لجريدة عمان:
2025-02-06@04:21:55 GMT

بين المتنبي وكارل روجرز !

تاريخ النشر: 25th, September 2024 GMT

يهرب الإنسان من مآسي الحياة مع قلة حيلته إلى مهارب وملاجئ شتَّى، ويتخيّر ملجأه كما يتخيّر صديقًا، فما الغرض من الملجأ إن لم يمنحنا الطمأنينة، أو المتعة حتى !. أستلذ بسماع الشعر ويطربني، لا لمصاحبة النغم، بل لما فيه من معانٍ تفوق قدرة الفنان بريشته، والساحر بسحره أن يمثّلاها كما يفعل الشاعر؛ ومن ذلك بيت المتنبي: « كَفى بِجِسمي نُحولًا أَنَّني رَجُلٌ * لَولا مُخاطَبَتي إِيّاكَ لَم تَرَني»، فكيف سيرسم الفنان رجلًا نحيلًا، وفي الوقت ذاته لا يمكن رؤيته بحال؟ وكذلك بالنسبة إلى الساحر الذي أسقط فـي يده وهو يحاول تجسيد البيت.

وإذا كانت الحياة منحت قبلتها لآينشتاين الذي جاء بعدما تضافرت جهود العلماء قبله، وبنى على أبحاثهم، فقد كان حبة الكرز فوق الكعكة بتعبير الغرب، أو تبزيرة العيد للحم الشواء عندنا، فقد كان المتنبي العبقريَ الذي لبس بُردة الشعر، وأحاط به إحاطة السوار بالمعصم، فقلَّما تبحث عن معنى ما -خيرًا كان أم شرًا- ولا تجد نظيرًا له فـي شعر المتنبي.

في صباح تعيس وأنا أشعر بقلة الحيلة بعد قراءة الأخبار الموجعة للإبادة التي يتعرض لها أهلنا الغزاويون، والعدوان الصهيوني على لبنان؛ قلتُ دعني أستمع إلى شيء من الشعر؛ كي أستطيع إنجاز مهامي اليومية وأستطيع التركيز ولو قليلا على ما فـي يدي من أمور عالقة. تذكرتُ صديقًا عزيزًا لم أستمع إليه منذ مدة طويلة، صديًقا طالما رافقني فـي السيارة والبيت والمدرسة والطفولة. بحثت فـي محرك البحث عن المتنبي، واخترت أول قصيدة ظهرت لي بصوت فالح القضاع؛ فحلّت النشوة والدهشة محلَّ الانكسار واليأس. بدأت يومي منتشيًا بقول المتنبي الذي أجابني عن سؤال النفس، «لماذا يموت كل هؤلاء البشر ويقاومون بضراوة ولم ييأسوا!» فجاء الجواب: «إذا اعتادَ الفتى خوضَ المنايا* فأهونُ ما يمرُّ به الوحولُ».

أحاول التعمق فـي علم النفس واستكشاف معالمه بطريقة جادة وحقيقية هذه المرة، فلا أريد أن أقرأ العقد الفريد فـي الوقت ذاته الذي أقرأ فيه ديوان سيلفيا بلاث، أو أن أقرأ نقد العقل المحض فـي وقت قراءتي لعينية ابن سينا بغض النظر عن صحة نسبتها إليه-، ولكن الحياة لا تتيح لك الخيارات المتعددة دائمًا، بل تلقي إليك بما تخبئ ولك الخيار فـي الأخذ أو الإعراض. متصفحًا نشأة علم النفس وتطوره، وقعت عيني على فصل عن عالم النفس الأمريكي كارل روجرز الذي طور ما نستطيع أن نطلق عليه «علم النفس الإيجابي»، وهو ببساطة -بلغة غير علمية- يركز على تحقيق المرء لذاته وتطويرها من مبدأ أن النفس البشرية تتوق إلى الكمال. •أقرأ أكثر عن مدرسة روجرز وماسلو، فأسمع صهيل خيل المتنبي آتية من أقاصي التاريخ لتخبرني عن فارسها الذي بثَّ فـي شعره نماذج مما يمكن اعتباره «العلاج المتمركز حول الشخص أو العميل» أو (Person-Centered Therapy) كما سماها روجرز.

