تصاعدت الأحداث في إقليم دارفور مؤخراً في غربي السودان، والذي يعد الجبهة الثانية للحرب بعد العاصمة الخرطوم، حيث ازدادت انتهاكات وحشية الحرب ما بين القتل والنهب والاغتصاب والتهجير إلى آخر سلسلة فظائع الحرب الحالية. ولكن تبقى دارفور ساحة حرب استثنائية في جبهات المعارك وما يمكن تصنيفه بالحرب الأهلية في السودان كنتيجة منطقية لطبيعة الصراع الذي يدور بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
الملاحظ هنا أن هذه الحرب الجارية تحمل ملامح دارفور بكل معانيها العسكرية والاجتماعية والتاريخية. فمنذ عقدين اندلع الصراع بين حركات الكفاح المسلح والحكومة المركزية في 2003 وواجهتها حكومة البشير السابقة «الإنقاذ» بقوة تجاوزت المواجهة العسكرية إلى إبادة السكان الأصليين انحيازاً إلى رغبة الدولة المركزية في تصوراتها الايدولوجية لإعادة التخطيط الديمغرافي لصالح كيانات محددة.
وتعد دارفور الحاضنة الاجتماعية العابرة لقوات الدعم السريع مثلما في مقابل حواضن جغرافية أخرى في الوسط والشمال للمجموعات المهيمنة على مفاصل الدولة. وكان لتداعيات تلك الحرب ولا تزال معاناة إنسانية وصفتها الأمم المتحدة في وقتها بالكارثة الأكبر في العالم وصدر بحق السودان من مجلس الأمن عدد من قرارات بما فيها مذكرات اعتقال طالت رأس النظام السابق عمر البشير وقيادات متورطة في جرائم وانتهاكات ضد الإنسانية.
فمنذ اندلاع الصراع الجاري في أبريل/نيسان الماضي عادت إلى الإقليم الحرب بنسختها الجديدة أشد فتكاً واتخذ ت منحى جديداً انبثقت عنه كافة عناصر الصراع الأولى كحرب قبلية بين مجموعات سكانية وفصيل سكاني مسنود حكومياً يشن حربا شاملة كقوات الدعم السريع. عقّد هذا الوضع في تداخله القتالي والإثني ووسّع من نطاق الحرب مما يهدد بتحولها إلى حرب أهلية تتحقق فعلياً على أرض الواقع محولة معها خطاب الحرب إلى خطاب عنصري لا تعوزه المحفزات الكامنة في بنية وعي المجتمعات السودانية على تنوعها العرقي والجهوي وبالضرورة السياسي. فكل من الجيش والدعم السريع يتحدر منسوبوهما من دارفور كقوات مشاة ضاربة مما يرشح من تصدع الجبهتين والذي سيؤثر بدوره على مجريات الصراع. ودارفور كغيرها مما يعرف في أدبيات السياسة السودانية بأقاليم الهامش يقل حظها في التنمية والتمثيل السياسي على مستوى الحكم المركزي، وتصورات نمطية في المخيلة العامة. وظلت مؤخراً مصدر متاعب، حسب تلك التصورات، فالأجواء التي سبقت الحرب تعالت فيها أصوات عنصرية كثيفة التأثير على فصلها أسوة بجنوب السودان الذي ذهب منفصلاً عبر استفتاء عن الدولة الأم 2011. ولكن ما شكلته قوات الدعم السريع في اعقاب سقوط النظام السابق من حضور عسكري كثيف أخل بالميزان التقليدي لموازنات قطبي السياسة السودانية القوات العسكرية والتمثيل الجهوي الحزبي.
أما الحركات الدارفورية المسلحة ذات التكوين القبلي والتي تمثل الحاضر الغائب في فوضى الحرب، اتخذت موقفاً لا يمكن وصفه بالحياد أو الانحياز مما بدا موقفاً مربكاً على مستوى العسكري والسياسي خاصة أنها حليفة للانقلاب الذي قاده قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، واكتسبت شرعية تواجدها من اتفاقية جوبا للسلام ضمن جوقة المكونات السياسية المدنية.
