لجريدة عمان:
2024-12-25@06:29:24 GMT

بين المتنبي وكارل روجرز !

تاريخ النشر: 25th, September 2024 GMT

يهرب الإنسان من مآسي الحياة مع قلة حيلته إلى مهارب وملاجئ شتَّى، ويتخيّر ملجأه كما يتخيّر صديقًا، فما الغرض من الملجأ إن لم يمنحنا الطمأنينة، أو المتعة حتى !. أستلذ بسماع الشعر ويطربني، لا لمصاحبة النغم، بل لما فيه من معانٍ تفوق قدرة الفنان بريشته، والساحر بسحره أن يمثّلاها كما يفعل الشاعر؛ ومن ذلك بيت المتنبي: « كَفى بِجِسمي نُحولًا أَنَّني رَجُلٌ * لَولا مُخاطَبَتي إِيّاكَ لَم تَرَني»، فكيف سيرسم الفنان رجلًا نحيلًا، وفي الوقت ذاته لا يمكن رؤيته بحال؟ وكذلك بالنسبة إلى الساحر الذي أسقط فـي يده وهو يحاول تجسيد البيت.

وإذا كانت الحياة منحت قبلتها لآينشتاين الذي جاء بعدما تضافرت جهود العلماء قبله، وبنى على أبحاثهم، فقد كان حبة الكرز فوق الكعكة بتعبير الغرب، أو تبزيرة العيد للحم الشواء عندنا، فقد كان المتنبي العبقريَ الذي لبس بُردة الشعر، وأحاط به إحاطة السوار بالمعصم، فقلَّما تبحث عن معنى ما -خيرًا كان أم شرًا- ولا تجد نظيرًا له فـي شعر المتنبي.

في صباح تعيس وأنا أشعر بقلة الحيلة بعد قراءة الأخبار الموجعة للإبادة التي يتعرض لها أهلنا الغزاويون، والعدوان الصهيوني على لبنان؛ قلتُ دعني أستمع إلى شيء من الشعر؛ كي أستطيع إنجاز مهامي اليومية وأستطيع التركيز ولو قليلا على ما فـي يدي من أمور عالقة. تذكرتُ صديقًا عزيزًا لم أستمع إليه منذ مدة طويلة، صديًقا طالما رافقني فـي السيارة والبيت والمدرسة والطفولة. بحثت فـي محرك البحث عن المتنبي، واخترت أول قصيدة ظهرت لي بصوت فالح القضاع؛ فحلّت النشوة والدهشة محلَّ الانكسار واليأس. بدأت يومي منتشيًا بقول المتنبي الذي أجابني عن سؤال النفس، «لماذا يموت كل هؤلاء البشر ويقاومون بضراوة ولم ييأسوا!» فجاء الجواب: «إذا اعتادَ الفتى خوضَ المنايا* فأهونُ ما يمرُّ به الوحولُ».

أحاول التعمق فـي علم النفس واستكشاف معالمه بطريقة جادة وحقيقية هذه المرة، فلا أريد أن أقرأ العقد الفريد فـي الوقت ذاته الذي أقرأ فيه ديوان سيلفيا بلاث، أو أن أقرأ نقد العقل المحض فـي وقت قراءتي لعينية ابن سينا بغض النظر عن صحة نسبتها إليه-، ولكن الحياة لا تتيح لك الخيارات المتعددة دائمًا، بل تلقي إليك بما تخبئ ولك الخيار فـي الأخذ أو الإعراض. متصفحًا نشأة علم النفس وتطوره، وقعت عيني على فصل عن عالم النفس الأمريكي كارل روجرز الذي طور ما نستطيع أن نطلق عليه «علم النفس الإيجابي»، وهو ببساطة -بلغة غير علمية- يركز على تحقيق المرء لذاته وتطويرها من مبدأ أن النفس البشرية تتوق إلى الكمال. •أقرأ أكثر عن مدرسة روجرز وماسلو، فأسمع صهيل خيل المتنبي آتية من أقاصي التاريخ لتخبرني عن فارسها الذي بثَّ فـي شعره نماذج مما يمكن اعتباره «العلاج المتمركز حول الشخص أو العميل» أو (Person-Centered Therapy) كما سماها روجرز.

