت تصِل لجنة الأمن تقارير مخابراتية ودبلوماسية عن خطط مصرية لانقلاب تدارستها مع عبد الله خليل البِيْه.
وربما استقى الضباط وحي الانقلاب من سياسية بروش البكاء. وهي سياسة للشكوى والطنطنة وتَمَنِّي الخلاص. وهذه البروش ساحة لسياسة يسودها شبقٌ إلى العنف. فأنت تسمع من يقول: "والله لو حكمت البلد دي ساعة واحدة ما أخلي فيها سياسي حايم". وغالباً ما انتهى التفريج النفسي فيها بقولهم: "الله يولي من يصلح غايتو"؛ ولم يكن ثمة حاجز بين الضباط وعامة الناس يحول بينهم وبين هذا الضجر بكساد الديمقراطية والشوق للعدل. وأطلَّت بيوت البكيات برأسها حتى في سياق أقوال عسكر 17 نوفمبر. ففي تقرير لجنة التحقيق القصير نسبياً قال اللواء أحمد عبد الوهاب "إنه كان هناك من يسألونه في مثل هذه اللقاءات، أين جيش البلاد من هذه الفوضى الضاربة في البلد؟" وقال اللواء حسن بشير إن النداء للانقلاب ترعرع في "تذمر الشوارع وبيوت البكيات". وكان الناس يريدون لبلدهم طائفة من الإنجازات تلك التي سمعوا أن الانقلابات في بلاد أخرى قد عادت بها للشعب. وقد رد عصام الدين ميرغني هذه التوقعات من الجيش إلى "بريق الانقلابات الأفريقية والعربية". فقد قال حسين على كرار إنه جاء من بعثة من مصر ووجد مناخاً للانقلاب يريد به الناس تدخُّل الجيش لينعموا منه بما نعم به شعب مصر في عهد حكم الجيش. وهذا هو العميد كرار مشغول بالانقلاب للمرة الثانية.
ربما كُنَّا قد بسَّطنا مسألة انقلاب 17 نوفمبر كثيراً بنظرية التسليم والتسلم. وبدا السياسيون الملكيون بها أنهم هم من همس بالانقلاب لجهاديين محترفين لا شاغل لهم بالسياسة. ومن أفدح ما ترتب على هذا التبسيط التاريخي أن راجت فكرة أن الانقلاب هو ثمرة مريرة لإفسادنا الديمقراطية. وعليه، فالديكتاتورية العسكرية، هي الحكومة التي استحققناها بجدارة كما في تحليل الدكتور منصور خالد لانقلاب 17 نوفمبر كما سنرى.
ibrahima@missouri.edu