وذهبت العديد من التحليلات لهذا الموقف بتجنب المواجهة المباشرة أمام نيران أطراف الصراع الكثيفة التي لا تملك القوة الكافية للتعامل معها. قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان حاكم دارفور مني اركو مناوي قد عيّن دون غيره من الولاة في وقت لم تزل السلطات الولائية أو الإقليمية ومسمياتها ومؤسسات التشريعية لم تحسم بعد على كافة مستويات الحكم المركزي والإقليمي مما يجعله تعييناً لا يفهم منه إلا فرض سياسة الأمر الواقع. ويعود مناوي من بين كل فصائل الحركات الدافورية حاكماً سلطانياً على إحدى أكثر مناطق البلاد توتراً وما شهدته من أهوال صراعات حروب بين حكومة النظام البائد ضد سكان أدت إلى إبادة جماعية تطهير اثني ممزقة لنسيجها الاجتماعي. لكنه انسحب من الخرطوم بقواته بحجة انه جاء للسلام، وهذا تعبير ليس كافياً في تبرير موقف حركته والحركات الأخرى من الحرب أو حماية من يفترض حمايتهم في دائرة إقليمه. فطبيعة السلطات الأهلية في دارفور مع تركيبة مجتمعها القبلي يعلي من شأن المنصب كقيمة تنزع إلى تأكيد ذات القبيلة المتمثلة في شخص الحاكم، وليس بما يقتضي دوره من دور ينعكس على واقع المواطنين ويقودهم نحو تنمية حقيقية.
ومن جانب آخر درجت السلطة المركزية (الاتحادية) إلى منظومة الاختيار الذي يتأسس على الوزن العشائري. ومع هذا يبقى الحاكم الحالي يتنازع بين نفوذ سلطة الدولة والقبيلة.
إذن عادت الحرب مجدداً إلى الإقليم، وإن لم تكن غائبة عنه، حيث تشهد مدنه الكبرى نيالا والفاشر والجنينة وزالنجي مواجهات دامية فاق ضحاياها مجموع ما سقط في عاصمة البلاد. تعود الحرب ولم يعد مقاتلو الدعم السريع ميليشيا محدودة التحرك والمهمة تواجه حركات مسلحة نيابة عن الدولة المركزية، فقد عادت مقدمة خطاباً سياسياً يخاطب قضايا وظلامات عانت منها أقاليم الهامش بالصورة التي تجلت في صياغات خطابات حركات الهامش منذ الخمسينيات، ولكن ظلت مخططاتها الجوهرية كمجموعة ذات تكوين قبلي لم تتغير وإن اختلفت وسائلها. ولم تستطع قواته فرض سيطرتها العسكرية التي يخشى أن تهيمن على كامل الإقليم ومن ثم تفرض واقعاً جديداً على مستوى استراتيجية الحرب مما يهدد بانتزاعها للإقليم بأكمله وإقامة دولة بديلة إذا عجزت عملياً عن تقويض دولة 56 ذات المركزية القابضة بخطابها الدعائي الجديد.
إن المسافة بين دارفور والحرب في العاصمة السودانية تغطي جبهة عريضة تمتد إلى أكثر من ألف وأربعمئة كليو متر في إقليم تعادل مساحته دولة فرنسا ويجاور دولاً في المحيط الأفريقي. مسافة ملتهبة على طول التعدد السكاني والجغرافي شكلت خط امداد لوجيستي لقوات الدعم السريع بالغ الأهمية فشلت محاولات الجيش في قطعه. وبينما تتطور الحرب دون حل يلوح في الأفق، يزداد الموقف الحرج للحرب تعقيداً في إقليم دارفور مما يؤشر كما تشير التقارير المنظمات الدولية بأن الأزمة مرشحة للتصاعد على الصعيد الإنساني. فما يعيشه الإقليم من تداعيات تعيد الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه طوال فترة النزاعات التي عصفت بالإقليم على مدى السنوات الماضية.
في سياق الموقف المعقد للحرب لن تكون معاناة سكان الإقليم في عداد قائمة أولويات الحل العاجل لأسباب تختلف فيها الدواعي بقدر اختلاف الوسائل. فالحلول لن تطرح نفسها للاستجابة الفورية بطريقة ملحة سواء على المستوى الوطني أو الدولي أو الإعلامي. والراجح أن تأخذ الحرب دورتها الكاملة في الإقليم ومن ثم ستشكل واقعاً – في غياب مركزية القرار- يعصب تجاوزه بمعايير التقسيم السلطوي بين المركز والأطراف على ما تعانيه العلاقة من تجاذبات قائمة، فتكاد العلاقة بعد أشهر ممتدة من الحرب في السودان بين المركز والأقاليم منقطعة مما مهد لظهور جماعات خارج شرعية الدولة تعلب دوراً توظفه أطراف الصراع في محاولة لاستقطابات سياسية قبلية تزيد من حدة الصراع في مجتمع تمزقه الحرب على أساس جهوي.
