عمال المحاجر.. حياة بطعم المُر
تاريخ النشر: 25th, September 2024 GMT
200 ألف عامل يلاحقهم خطر الموت.. والتأمينات الاجتماعية والصحية غائبة عمال محاجر: نراهن على حياتنا بـ300 جنيه.. ومفيش حد بيرحمنا «الموس» قطع رجل أحدهم فجلس فى بيته عاجزاً بدون أى تعويض.. وآخر تقطعت أصابعه الأربعة وأيضاً لا تعويض! نقابة العاملين بالمحاجر والمناجم:فئة أولى بالرعاية ويحتاجون من وزارة العمل النظر إليهم بعين الرأفة
أصحاب المحاجر يهددون الجميع: «هتشتغل ولا تروح ونجيب غيرك».
ينحتون الصخر كى يعيشوا، ويصارعون الخطر من أجل توفير لقمة عيش لأسرهم..
طوال ساعات عملهم يتنفسون الغبار بينما أياديهم تكسر الصخور، فيما تهددهم معدات ثقيلة حادة بتمزيق أجسادهم، وتهددهم صخور بتفتيت عظامهم، وتهددهم كابلات كهربائية بصعقهم..
هكذا يعيش عمال المحاجر الذين يعملون فى مهنة لا تعرف الضعيف، ولا تحنو على مريض، ولا توفر رعاية اجتماعية أو صحية لمن سقط مصاباً أثناء عمله..
من يراهم وهم يعملون لا بد أن يتعاطف معهم، ويعجب بقدرتهم على العمل وبحرصهم على البحث عن «اللقمة الحلال» حتى لو كانت ممزوجة بالشقاء والخطر.
وفى صحراء المنيا مناطق حجرية يكسوها البياض الساطع، الذى يشبه جبال الجليد فى القطب الشمالى، وفى شرق مدينة المنيا، وتحديدًا منطقة المحاجر ترى «عمال المحاجر»، يتحدون الصخور بصدورهم العارية، يشقونها، ويستخرجون الجير الحى الأبيض، الذى يدخل فى صناعة الطوب الأبيض والأسمدة وعلف الحيوانات والسيراميك، وفى استخراج «الكالسيوم».
حسن أبو علي، واحد من عمال المحاجر، حكايته تشبه حكايات آلاف العاملين بهذه المهنة الشاقة، وهو شاب جامعى، حاصل على بكالوريوس تربية رياضية، لم تسعفه قدرات أسرته المالية على أن يكون صاحب «جيم» كما يفعل بعض خريجى كليته، ولم يسعده الحظ بالالتحاق بأية وظيفة فى القطاع العام ولا الخاص، فلم يجد أمامه سوى الصحراء والصخر والعمل بأحد محاجر المنيا من الساعة 4 فجراً حتى الواحدة ظهراً، ومهمته تقطيع «بلوكات» الحجر وأحياناً رفع الطوب بعد جاهزيته.
بصوت يحمل هم الدنيا يقول «حسن» إن العمل بالمحاجر من أصعب المهن ومليء بالمخاطر، حيث المعدات الثقيلة والحادة، والغبار المنتشر فى مكان العمل مما يجعل الرؤية أمرا صعبا، ووسط هذه الأجواء، الغلطة الواحدة قد تكلف العمر كله.
ويضيف: عامل المحجر يتقاضى 300 جنيه فى اليوم الواحد، لكنه يقدم أمامها حياته للخطر، مشدداً على أن كل العاملين لا يخضعون لمنظومة التأمين الصحي، ولا منظومة التأمينات الاجتماعية، والإصابة تهدد حياة كل عامل، وتهدد استقرار كل أسر عمال المحاجر، ورغم أنها المهنة الأشق والأصعب، لكن جميع العمال يريدون «لقمة عيش حلال».
وأكد «أبوعلي» أن العمال مهددون بالخطر فى كل لحظة، وحياتهم على «كف عفريت».. وقال: «الإصابة «اللى متموتش» تصيب بالعجز التام، ولا أحد يسأل فى العامل، مادياً ولا معنوياً، وإذا تعرض أحد العمال لأى إصابة «خطيرة أو حرجة»، فصاحب المحجر لا يُبدى أى اهتمام نحوه لا يعويضه مادياً ولا يدعمه معنوياً وسط غياب الرقابة العمالية من الجهات المسئولة والمختصة، ولهذا لا يهتم أصحاب المحاجر بالعمال فى حالة إصابتهم إلا عند تحريرهم محضراً ضده، يتهمه فيه بالتقصير وعدم التعويض عن الإصابة، وهو المخرج الوحيد أمام العامل لأخذ حقه قانونا، الأمر الذى يجعل جميع عمال المحاجر فى حالة خوف على حياتهم، لكن حرصهم على قوت يومهم و«لقمة العيش» تجبرهم على العمل وسط هذه الظروف من أجل الوفاء بمتطلبات أسرهم.