أثّرت مدرسة روجرز فـي معاصريه، ومنهم المؤلف ورائد الأعمال الأمريكي دبليو. كليمنت ستون الذي تنسب إليه مقولة شهيرة تستعمل إلى اليوم «صوّب -رميتك- إلى القمر، فإن لم تصب القمر فستصيب النجوم»، فإذا بي أجد بيت المتنبي «إذا غامَرتَ فـي شرفٍ مرومِ * فلا تقنَعْ بما دونَ النجومِ». وعبارة المتنبي أبلغ كلاما ومعنى، فالنجوم أعلى مرتبة وأبعد شأوا. كما أن هذا البيت يتطابق مع مفهوم «تحقيق الذات» فـي نظرية روجرز، وهو سعيه لأن يحقق أقصى ما يريد مستعملًا إمكانياته الكاملة تمامًا. ومن المعلوم أن أحمد بن الحسين بحر زاخر، وإذا ما أردنا أن نتخيّر من ديوانه أبياتًا تتسق مع نظرية روجرز فلن يسعفنا المقام، ولكننا نتخير منها ما يتطابق تطابقًا عجيبا مع نظرية روجرز، كالبيت الذي يقول فيه

«على قدرِ أهلِ العزم تأتي العزائمُ * وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ»، فهو يتفق مع أحد المفاهيم الأساسية فـي نظرية روجرز، وهو الفرق بين الذات الحقيقية والذات المثالية. لذلك نجده يعبّر فـي هذا البيت عن الفجوة بين ما هو عليه حقًا وما يريد أن يكونه.

وفي العموم، نجد أن المتنبي فـي ديوانه -برواياته المختلفة- يحيط بنظرية روجرز تمام الإحاطة، وهي النظرية المرتكزة على ستة أسس فـي مجالها الأوسع؛ تحقيق الذات، الذات الحقيقية والذات المثالية، التقدير الإيجابي غير المشروط، التطابق أو الأصالة، التعاطف، البيئة المواتية للنمو، أؤمن أن علم النفس يتيح لنا قراءة شخصيات الماضي قراءة جيدة، كما أنه يرينا نسخة غير النسخة المتعارف عليها، فقراءة المتنبي على سبيل المثال من خلال نتاجه الأدبي، يقرّبنا من نفسية المتنبي ورؤيته للأمور، وهو ما يجعلنا نفهمه فهمًا أعمق ونسبر أغوار روحه جنبًا إلى جنب مع معرفة مرامي أبياته وقصائده، متجاوزين اللغة التي تحتمل الأوجه، إلى الصورة الأشمل للشاعر الإنسان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: علم النفس

إقرأ أيضاً:

دراسة تمتد لـ50 عاماً تكشف سر النجاح المالي ومفتاح تحقيق الثروة

كشفت دراسة استمرت 50 عاماً عن سر النجاح المالي، ورأت أنه لا علاقة له بالأداء الأكاديمي أو العلاقات المهنية أو أخلاقيات العمل.

وتتبع علماء نفس حياة 1000 طفل من مدينة دنيدن النيوزيلندية منذ عام 1972، وجمعوا معلومات حول نموهم وتطورهم ونجاحهم منذ الولادة وحتى سن الرشد.

 وكان أفضل مؤشر للنجاح المالي والمهني في المستقبل في وقت لاحق من الحياة، هو الذكاء العاطفي والقدرة على التحكم في أفعال المرء، وفق "دايلي ميل".




"الحاصل العاطفي"

وأشار العلماء إلى هذه المهارة باسم "الحاصل العاطفي"، وكان الأفراد ذوو الذكاء العاطفي المرتفع، يميلون إلى التركيز على الإيجابيات، والاستماع قبل اتخاذ القرارات، والاعتراف بأخطائهم، وإظهار التعاطف والتعامل مع المشاعر السلبية بشكل مناسب.
 لكن الأطفال ذوي الذكاء العاطفي المنخفض كانوا أكثر عرضة لـ "نتائج غير مواتية في الثروة" كبالغين، بما في ذلك انخفاض الدخل، وعادات الادخار السيئة، ومشاكل الائتمان والاعتماد على نظام الرعاية الاجتماعية.

