سودانايل:
2024-11-19@04:33:12 GMT

دارفور: من الحرب وإلى الحرب

تاريخ النشر: 12th, August 2023 GMT

تصاعدت الأحداث في إقليم دارفور مؤخراً في غربي السودان، والذي يعد الجبهة الثانية للحرب بعد العاصمة الخرطوم، حيث ازدادت انتهاكات وحشية الحرب ما بين القتل والنهب والاغتصاب والتهجير إلى آخر سلسلة فظائع الحرب الحالية. ولكن تبقى دارفور ساحة حرب استثنائية في جبهات المعارك وما يمكن تصنيفه بالحرب الأهلية في السودان كنتيجة منطقية لطبيعة الصراع الذي يدور بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.


الملاحظ هنا أن هذه الحرب الجارية تحمل ملامح دارفور بكل معانيها العسكرية والاجتماعية والتاريخية. فمنذ عقدين اندلع الصراع بين حركات الكفاح المسلح والحكومة المركزية في 2003 وواجهتها حكومة البشير السابقة «الإنقاذ» بقوة تجاوزت المواجهة العسكرية إلى إبادة السكان الأصليين انحيازاً إلى رغبة الدولة المركزية في تصوراتها الايدولوجية لإعادة التخطيط الديمغرافي لصالح كيانات محددة.
وتعد دارفور الحاضنة الاجتماعية العابرة لقوات الدعم السريع مثلما في مقابل حواضن جغرافية أخرى في الوسط والشمال للمجموعات المهيمنة على مفاصل الدولة. وكان لتداعيات تلك الحرب ولا تزال معاناة إنسانية وصفتها الأمم المتحدة في وقتها بالكارثة الأكبر في العالم وصدر بحق السودان من مجلس الأمن عدد من قرارات بما فيها مذكرات اعتقال طالت رأس النظام السابق عمر البشير وقيادات متورطة في جرائم وانتهاكات ضد الإنسانية.
فمنذ اندلاع الصراع الجاري في أبريل/نيسان الماضي عادت إلى الإقليم الحرب بنسختها الجديدة أشد فتكاً واتخذ ت منحى جديداً انبثقت عنه كافة عناصر الصراع الأولى كحرب قبلية بين مجموعات سكانية وفصيل سكاني مسنود حكومياً يشن حربا شاملة كقوات الدعم السريع. عقّد هذا الوضع في تداخله القتالي والإثني ووسّع من نطاق الحرب مما يهدد بتحولها إلى حرب أهلية تتحقق فعلياً على أرض الواقع محولة معها خطاب الحرب إلى خطاب عنصري لا تعوزه المحفزات الكامنة في بنية وعي المجتمعات السودانية على تنوعها العرقي والجهوي وبالضرورة السياسي. فكل من الجيش والدعم السريع يتحدر منسوبوهما من دارفور كقوات مشاة ضاربة مما يرشح من تصدع الجبهتين والذي سيؤثر بدوره على مجريات الصراع. ودارفور كغيرها مما يعرف في أدبيات السياسة السودانية بأقاليم الهامش يقل حظها في التنمية والتمثيل السياسي على مستوى الحكم المركزي، وتصورات نمطية في المخيلة العامة. وظلت مؤخراً مصدر متاعب، حسب تلك التصورات، فالأجواء التي سبقت الحرب تعالت فيها أصوات عنصرية كثيفة التأثير على فصلها أسوة بجنوب السودان الذي ذهب منفصلاً عبر استفتاء عن الدولة الأم 2011. ولكن ما شكلته قوات الدعم السريع في اعقاب سقوط النظام السابق من حضور عسكري كثيف أخل بالميزان التقليدي لموازنات قطبي السياسة السودانية القوات العسكرية والتمثيل الجهوي الحزبي.
أما الحركات الدارفورية المسلحة ذات التكوين القبلي والتي تمثل الحاضر الغائب في فوضى الحرب، اتخذت موقفاً لا يمكن وصفه بالحياد أو الانحياز مما بدا موقفاً مربكاً على مستوى العسكري والسياسي خاصة أنها حليفة للانقلاب الذي قاده قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، واكتسبت شرعية تواجدها من اتفاقية جوبا للسلام ضمن جوقة المكونات السياسية المدنية.