وعمال المحاجر مقسمون على مهام متعددة، منهم من يعمل على ماكينات التفصيل والقص، وآخرون يعملون على تجهيز الطوب الأبيض ونقله.
وأوضح محمد أبو فتحي، عامل بأحد محاجر المنيا، أن العمل فى المحاجر مقسم على فترتين، الأولى من 4 فجرا وتنتهى 1 ظهرا «فترة صباحية»، والفترة المسائية تبدأ من 3 عصرا وحتى 10 مساء، بينهم نصف ساعة قسط راحة لتناول الغداء، ومن بعدها تتم مواصلة العمل حتى انتهاء اليوم الشاق، وسط آمال العودة بسلام لأسرته.
وقال «أبو فتحي»: «أكثر ما يخيف العمال التعرض للإصابة، من الآلات الحادة التى يعملون بها بالمحجر أو من كابلات الكهرباء المكشوفة، وكل صاحب محجر لا يهمه سوى مصلحته دون النظر لحياة العامل وصحته التى قد يدفعها مقابل 300 جنيه فى اليوم.
وأضاف: «شقيقى كان يرأس بعض العمال فى أحد المحاجر، وتعرض عامل اسمه إيهاب بقطع 4 أصابع أثناء العمل، وعندما توجه العامل المصاب لصاحب المحجر لإنقاذه ورعايته صحياً رفض صاحب المحجر مساعدته، وعلى الفور توجه العامل المصاب لعمل محضر لاتخاذ الإجراءت القانونية وتعويضه، وعندما علم صاحب المحجر بتحرير المحضر قام بنقل العامل إلى مستشفى فى سمالوط، وأجرى عملية جراحية لكنها فشلت وسببت عجزاً للعامل، ما اضطره إلى إجراء عملية جراحية جديدة لتصحيح أخطاء العملية الأولى وهو ما كلفه 5 آلاف جنيه، رفض صاحب المصنع تعويضه عنها حتى اليوم».
وروى «أبو فتحى» حكاية عامل آخر تعرض لقطع رجله من ماكينة «الموس»، وتم تركيب قدم صناعية له، ولم يعد قادرا على العمل ولم يتم تعويضه عن إصابته، وقال: «محدش بيسأل فيه حتى اليوم»، مشيرا إلى أن أقصى ما يعمله صاحب المحجر للعمال فى حالة إصابة أحدهم هو الإسعافات الأولية «مرهم وشاش غيار»، دون السؤال عليه مرة أخرى.
وأشار إلى أن إنتاج المحجر يتراوح ما بين 80 ألفاً إلى 120 ألف طوبة يومياً، ينتجها 17 عاملاً تقريباً، ويتراوح سعر الطوبة فى متوسط جنيه واحد أو كثر، على حسب الحجم، أى أن دخل أى محجر يومياً قد لا يقل عن 80 ألف جنيه.
ولفت إلى أن كابلات الكهرباء الخاصة بماكينات المحجر تكون غالبا مكشوفة فتهدد حياة العمال، فى ظل وجود شبورات الغبار الناتج عن بودرة تقطيع «البلوكات»، كما أن أصحاب المحجر يهددون العمال دوماً ويرددون على مسامعهم عبارة: «هتشتغل ولا تروح ونجيب غيرك»، وعندها يقع العامل فى حيرة بين عودته للمنزل بلا طعام لأسرته أو استمراره فى العمل ليضمن القوت لأولاده، وفى الغالب يختار البقاء فى العمل حفاظا على «لقمة عيشه» لمواجهة أعباء الحياة، مؤكدا أن العاملين بالمحاجر من كل الأعمار حتى ما فوق 55 عاماً.
وقال حسن سمارة، رئيس النقابة العامة للعاملين بالمحاجر والمناجم، إن العمالة غير المنتظمة هم أكثر فئة متضررة، حيث لا يوجد لهم تأمينات اجتماعية أو صحية، سواء كان قبل بلوغهم سن المعاش أو بعده.
