ثورة ديسمبر السودانية.. الثورة طاقة والطاقة موجة

د. عبد الله عابدين

يحلو لي رؤية ثورة ديسمبر من منظور موجي، أسوة بالطبيعة: ثورة واحدة تعبر عن نفسها في موجات متتالية تتخللها “استراحات للمحارب”.  فالثورة طاقة، و الطاقة “مفطورة” على سلوك المنحى الموجي.  أكثر من ذلك، فان هذا الحراك الخلاق، الثورة، قد يتشكل في صور مختلفة، و يرتدي أزياء ابداعية، من الشعر، والتشكيل، والغناء الثوري، و الجداريات، و النحت.

  بل ان الثورة قد تخبئ سمتها الثوري في رداء، أو هيئة، يصعب علينا ادراكها ! ..

و الآن الى موجات حراك ثورة ديسمبر متضمنا بعض الأحداث المفتاحية التي تخللت تلك الموجات،  أو نزامنت معها، حتى اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل عام 2023: فالموجة الأولى: بدأت باندلاع الثورة، في ديسمبر 2018، و انتهت بانعقاد الاعتصام في السادس من أبريل 2019.  و قد تطرقنا الى بعض التفاصيل التي ميزت هذه المرحلة، كما زودنا هذه التفاصيل ببعض الرؤى التي تعين على فهم طبيعتها ك “مبتدأ” ل “خبر” الثورة، في مقالنا السابق بعنوان: اندلاع ثورة ديسمبر.. جدلية الشرارة، و ظهر البعير المحمل.

أما الموجة الثانية فيمثلها الاعتصام نفسه، و الذي انعقد في السادس من أبريل 2019 حتي فضه في الثالث من يونيو 2019، الموافق للتاسع و العشرين من رمضان.

و من عجائب هذه الثورة وصولها المشهود الى مرحلة “جلوسية”، حيث ان المد الثوري، بعد كان جموعاً ثورية عديدة “مترحلة”، اتفق له أن ينعقد في مكان واحد، عرف في أدبيا الثورة بساحة، أو ميدان الاعتصام، و من ثم التئأم شمل جموع الثوار.

و كان المكان الذي تشرف بذلك الانعقاد، هو الشوارع، و الساحات، و الميادين، المحيطة بالقيادة العامة لقوات الشعب المسلحة.   بميلاد هذا الحدث الثوري العظيم، دخلت ثورة ديسمبر مرحلة جديدة، حيث أمكنها التعبير عن روحها الثوري بأسلوب منظم، يعكس صورة للسودان الذي تحلم به جموع الثوار,  و هذا الأمر المدهش، و الكبير في حجمه، و العالي في قيمته الانسانية، قد عبر تعبيراً بديعاً عن مكنون العقل الجمعي لحشود الثوار، هذا العقل، الذي ان هو الا قبس من العقل الجمعي للشعب السوداني ككل.

بيد أن هذه الظاهرة المدهشة، عالية القيمة، و الزخم الثوريين، لم تكن كذلك بالنسبة لقبيل آخر، اذ أن قوى الثورة المضادة، التي يقف وراءها فلول النظام الاسلاموي، و من تجمعهم بهم مصالحهم الانتهازية، أصيبت برعب شديد، مما ترى من مشاهد النظام المنبثق تلقائياً في ساحة الاعتصام.  و دفعها هذا الخوف، هذه “الثورو-فوبيا” الى “كيد عظيم” من تدبير المؤامرة، وراء المؤامرة، الى أن بلغ بهم الأمر الى التدبير لفض الاعتصام ذاته!!..

و قد شهد العالم كله أبشع مذبحة في التاريخ الحديث قاطبة،  لجموع ثوار سلميين، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.  و من غرائب الأمور أن قوى الظلام هذه اعتبرت فض الاعتصام، انقلابها العسكري الأول، ضد حكومة الثوار في ميدان الاعتصام، و ضد القوى المدنية، التي كانت تمثل الثوار في التفاوض مع المجلس العسكري.  و كأني بقوى الثورة المضادة هذه، قد أعطوا الضوء الأخضر للمجلس العسكري، بأن يوقف التفاوض مع القوى المدنية، لأن ذلك هو ما حدث بالضبط.

هنا تأتي الموجة الثالثة للثورة، و هي التي تبدأ من فض الاعتصام في الثالث من يونيو 2019 (التاسع و العشرون من رمضان) حتى الثلاثين من يونيو 2019،  حيث خاب ظن الانقلابيين، اذ أن انقلابهم هذا، لم يدم لأكثر من سبعة و عشرين يوماً، من الثالث من يونيو 2019، يوم فض الاعتصام، حتى الثلاثين من نفس الشهر.  في هذا اليوم المجيد فاضت الشوارع بشلالات من نهر الثورة الجامح، فأسقط في يد المجلس العسكري.  اذ ذاك لم يجد العسكر أمامهم خياراً غير الخنوع لارادة الثورة،  فهرع ممثلوه مطالبين بالرجوع الى طاولة المفاوضات في نفس اليوم!! ..