وذهبت العديد من التحليلات لهذا الموقف بتجنب المواجهة المباشرة أمام نيران أطراف الصراع الكثيفة التي لا تملك القوة الكافية للتعامل معها. قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان حاكم دارفور مني اركو مناوي قد عيّن دون غيره من الولاة في وقت لم تزل السلطات الولائية أو الإقليمية ومسمياتها ومؤسسات التشريعية لم تحسم بعد على كافة مستويات الحكم المركزي والإقليمي مما يجعله تعييناً لا يفهم منه إلا فرض سياسة الأمر الواقع. ويعود مناوي من بين كل فصائل الحركات الدافورية حاكماً سلطانياً على إحدى أكثر مناطق البلاد توتراً وما شهدته من أهوال صراعات حروب بين حكومة النظام البائد ضد سكان أدت إلى إبادة جماعية تطهير اثني ممزقة لنسيجها الاجتماعي. لكنه انسحب من الخرطوم بقواته بحجة انه جاء للسلام، وهذا تعبير ليس كافياً في تبرير موقف حركته والحركات الأخرى من الحرب أو حماية من يفترض حمايتهم في دائرة إقليمه. فطبيعة السلطات الأهلية في دارفور مع تركيبة مجتمعها القبلي يعلي من شأن المنصب كقيمة تنزع إلى تأكيد ذات القبيلة المتمثلة في شخص الحاكم، وليس بما يقتضي دوره من دور ينعكس على واقع المواطنين ويقودهم نحو تنمية حقيقية.
ومن جانب آخر درجت السلطة المركزية (الاتحادية) إلى منظومة الاختيار الذي يتأسس على الوزن العشائري. ومع هذا يبقى الحاكم الحالي يتنازع بين نفوذ سلطة الدولة والقبيلة.
إذن عادت الحرب مجدداً إلى الإقليم، وإن لم تكن غائبة عنه، حيث تشهد مدنه الكبرى نيالا والفاشر والجنينة وزالنجي مواجهات دامية فاق ضحاياها مجموع ما سقط في عاصمة البلاد. تعود الحرب ولم يعد مقاتلو الدعم السريع ميليشيا محدودة التحرك والمهمة تواجه حركات مسلحة نيابة عن الدولة المركزية، فقد عادت مقدمة خطاباً سياسياً يخاطب قضايا وظلامات عانت منها أقاليم الهامش بالصورة التي تجلت في صياغات خطابات حركات الهامش منذ الخمسينيات، ولكن ظلت مخططاتها الجوهرية كمجموعة ذات تكوين قبلي لم تتغير وإن اختلفت وسائلها. ولم تستطع قواته فرض سيطرتها العسكرية التي يخشى أن تهيمن على كامل الإقليم ومن ثم تفرض واقعاً جديداً على مستوى استراتيجية الحرب مما يهدد بانتزاعها للإقليم بأكمله وإقامة دولة بديلة إذا عجزت عملياً عن تقويض دولة 56 ذات المركزية القابضة بخطابها الدعائي الجديد.
إن المسافة بين دارفور والحرب في العاصمة السودانية تغطي جبهة عريضة تمتد إلى أكثر من ألف وأربعمئة كليو متر في إقليم تعادل مساحته دولة فرنسا ويجاور دولاً في المحيط الأفريقي. مسافة ملتهبة على طول التعدد السكاني والجغرافي شكلت خط امداد لوجيستي لقوات الدعم السريع بالغ الأهمية فشلت محاولات الجيش في قطعه. وبينما تتطور الحرب دون حل يلوح في الأفق، يزداد الموقف الحرج للحرب تعقيداً في إقليم دارفور مما يؤشر كما تشير التقارير المنظمات الدولية بأن الأزمة مرشحة للتصاعد على الصعيد الإنساني. فما يعيشه الإقليم من تداعيات تعيد الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه طوال فترة النزاعات التي عصفت بالإقليم على مدى السنوات الماضية.
في سياق الموقف المعقد للحرب لن تكون معاناة سكان الإقليم في عداد قائمة أولويات الحل العاجل لأسباب تختلف فيها الدواعي بقدر اختلاف الوسائل. فالحلول لن تطرح نفسها للاستجابة الفورية بطريقة ملحة سواء على المستوى الوطني أو الدولي أو الإعلامي. والراجح أن تأخذ الحرب دورتها الكاملة في الإقليم ومن ثم ستشكل واقعاً – في غياب مركزية القرار- يعصب تجاوزه بمعايير التقسيم السلطوي بين المركز والأطراف على ما تعانيه العلاقة من تجاذبات قائمة، فتكاد العلاقة بعد أشهر ممتدة من الحرب في السودان بين المركز والأقاليم منقطعة مما مهد لظهور جماعات خارج شرعية الدولة تعلب دوراً توظفه أطراف الصراع في محاولة لاستقطابات سياسية قبلية تزيد من حدة الصراع في مجتمع تمزقه الحرب على أساس جهوي.
تتحول دارفور الى ساحة صراع تتجمع فيها كافة أطراف الصراع وأدواته هذه المرة وتصبح محوراً لأطراف متقاتلة متعددة التوجهات في واقع تشكل الحرب خارطته السياسية، وذلك مؤشر انقسام حاد في جغرافيا سياسية متعددة ضمن شبكة من التقسيمات الإدارية مقسمة بين سلطات إدارية أهلية وجيوش وحركات مسلحة تدعي حقاً وباطلاً تمثيل الإقليم وتحكم قبضتها على سلطة لم تعد لديها جدوى في ظل حرب أخلت بمعادلات التوازنات التقليدية التي حافظت على الحد الأدنى من التوافق الموقوت عبر عقود.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي# عدد اليوم 12/08/2023م