تتحول دارفور الى ساحة صراع تتجمع فيها كافة أطراف الصراع وأدواته هذه المرة وتصبح محوراً لأطراف متقاتلة متعددة التوجهات في واقع تشكل الحرب خارطته السياسية، وذلك مؤشر انقسام حاد في جغرافيا سياسية متعددة ضمن شبكة من التقسيمات الإدارية مقسمة بين سلطات إدارية أهلية وجيوش وحركات مسلحة تدعي حقاً وباطلاً تمثيل الإقليم وتحكم قبضتها على سلطة لم تعد لديها جدوى في ظل حرب أخلت بمعادلات التوازنات التقليدية التي حافظت على الحد الأدنى من التوافق الموقوت عبر عقود.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي# عدد اليوم 12/08/2023م
nassyid@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
عقوبات أوروبية على 4 شخصيات سودانية “تهدد السلام والأمن”
بروكسل: أعلن الاتحاد الأوروبي، الاثنين، فرض عقوبات على 4 شخصيات عسكرية وأمنية سودانية “لتهديدهم السلام والاستقرار والأمن” في البلاد التي تشهد حربا بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ أبريل/ نيسان 2023، وأفاد الاتحاد الأوروبي في بيان بأن “مجلس الاتحاد الأوروبي أضاف 4 أفراد إلى قائمة عقوبات الاتحاد لتهديدهم السلام والاستقرار والأمن في السودان”.
وأوضح أن “المجلس وافق على تدابير تقييدية إضافية ضد 4 أفراد في ضوء خطورة الوضع في السودان، حيث يستمر القتال المستمر بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع”.
ويونيو/ حزيران الماضي، فرض المجلس عقوبات على 6 أفراد في السودان، متهماً إياهم بالمسؤولية عن أنشطة تقوّض استقرار السودان وانتقاله السياسي، بينهم الأمين العام للحركة الإسلامية على كرتي، وقائد القوات الجوية للجيش الطاهر محمد العوض الأمين، وقائد قوات الدعم السريع في غرب دارفور عبد الرحمن جمعة.
وذكر البيان الجديد للمجلس أن “العقوبات فرضت على قائد استخبارات الجيش السوداني محمد علي أحمد صبير، وهو مسؤول عن المضايقات والاعتقال التعسفي والاحتجاز لأعضاء المجتمع المدني”.
كما “أدرج صلاح عبد الله محمد صلاح (الرئيس الأسبق لجهاز الأمن السوداني) المعروف أيضًا باسم ’صلاح قوش’، وهو المسؤول عن العديد من الإجراءات التي اتخذتها القوات المسلحة السودانية وقسم عمليات الاستخبارات”، وفق البيان.
وأضاف البيان: “من جانب قوات الدعم السريع، تم فرض تدابير تقييدية على عثمان محمد حامد (قائد عمليات الدعم السريع)، وهو المسؤول عن العمليات منذ اندلاع الصراع والمسؤول عن انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي التي ارتكبتها قوات الدعم السريع”.
وأدرج البيان في قائمة العقوبات “التيجاني كرشوم (رئيس الإدارة المدنية التابع لقوات الدعم السريع في غرب دارفور)، وهو الحاكم الفعلي لولاية غرب دارفور، وسهّل تجنيد الميليشيات للقتال إلى جانب الدعم السريع، وشارك في التخطيط والتوجيه وارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في غرب دارفور”.
وتضمنت العقوبات “تجميد أصول، وحظر الأشخاص والكيانات في الاتحاد الأوروبي توفير الأموال أو الأصول المالية أو الموارد الاقتصادية لهم، بجانب خضوعهم لحظر السفر إلى الاتحاد الأوروبي”، وفق ذات المصدر.
وحتى الساعة 18:00 (ت.غ)، لم يصدر عن السلطات السودانية و”الدعم السريع” تعليق على البيان الأوروبي.
ومنذ منتصف أبريل 2023، يخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 14 مليون نازح ولاجئ، وفق تقديرات الأمم المتحدة والسلطات المحلية.
وتتصاعد دعوات أممية ودولية لإنهاء الحرب بما يجنب السودان كارثة إنسانية بدأت تدفع ملايين إلى المجاعة والموت جراء نقص الغذاء بسبب القتال الذي امتد إلى 13 ولاية من أصل 18.
(الأناضول)