و هكذا “سقطت” دولة الطغاة، بسقوط البشير، فلنسمه السقوط الأول، في صبيحة الحادي عشر من أبريل 2019، و لم يلبث أن وقع السقوط الثاني، سقوط عوض ابن عوف تو اعلانه نفسه بديلاً للبشير، في ذات اليوم الذي سقط فيه الأخير.  هذا المشهد يجيز لنا وصف شهر ديسمبر من العام  2018: بشهر اندلاع الثورة، و هو، و الشهور التالية، “بموسم الزراعة” بالنسبة للثورة.  أما شهر أبريل من العام 2019، فيستحق بحق و حقيقة، نعت شهر “جني الثمار”: شهر حصاد ثورة ديسمبر.

 

و تتمثل قمة هذا الأمر في ظاهرة جديدة كل الجدة، تختص بها ثورة ديسمبر المجيدة، و هي مصادرة يوم عيد الفلول الكبير: و هو الثلاثين من يونيو، عيد انقلابهم المشئوم.  و قد تحول هذا اليوم، الى يوم من أيام الثوار، التي يحتفل الثوار بذكراها كل عام: أليس هذا، في حد ذاته، قبس من سر أرض السودان، أرض الأصل، و المنشأ ؟! ..

أعقب هذه الموجة العارمة من موجات الحراك الثوري انعقاد الاتفاق بين المكونين المدني، و العسكري، مؤسسا على الوثيقة الدستورية في الرابع من أغسطس 2019، و تشكلت سلطة تنفيذية انتقالية بقيادة الدكتور عبدالله حمدوك في الخامس من سبتمبر  2019 ، كما تم  تشكيل مجلس سيادي يضم عناصر من المدنيين، و العسكريين.

في هذه الفترة، ما بين أواخر عام  2019 حتى أنقلاب البرهان على السلطة الأنتقالية في الخامش والعشرين من أكتوبر من عام 2021، تداعى مسار، أو منحنى موجات الحراك الثوري الى كمون طويل، حيث رست سفن الثورة في شط الحكومة الانتقالية، و هي تترقب الأحداث عن كثب، و تحشد قواها للمرحلة التالية.  و هذا المنحى في السلوك الثوري، خاصة في سياق الثورات طويلة المدى، يمثل شيئاً مما يصيب الموجات في الطبيعة من طي أجنحتها، و كفكفة أطرافها، حتى يتسنى لها التزود بالطاقة اللازمة للقفز الى قمة جديدة ..

و بالفعل انطلقت الموجة الرابعة للثورة، من قاعها السحيق هذا أثناء الفترة الانتقالية.  و كان ذلك في الحادي و العشرين من أكتوبرعام 2021 (ذكرى تورة أكتوبر المجيدة)، شاملا رد فعل جماهير الثورة على انقلاب البرهان في الخامس و العشرين من أكتوبرعام 2021.  و بينا الشوارع تغص بجموع الثوار ماهرة بدمها الغالي شعاراتها من العدالة، و الحرية و ، السلام، اذا بالبرهان يعلن حالة الطوارئ، و يحل مجلس الوزراء الشرعي، و يزج بأعضائه المعتقلات، و يعلق العمل بالوثيقة الدستورية.  و على الرغم من ذلك، بل بسبب منه، استمرت هذه الموجة الثورية العاتية ضاربت عرض الحائط بحالة الطوارئ المعلنة تواَ، و بحظر التجوال المصاحب لها!!..

و تداعت الأمور في أواخر حلقات تآمر الثورة المضادة، الى اندلاع الحرب بين الجيش، أو بالأحرى قطاعه الاسلاموي المأدلج، و قوات الدعم السريع في صبيحة الخامس عشر من أبريل عام 2023 .  هذه الحرب التي ان هي الا مسرح للعبث التراجيدي، و الكوميديا السوداء، نسجت خيوطها قوى ظلامية لم يكفها عكوفها على صناعة وهم، طال بلادنا ثلاثون عاما، و ازدادت خمساً.

و هذا القبيل الذي تنادى بالحرب بلسان فصيح، لا تخطؤه بصيرة عاقل، بل ان مشعلو نار الحرب هؤلاء، كانوا يخططون لها بدم بارد، منذ أن تمكنت الثورة من الاطاحة برأس النظام في صبيحة الحادي عشر من أبريل عام 2019.  أقول بأن لهذا القبيل خططاً، كانت تتجلى في كل مرحلة بشكل جديد، بحيث أنه كان يحاول منذ البداية الالتفاف حول الثورة، و وأدها، ليس فقط في واقعها الماثل للعيان، بل حتى طمس معالمها، و محوها من ذاكرة الشعب السوداني: أليس هذا هو الرعب الأسود من الثورة؟!  بلى، هو كذلك، من دون أدنى ريب، فمنذ أقدم العصور عرف الانسان أن الوحوش و الضوراري في الغاب تخشى الأضواء الكاشفة!! .. فأنى لهذا القبيل من هواة الظلام، أن يصمد أمام أضواء ثورة ديسمبر الساطعة، و أمام نور شعاراتها: حرية، سلام، و عدالة، الناصع الابانة، و البيان؟! ..