nassyid@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

الدعم السريع جيش وطني لا جنيدي ولا عطوي

انتشرت في الآونة الأخيرة "بروباقندا" للفلول والمرتزقة "المشتركة"، تعمل على وصم جيش التحرير الوطنيقوات الدعم السريع، بأنها مشروع لكيان اجتماعي يسمى العطاوة والجنيديين، جاءت هذه الدعاية المغرضة بعد أن تكبد الفلول ومرتزقتهم الهزائم في جميع المحاور، وقصد من هذه الاشاعة تحجيمها وحصرها في الإطار الإثني والقبلي الضيق، ليسهل بعد ذلك عزلها من المجتمع، متناسين الموقف المشهود لقائدها حينما ألقى القبض على ابن عمه الشيخ موسى هلال بمستريحة، وعندما حاول مقدم البرنامج التلفزيوني آنذاك جرّه لفخ القبيلة، وأراد مخاطبته كرزيقي (جنيدي – عطوي)، رفض ذلك التعريف، وهدد بالانسحاب من الحوار، لو أن مقدم البرنامج أصرّ على استنطاقه من المنطلق القبلي، فنزع السماعة والمايك، ومن جميل صفات القائد بحسب شهادة المقربين منه، أنه مطلقاً لا يحتفي بمن يتقرّب إليه من باب القبيلة أو الجهة أو العرق، لهذا السبب التف حوله الشرق والشمال والوسط والجنوب قبل الغرب، ومعلوم أن الانسان السوداني البسيط قد تأثر كثيراً وما يزال، بخبث طرائق الآلة الإعلامية لفلول النظام البائد، والتي نجحت إلى حد ما في تفكيك المجتمع، لملل ونحل وعشائر وقبائل لكي تسهل قيادته، إنّ قوات الدعم السريع نشأت بقانون، أجازه نفس البرلمان الذي بارك شراكة الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، في حكم السودان بعد اتفاقية السلام الشامل، والتي جاءت برائد ثورة التحرير الوطني الدكتور جون قرنق نائباً للرئيس، ورئيساً لحكومة جنوب السودان، فالتطور الطبيعي لأي جيش وطني أن يقف مع ثورة الشعب عندما يصل الجميع لمفترق الطرق، وهو ذات الخيار الذي اختاره القائد بعد اندلاع ثورة ديسمبر، فكان القشة القاصمة لظهر بعير النظام السالف، فجاء انتقام فلول المنظومة الاخوانية المندحرة، ممثلاً في الصاق فرية العشائرية على هذه القوات الوطنية الصرفة.
عندما كان البشير رأساً للنظام سمعنا بعض من أبناء قبيلته يقولون أن مقاليد الحكم بيدهم، وهذه الظاهرة من الظواهر الاجتماعية السودانية المشهورة، كذلك فعل بعض ممن ينتمون قبلياً للقائد بحسب بساطتهم وفخرهم المستحق، بابنهم الذي قاد ثورة التحرير الوطني، لكن هذا لا يعني أن المؤسسة تؤيد ذلك، أو تحذوا حذو الانحياز القبلي، على الرغم من أن جيش الفلول قد ارتكب الفظائع عبر طيرانه المأجور، بحق المجتمعات المحسوبة على القائد، لخلق بذرة فتنة جهوية تجعل خيار تفتيت وحدة السودان ممكناً، باستفزاز الكيانات الاجتماعية ودفعها لاختيار الانفصال رغبة ورهبة، لكن فات على الفلول أن القبائل المستهدفة بالقصف الجوي تمثل مع أخواتها الأخريات من جهات السودان الأربع، عصب الدولة المؤسسة قبل أكثر من مائة سنة، الدولة الوطنية الأولى التي قادها الإمام محمد أحمد المهدي وخليفتاه عبد الله ودقنه، ففلول الإخوان – فرع السودان، لا علاقة تجمعهم بالمنهاج الإسلامي، والدليل على ما نقول هو عملهم ضد الموروث المهدوي الذي رسم لنا حدود هذه الدولة العظيمة