وأضاف «سمارة»: «القانون 27 لسنة 81 للعاملين فى المحاجر، نظم سن التقاعد المقررة للعاملين بمنشآت المحاجر والمناجم، وحددها بسن 55 عاماً للممارسين للأعمال المباشرة «الصعبة» بالمحاجر والمناجم فى الشركات والمنشآت العامة أو الخاصة، والتى من بينها أعمال تكسير الصخور وأعمال التفجير، وأعمال الإنتاج المباشر بالمناجم المكشوفة والمحاجر، وعمال الخدمات الإنتاجية والصيانة بالمناجم والمحاجر والملاحات.
وأكد أن العمالة غير المنتظمة فى المحاجر هم الأولى بالرعاية، ويحتاجون النظر إليهم بعين الرأفة، خاصة أنهم لا توجد لهم مظلات تأمينية على الحياة، كما أنهم «يوم عمل ويوم من غير» بخلاف العاملين بمحاجر الشركات فقد يكون لهم بدل صحراء، بدل إقامة، بدل وجبة، مع راتب ثابت لهم ومظلة تأمينية ومعاشات.
وأشار إلى أن العمالة فى القاهرة تختلف تماماً عن العمالة فى المناطق النائية، خاصة أن أجر اليوم لعمال محاجر القاهرة ومنشآتها قد يكون أكبر قيمة، نظرا لارتفاع حجم الإنتاج ودخل المنشآت، لافتا إلى أن عمال محاجر الطوب الأبيض هم الفئة الأصعب، والأكثر تعرضا للخطورة ويحتاجون لمظلمة تأمين اجتماعية وصحية.
وأكد أن العاملين المسجلين بعضوية النقابة العامة للعاملين بالمحاجر والمناجم، عددهم 12.5 ألف عضو، بينما هناك ما يتراوح بين 150 و200 ألف عامل ضمن العمالة غير منتظمة، حياتهم على كف الرحمن، وقد لا يجدون درجة الاهتمام والرعاية التى يتلقاها عمال الشركات والمنشآت، الأمر الذى يحتاج لنظر المسئولين إليهم، ولا شك أن وزارة العمل بدات تأخذ خطوات جادة لهم لتوفير حماية اجتماعية لأصحاب العاملة غير المنتظمة.
وفى وقت سابق، أوصت لجنة الصناعة بمجلس النواب، برئاسة النائب محمد مصطفى السلاب، بمخاطبة وزارتى العمل، وقطاع الأعمال العام، بالرد على استفسار الهيئة القومية للتأمين الإجتماعى بشأن ما يتعلق بتعديل سن المعاش من 55 إلى 60 سنة، جاء ذلك خلال اجتماع اللجنة، أثناء مناقشة طلب الإحاطة المقدم من النائب محمد جبريل، بشأن تضرر آلاف العاملين بقطاع المناجم والمحاجر من تحديد سن المعاش الخاص بهم.
وأوضح «جبريل»، أن هناك تضررًا واقعًا على عدد كبير من العاملين بالمحاجر بسبب خروجهم على المعاش عند سن 55، رغم أن السن المعتادة للتقاعد 60 سنة، نتيجة إصابتهم بمرض التحجر الرئوى أو الإصابة السمعية، وقال:«مع دخول المعدات والآلات الحديثة لم تعد هناك أى إصابات تستدعى تقاعدهم عند سن الخامس والخمسين»، موضحًا أن هناك مواقع كثيرة للعمل بالمحاجر ولم يتأثر العاملون بها صحيًا بالعمل حتى يتم خروجهم للمعاش، مطالبًا بتعديل القانون والنص على الخروج للمعاش فى سن الـ60.
من جهته، أكد رئيس هيئة الثروة المعدنية، أن القانون ملزم بالخروج للمعاش بعد سن الخمسين فى الأعمال الصعبة، وتدخل النائب محمد مصطفى السلاب، متسائلًا: «هل يتم إنهاء خدمة العامل أم يتم نقله إلى وظيفة إدارية أخرى؟».
وأوضح ممثل الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي، أن قرار مجلس الوزراء، نص على أن الأعمال الصعبة والخطرة سن التقاعد فيها عند عاماً 55، قائلًا: «ليس لدينا أى مشكلة حتى لو هناك مدة 15 سنة»، واشترط ممثل التأمينات، موافقة وزارة العمل والجهات المعنية، قائلًا: «خاطبنا وزارة العمل أكثر من مرة، وآخرها فى أغسطس من العام الماضي، ولم يتم الرد».