وبحلول الوقت الذي بلغوا فيه الثلاثينيات من العمر، كانت احتمالات ادخار هذه المجموعة للمال أقل واكتساب عدد أقل من اللبنات المالية للمستقبل، مثل امتلاك المسكن أو صناديق الاستثمار أو خطط التقاعد.
ولا تزال دراسة دنيدن متعددة التخصصات للصحة والتنمية، التي تقودها جامعة أوتاغو، جارية، و على مر السنين، أنشأت ما هو أشبه بمنجم ذهبي للبيانات، وأدت إلى نشر أكثر من 1000 ورقة بحثية وتقارير وكتاب.
وقام علماء النفس بتقييم الذكاء العاطفي لأطفال دنيدن، والذي يطلقون عليه "ضبط النفس"، في سن الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة والحادية عشرة.
وتم إجراء التقييمات من خلال مراقبة سلوك الأطفال بشكل مباشر، ومقابلة والديهم وطلب من معلميهم ملء استبيان عنهم.
ويفتقر جميع الأطفال إلى ضبط النفس بين الحين والآخر، ولكن هذا المقياس المركب ضمن أن أصحاب الدرجات المنخفضة أظهروا ضعف ضبط النفس في مجموعة متنوعة من المواقف وعلى مر السنين، حسبما أفاد الباحثون في مجلة  American Scientist.

ثم أجرى الباحثون مقابلات مع المشاركين في مرحلة البلوغ، لتقييم وضعهم المالي واستقرارهم.


إدارة مسؤولة

وكشفت نتائجهم عن وجود صلة واضحة بين قدرة الطفل على فهم وتنظيم والتصرف بشكل مناسب على عواطفه ونجاحه المالي في مرحلة البلوغ، وقد يكون هذا جزئياً لأن الأشخاص ذوي الذكاء العاطفي العالي يمتلكون مهارات وسمات يريد أصحاب العمل رؤيتها في مكان العمل، مثل القدرة على العمل بشكل جيد مع الآخرين، ومهارات الاتصال الفعّالة والوعي الاجتماعي.

 وبالتالي، لاحظ الباحثون أن الذكاء العاطفي يهيئ الناس للنجاح في العمل، ويمنحهم أماناً وظيفياً أكبر، ويزيد من احتمالية حصولهم على ترقية أو زيادة.

بالإضافة إلى ذلك، يتمتع الأشخاص ذوو الذكاء العاطفي العالي بقدر أكبر من التحكم في الدوافع، ويميلون إلى التفكير قبل التصرف، وقد يساهم هذا في إدارة الأموال المسؤولة من خلال الادخار والميزانية والتخطيط للمستقبل.

مقالات مشابهة

  • أستاذ بالأزهر: لا يجوز شرعًا ترويع الآمنين حتى ولو على سبيل المزاح
  • كيف يمكن محاسبة النفس؟.. خالد الجندي يوضح
  • أستاذ شريعة وقانون: لا يجوز ترويع الآمنين حتى لو على سبيل المزاح
  • الماجستير بامتياز للباحثة ابتسام القادمي في علم النفس التربوي
  • خالد الجندي: محاسبة النفس تبدأ بمراجعة الفرائض والنواهي
  • أفضل أفلام الرعب عام 2024 علم النفس يخبرنا أسباب نجاحها
  • المفتي: الجماعات المتطرفة تدعي لنفسها ما ليس بصحيح من الإسلام
  • عضو مركز الأزهر العالمي: الله أقرب إلينا من أنفسنا.. ولا يغضب علينا بسهولة
  • سر النجاح المالي
  • دراسة تمتد لـ50 عاماً تكشف سر النجاح المالي ومفتاح تحقيق الثروة