أرض (المليون) ميل مربع، والتي خانتها الحركة (الإسلامية) – المؤتمر الوطني – الاخوان المسلمون، بلعب الدور نفسه الذي جعل انفصال جنوب السودان عن شماله ممكناً، ولأن الجماعة الاخوانية لا يهمها الوطن في شيء انتقلت لبورتسودان، بعد أن دحرتها قوات الدعم السريع في الخرطوم، لكي تقيم لها وطناً بديلاً، فهي لا تؤمن بقيمة الأوطان طالما أن هنالك إمكانية لممارستها للسلطة ولو من جزيرة توتي، فهي تحتضن قوم جبلوا على حب الكرسي بصرف النظر حيوات أو موات الناس، لذلك نشاهد قائد جيشهم يتغول على سيادة الوطن ويحاول سارقاً أن يمثل الدولة في المحافل الدولية.
من نعم الله على شعب السودان أن سخّر له هذه القوة العسكرية الوطنية لأن تقول لا للدكتاتورية، وأن تضع حداً فاصلاً بين الدولة القديمة والمستقبل الجديد للسودان الجديد، الذي حلم به الدكتور جون قرنق ولم يستطع تحقيقه، نسبة لصلف وجبروت وسطوة الاخوان المسلمين في السودان في تلك الحقبة، والذين لم يتبقى لهم سوى مخلفات نوايا خبيثة لتفكيك ما تبقى من لحمة اجتماعية، ظهرت ملامحها في شرق السودان أيضاً، باستخدام ذراع الفلول – "المرتزقة" في جر أهل الشرق للاقتتال البيني، وما طفح في الاعلام من خلافات بين زعامات الشرق ما هو إلّا سيناريو آخر مثيل لسيناريو حرب دارفور العرقية، التي أشعلتها مليشيات "المرتزقة" الذين يتواجدون اليوم بميناء السودان، فهم الذين يسوقون لبروباقاندا عطوية وجنيدية قوات الدعم السريع، التي احتوت نسيج السودان الاجتماعي الكبير، ومثلت طيف واسع من الداعمين السياسيين والناشطين الذين يحبون السودان، ويعلمون تمام العلم أنه لا توجد قوة عسكرية وطنية وحدوية، ظلت تقدم الغالي والنفيس في سبيل رفعة راية الوطن وجعلها عالية خفاقة، غير قوات الدعم السريع، فقوميتها ووطنيتها لا يجب أن يجادل فيها مرتزق أو فلول منتفع، فلو كانت لحقبة "الإنقاذ" حسنة واحدة تحمد لها، فهي تكوين هذه القوة العسكرية التي تمثل الدرع والحصن الحصين للدفاع عن الوطن، وسوف تنقشع سحب النفاق والتدليس قريباً، وسيكتشف السودانيون أنها السد المنيع الذي قاوم تسونامي تمزيق الوطن الجريح.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • بنك السودان المركزي يقرر تجميد حسابات قوات الدعم السريع والشركات التابعة لها
  • إعفاء 213 موظفا في جنوب دارفور بسبب مساعدتهم الدعم السريع
  • سلاح إماراتي وضربات مصرية.. تعليق جديد من الدعم السريع في السودان
  • قوات الدعم السريع السودانية تنفي ارتكاب انتهاكات وتلقي دعم إماراتي  
  • أجانب يواجهون أهوال الحرب في معتقلات الدعم السريع بالخرطوم
  • الدعم السريع جيش وطني لا جنيدي ولا عطوي
  • شاهد بالفيديو.. أحد أفراد الدعم السريع يحكي قصته مع صديقه الذي ساعده على الخروج مع أسرته وتفاجأ به بعد أيام وهو يشمت في زميله المقتول “انجغم”
  • ارتفاع عدد ضحايا حصار ميلشيا الدعم السريع لمدينة الهلالية إلى 522 قتيلا
  • السودان يختنق بجرائم ميليشيا الدعم السريع.. والملايين يكتوون بنار الحرب
  • عبد العزيز عشر: عودة الظهور وأبعاد سياسية في مشهد الصراع السوداني