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الصحية غائبة تعويض وزارة العمل وزارة العمل إلى أن
إقرأ أيضاً:
ناصر عبدالرحمن يكتب: الشخصية المصرية «14».. النرجسية والازدواجية
ألوان تغرق فيها الشخصية المصرية، تتجاذب أطراف كل صفة داخل الأخرى، فى أمواج متدافعة أحياناً وملاحقة أحياناً، ومختلطة فى معظم الأحيان، كثير من التعقيد والامتزاج بين الصفتين، جمع وفرق وقُرب وبُعد ومسافات، على حسب أوقات النجاح والانتصار تجد الشخصية تترنح فى خيلاء وتعالى نرجسية.
وفى أوقات الضعف والحاجة تتوحد على نفسها فى رفض صريح وكتم للأوجاع بسخرية عكسية، وفى حالات التباين والطبقية تظهر الازدواجية كما تتداخل الصفات وتصنع امتزاجاً مرعباً، فى أوقات الثبات والحيرة والتقيد والغيبة، يظهر فى أوقات الغيبوبة الاجتماعية مزيج جامع بين النرجسية والازدواجية، من الفرد إلى الأسرة إلى الحى إلى القرية إلى المدينة، يظهر مزيج بين الصفتين، فى الشاب والفتاة والمرأة والرجل والعائل والمسئول والوحيد والمتعلم والجاهل والغنى والفقير، يظهر مزيج بين النرجسية والازدواجية فى المهنى والمزارع والتاجر والسمسار.
صاحب كشك أم صاحب شركة أم صاحب كانتين، الكل فى بحر متلاطم بين أمواج الصفتين، تجد النرجسية واضحة فى الحضارة المصرية القديمة، فى التماثيل الشاهقة للملوك والأمراء والحكام، نرجسية واضحة فى المبالغة والظهور، تجبر العالم على الإعجاب بالنحت والرسم والعمدان.
تلحظ النرجسية فى الأغانى والأناشيد والقصائد، إلى تكرار المدح والإعجاب، تجد المدير يُقرّب الموظف الذى يُطربه، والمرأة تغرم بمن يشيد فى مبالغة بجمالها، ويُقرّب المسئول من يغذى نرجسيته، ويُبعد من لا يُقدّر مكانته. يعتقد المصرى كثيراً أنه يستحق التقدير، وأنه مظلوم وأنه مغبون، ويشتكى بلا كلل ولا ملل ليل نهار مَن يتعامل معه بأقل مما يستحق. تميل الشخصية المصرية إلى التغنى المفرط بإنجازاتها، بتاريخها وجغرافيتها ومواهبها وريادتها، فى إغفال كبير عن العمل والتركيز لدرجة التعالى عن تقدم الآخر، بل والنيل من حجة الآخر، دون مقاومة لترميم ضعفها وإظهار سيطرتها، كما أنها تكره النقد.
تميل الشخصية المصرية النرجسية إلى التعالى على النقد، بل وتكذيب من ينقدها أو يشير إلى عيب فيها، كما أنها تبالغ فى فرديتها والتغنى باختلافها، والتعقيد فى النرجسية المصرية ينبع من مزج النرجسية بالتواضع، المزج بين النرجسية والتفاخر بالرضا واستيعاب الآخر.
تتجلى النرجسية فى الغيرة الشديدة من الجار، من تحجيم الصفات السلبية من الشخصية إلى المبالغة فى الإيجابية على غير اكتمال وقدرة، كل حقبة زمنية تشتعل بأضواء النرجسية، فى عرض النماذج المصرية، الرموز الشهيرة من الشخصيات المصرية، تقدم وتكتب بنرجسية، بحيث تتجاهل عدم إنقاذ التجار والمقتدرين لمحمد كريم مع إظهار أفعاله لصالحهم، تجاهل التاجر الوحيد الذى تكفل بإحضار جثمان السيد محمد فريد مع إظهار عرض قضيتنا وحقنا فى الحرية، إظهار عبقرية الدكتور طه حسين وإنكار دور زوجته وفرنسيته فى نجاحه.
كما تظهر النرجسية فى الرياضة، ينجح أبطال الاسكواش ونُخفى التجنيس، إظهار عبارات التفاخر بين الأندية الكبيرة، وإخفاء موت أندية عريقة كالبلاستيك والسكة الحديد، النرجسية تحترق بنيران النفسية المتوحدة على نفسها، نُظهر أننا مجتمع أغلبه من الشباب ونغفل انتشار الإدمان بين فئات الشباب فى المدن والدلتا والصعيد، نرجسية تزيد من تفاقم المشكلات وتعميقها، نُظهر ملايين طلاب الجامعة ونغفل انتشار المدارس والجامعات الخاصة، تأجيل الأوجاع نرجسية، تظهر فى العامل المصرى، العامل أصبح نرجسياً وبقوة، مما جعل العامل السورى والعامل التونسى والعامل الباكستانى يتفوق عليه، جعلت النرجسية من العامل المصرى كسولاً، إذا حصل على يومية لا يعمل بعده ويفضل الجلوس على المقهى حتى آخر قرش فى يوميته، النرجسية تجعل العامل الماهر يفتخر بمهارته وينسى أن يدعمها ويجدد فيها، لكى يعى بالتقدم الحاصل فى المهنة.