أثّرت مدرسة روجرز فـي معاصريه، ومنهم المؤلف ورائد الأعمال الأمريكي دبليو. كليمنت ستون الذي تنسب إليه مقولة شهيرة تستعمل إلى اليوم «صوّب -رميتك- إلى القمر، فإن لم تصب القمر فستصيب النجوم»، فإذا بي أجد بيت المتنبي «إذا غامَرتَ فـي شرفٍ مرومِ * فلا تقنَعْ بما دونَ النجومِ». وعبارة المتنبي أبلغ كلاما ومعنى، فالنجوم أعلى مرتبة وأبعد شأوا. كما أن هذا البيت يتطابق مع مفهوم «تحقيق الذات» فـي نظرية روجرز، وهو سعيه لأن يحقق أقصى ما يريد مستعملًا إمكانياته الكاملة تمامًا. ومن المعلوم أن أحمد بن الحسين بحر زاخر، وإذا ما أردنا أن نتخيّر من ديوانه أبياتًا تتسق مع نظرية روجرز فلن يسعفنا المقام، ولكننا نتخير منها ما يتطابق تطابقًا عجيبا مع نظرية روجرز، كالبيت الذي يقول فيه

«على قدرِ أهلِ العزم تأتي العزائمُ * وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ»، فهو يتفق مع أحد المفاهيم الأساسية فـي نظرية روجرز، وهو الفرق بين الذات الحقيقية والذات المثالية. لذلك نجده يعبّر فـي هذا البيت عن الفجوة بين ما هو عليه حقًا وما يريد أن يكونه.

وفي العموم، نجد أن المتنبي فـي ديوانه -برواياته المختلفة- يحيط بنظرية روجرز تمام الإحاطة، وهي النظرية المرتكزة على ستة أسس فـي مجالها الأوسع؛ تحقيق الذات، الذات الحقيقية والذات المثالية، التقدير الإيجابي غير المشروط، التطابق أو الأصالة، التعاطف، البيئة المواتية للنمو، أؤمن أن علم النفس يتيح لنا قراءة شخصيات الماضي قراءة جيدة، كما أنه يرينا نسخة غير النسخة المتعارف عليها، فقراءة المتنبي على سبيل المثال من خلال نتاجه الأدبي، يقرّبنا من نفسية المتنبي ورؤيته للأمور، وهو ما يجعلنا نفهمه فهمًا أعمق ونسبر أغوار روحه جنبًا إلى جنب مع معرفة مرامي أبياته وقصائده، متجاوزين اللغة التي تحتمل الأوجه، إلى الصورة الأشمل للشاعر الإنسان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: علم النفس

إقرأ أيضاً:

برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث يعلن برنامج الابتعاث المبتدئ بالتوظيف

فاطمة المالكي

أعلن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث عن فتح باب التقديم على برنامج الابتعاث المبتدئ بالتوظيف المقدم من شركة نادي الاتفاق الاستثمارية، بالتعاون مع وزارة الرياضة، ضمن مسار واعد للابتعاث الخارجي.

ويشمل البرنامج المقدم من قبل شركة نادي الاتفاق الاستثمارية التخصص في ماجستير علم النفس الرياضي، بينما سيكون في دولة إسبانيا.

ويشترط أن يكون المتقدم سعودي الجنسية، حسن السيرة والسلوك، حاصلًا على شهادة جامعية في علم النفس أو علوم الرياضة، ولديه خبرة لا تقل عن 6 شهور في مجال علم النفس، بالإضافة إلى اجتياز اختبار اللغة الإنجليزية بدرجة 6.5 في IELTS.

كما نوه بأن التقديم مُتاح الآن بدأ اليوم الثلاثاء بتاريخ 1446/08/05هـ الموافق 2025/02/04م وينتهي التقديم يوم الأربعاء بتاريخ 1446/08/20هـ الموافق 2025/02/19م، عبر الرابط التالي: هنا

مقالات مشابهة

  • دعاء تحصين النفس والأولاد.. ردده في جوف الليل
  • “مكمل طبيعي” يحسّن الذاكرة ويعزز التركيز
  • أفراد يحتجون.. إطلالة على علم النفس الاجتماعي للاحتجاج
  • برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث يعلن برنامج الابتعاث المبتدئ بالتوظيف
  • وزارة الرياضة تختتم برنامج المُعِدّ النفسي لتعزيز أداء الأبطال
  • متى يكون ‫التحدث مع النفس مرضيّا؟
  • “الدموية في نظام بشار الأسد: قراءة في ضوء علم النفس السياسي”
  • استاذ شريعة يوضح فضل العبادة في شهر شعبان وتأثيرها على النفس
  • الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس وسط العنف الطائفي في جنوب السودان
  • باللهجة العراقية.. سفير اليابان: متحمس لزيارة المتنبي والقشلة في بغداد (فيديو)