الوسومالسودان ثورة ديسمبر د. عبد الله عابدين

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: السودان ثورة ديسمبر عشر من أبریل ثورة دیسمبر

إقرأ أيضاً:

وزير السياحة: الأحساء سجلت نموًا بنحو 500% في أعداد السياح المحليين والوافدين في عام 2024 مقارنةً بعام 2019

المناطق_واس

كشف معالي وزير السياحة الأستاذ أحمد بن عقيل الخطيب, عن النمو القياسي الذي شهدته السياحة في الأحساء، حيث تجاوز إجمالي عدد السياح المحليين والوافدين في المحافظة 3.2 ملايين سائح في عام 2024م، بنسبة نمو تقدَّر بنحو 500% مقارنةً بعام 2019م، فيما تجاوز إجمالي إنفاق السياح في العام الماضي 3.3 مليارات ريال، بنسبة نمو تقدر بحوالي 400% مقارنةً بعام 2019م.

 

أخبار قد تهمك محافظ الأحساء يكرّم المغلوث بمناسبة حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام 2025 18 فبراير 2025 - 7:05 مساءً وزير السياحة يشارك في الاجتماع التاسع للوزراء المسؤولين عن السياحة بدول مجلس التعاون 17 فبراير 2025 - 10:41 مساءً

وأشار خلال مشاركته بكلمة في منتدى الأحساء 2025 بدورته السابعة, إلى أن المنتدى يعدّ من أبرز الفعاليات الاقتصادية التي يترقبها المستثمرون في مختلف القطاعات الاقتصادية بالمملكة، مما يعكس الأهمية الاقتصادية والتاريخية لمحافظة الأحساء، كما استعرض الإنجازات المتعددة التي حققها القطاع السياحي في المملكة خلال عام 2024م الذي شكّل عامًا فارقًا في رحلة قطاع السياحة المزدهر في المملكة.

 

وأشاد معالي وزير السياحة بالنقلة النوعية التي شهدها قطاع الضيافة في الأحساء، حيث حقق عدد المرافق السياحية المرخصة في المحافظة نموًا بنسبة 52% مقارنة بعام 2023م، كما بلغ عدد الغرف المرخّصة في المحافظة 2700 غرفة بنهاية العام الماضي، مشيرًا إلى الجهود الكبيرة التي تبذلها منظومة السياحة، مشيرًا إلى أن صندوق التنمية السياحي قام بتمويل عددٍ من المشاريع النوعية في المحافظة، أبرزها فندق “هيلتون الأحساء” من فئة خمس نجوم، و”راديسون بلو” و”هيلتون جاردن إن” وغيرها من المشاريع السياحية.

 

وأوضح أن وزارة السياحة نفّذت عددًا من المبادرات وبرامج الإعفاءات والحوافز المتنوعة؛ التي تهدف إلى تحسين البيئة الاستثمارية في الأحساء، وقد استفادت منها مشاريع عدة وصلت قيمتها الإجمالية إلى ثلاثة مليارات ريال في المحافظة.

 

وأفاد بأن الوزارة تعمل على تأهيل الكوادر الوطنية، من خلال توفير أكبر عدد ممكن من الفرص التدريبية لأبناء وبنات الأحساء، وقدمت كذلك أكثر من 5300 فرصة تدريبية للكوادر الوطنية في المحافظة منذ عام 2023 حتى اليوم، متجاوزةً بذلك نسبة 50% من مستهدف الفرص التدريبية التي خصصتها الوزارة للأحساء، والتي تم الإعلان عنها في النسخة السابقة من المنتدى.

مقالات مشابهة

  • أحمد حسون مفتي الأسد الذي لقبه الثوار بـمفتي البراميل
  • وزير السياحة: الأحساء سجلت نموًا بنحو 500% في أعداد السياح المحليين والوافدين في عام 2024 مقارنةً بعام 2019
  • الحريزي: أبناء المهرة يرفضون مخططات السيطرة العسكرية وفرض الوصاية
  • الماجستير بامتياز مع مرتبة الشرف للباحث مهدي محمد المشاط من كلية التجارة بجامعة صنعاء
  • الماجستير للباحث مهدي محمد المشاط من كلية التجارة بجامعة صنعاء
  • الشيخ الحريزي: لن نسمح بتحويل المهرة إلى مستعمرة سعوديّة
  • مصر تدعو للمشاركة بمعرضها للصناعات الدفاعية في ديسمبر
  • استشاري طاقة: «إيجبس 2025» فرصة استراتيجية لتسليط الضوء على تطورات القطاع بمصر
  • المندوبية السامية للتخطيط تقول إن المستوى المعيشي للمغاربة "تحسن بين 2014 و2022"
  • ناكر: نقول لكل من سرق وظلم الليبيين.. الثوار قادمون