النرجسية تجعل العامل يقع فى حفرة الكبر، حتى إنه يتقدم نحو صناعات لا يفهم فيها، يسافر إلى بلاد وهو مستعد لأن يعمل فى أى صنعة، النرجسية تجعله يرفض التخصص، تجد الصيدلى يصف لك دواء أى مرض، والمقاول يعمل عمل المهندس، والفلاح يبنى فى أرضه، والمدرس يشرح أى منهج.
كلها تدخل بالفهلوة داخل بوتقة النرجسية.. النرجسية جعلتنا نصف الاحتلال الفرنسى على أنه حملة علمية، والاحتلال التركى على أنه خلافة إسلامية، تصف معاهدة المهادنة على أنها معاهدة سلام، والتدخل الأمريكى فى تفاصيل حياتنا لدرجة أن تأثير الفيلم الأمريكى مصدق لا يكذب وأننا غير مؤهلين للفن، كلها بسبب نرجسية تصنع صوراً وهمية وجداراً كاذباً وتضليلاً للحقائق، تجعل البنت ترفض خطبة الفقير فى انتظار الغنى، والقبول بالعجوز فى نفس السبيل.
النرجسية تجعل الشاب يعرّض نفسه للموت بأن يرمى نفسه فى البحر أملاً فى الهجرة لأوروبا، دون أن يتحقق من إمكانياته أو حتى لغتهم التى لا يتقنها، نرجسية تجعلنا أرض نعام. أما الازدواجية فقد أشار إليها كُتاب الشعر وكتاب الروايات والأدب، أشهرهم ثلاثية نجيب محفوظ، فشخصية سى السيد ترجمة وتجلٍّ صريح للازدواجية فى الشخصية المصرية التى تتحدث عن رموزها ونجومها ثم تهدمها وتنال منها.
سعد زغلول زعيم سياسى قاد ثورة 1919 الثورة الشعبية التى خرج فيها أطياف المصريين وطبقاتهم بدياناتهم وثقافاتهم هو نفسه الذى تعامل معه المصرى على أنه «قمارتى»، سيد درويش مجدد الموسيقى تعاملوا معه على أنه عامل فقير يغنى باليومية للعمال.
الازدواجية تجعل الإعلامى فى التوك شو يتحدث بحمية على أمر ثم يتحدث بحمية أيضاً على عكس الأمر، نتحدث عن الفقر والمرض والجهل ونرفض أن نوصف بأمراض الفقر والمرض والجهل، نقدس النهر ولا نحميه ولا ننظفه ولا نقدّره، نتغنى بالنيل ونرمى فيه مخلفات المصانع والنوادى النهرية، نشيد بالقطن المصرى ولا نزرعه، نقدّر الفلاح المصرى ولا ندعمه ولا نقوّمه، فى السبعينات تظهر مزارع الدواجن البيضاء، فندين تربية الدواجن فى العشش والحارات، الازدواجية تجعلنا نُعجب فى صمت ونعلن النفور فى العلن، الازدواجية تتجلى فى قصة سيدنا يوسف الذى ظهرت براءته من التهمة وفى نفس الوقت سُجن وتمت إدانته، يزور المصرى مقامات الأولياء ويقيم الموالد والاحتفالات ثم يحارب زيارتهم وينكر فضلهم عليه، نشيد بالناجح المجتهد وبالعالم المجدد ثم نرفض بزوغه ونتهم علمه، نعشق الجمال ونخافه ونتهمه بالفتنة، نعجب بالفنان المصرى ونترك نجومه تلمع فى سماء غيرنا، نتحدث بإعجاب عن الأفلام ونتركها سدى فى أيدى من يشتريها، نكرم النجم ونسبه.
الازدواجية تجعلنا نتغنى بأمنا مصر وفى نفس الوقت نلعنها ونطعن فيها، الخطورة أن الجمع بين النرجسية والازدواجية يخلق صفة أكثر تعقيداً منهما تسمى بالتوحد اللهم فاشهد.