سودانايل:
2025-02-23@01:39:13 GMT

دارفور: من الحرب وإلى الحرب

تاريخ النشر: 12th, August 2023 GMT

تصاعدت الأحداث في إقليم دارفور مؤخراً في غربي السودان، والذي يعد الجبهة الثانية للحرب بعد العاصمة الخرطوم، حيث ازدادت انتهاكات وحشية الحرب ما بين القتل والنهب والاغتصاب والتهجير إلى آخر سلسلة فظائع الحرب الحالية. ولكن تبقى دارفور ساحة حرب استثنائية في جبهات المعارك وما يمكن تصنيفه بالحرب الأهلية في السودان كنتيجة منطقية لطبيعة الصراع الذي يدور بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.


الملاحظ هنا أن هذه الحرب الجارية تحمل ملامح دارفور بكل معانيها العسكرية والاجتماعية والتاريخية. فمنذ عقدين اندلع الصراع بين حركات الكفاح المسلح والحكومة المركزية في 2003 وواجهتها حكومة البشير السابقة «الإنقاذ» بقوة تجاوزت المواجهة العسكرية إلى إبادة السكان الأصليين انحيازاً إلى رغبة الدولة المركزية في تصوراتها الايدولوجية لإعادة التخطيط الديمغرافي لصالح كيانات محددة.
وتعد دارفور الحاضنة الاجتماعية العابرة لقوات الدعم السريع مثلما في مقابل حواضن جغرافية أخرى في الوسط والشمال للمجموعات المهيمنة على مفاصل الدولة. وكان لتداعيات تلك الحرب ولا تزال معاناة إنسانية وصفتها الأمم المتحدة في وقتها بالكارثة الأكبر في العالم وصدر بحق السودان من مجلس الأمن عدد من قرارات بما فيها مذكرات اعتقال طالت رأس النظام السابق عمر البشير وقيادات متورطة في جرائم وانتهاكات ضد الإنسانية.
فمنذ اندلاع الصراع الجاري في أبريل/نيسان الماضي عادت إلى الإقليم الحرب بنسختها الجديدة أشد فتكاً واتخذ ت منحى جديداً انبثقت عنه كافة عناصر الصراع الأولى كحرب قبلية بين مجموعات سكانية وفصيل سكاني مسنود حكومياً يشن حربا شاملة كقوات الدعم السريع. عقّد هذا الوضع في تداخله القتالي والإثني ووسّع من نطاق الحرب مما يهدد بتحولها إلى حرب أهلية تتحقق فعلياً على أرض الواقع محولة معها خطاب الحرب إلى خطاب عنصري لا تعوزه المحفزات الكامنة في بنية وعي المجتمعات السودانية على تنوعها العرقي والجهوي وبالضرورة السياسي. فكل من الجيش والدعم السريع يتحدر منسوبوهما من دارفور كقوات مشاة ضاربة مما يرشح من تصدع الجبهتين والذي سيؤثر بدوره على مجريات الصراع. ودارفور كغيرها مما يعرف في أدبيات السياسة السودانية بأقاليم الهامش يقل حظها في التنمية والتمثيل السياسي على مستوى الحكم المركزي، وتصورات نمطية في المخيلة العامة. وظلت مؤخراً مصدر متاعب، حسب تلك التصورات، فالأجواء التي سبقت الحرب تعالت فيها أصوات عنصرية كثيفة التأثير على فصلها أسوة بجنوب السودان الذي ذهب منفصلاً عبر استفتاء عن الدولة الأم 2011. ولكن ما شكلته قوات الدعم السريع في اعقاب سقوط النظام السابق من حضور عسكري كثيف أخل بالميزان التقليدي لموازنات قطبي السياسة السودانية القوات العسكرية والتمثيل الجهوي الحزبي.
أما الحركات الدارفورية المسلحة ذات التكوين القبلي والتي تمثل الحاضر الغائب في فوضى الحرب، اتخذت موقفاً لا يمكن وصفه بالحياد أو الانحياز مما بدا موقفاً مربكاً على مستوى العسكري والسياسي خاصة أنها حليفة للانقلاب الذي قاده قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، واكتسبت شرعية تواجدها من اتفاقية جوبا للسلام ضمن جوقة المكونات السياسية المدنية.
وذهبت العديد من التحليلات لهذا الموقف بتجنب المواجهة المباشرة أمام نيران أطراف الصراع الكثيفة التي لا تملك القوة الكافية للتعامل معها. قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان حاكم دارفور مني اركو مناوي قد عيّن دون غيره من الولاة في وقت لم تزل السلطات الولائية أو الإقليمية ومسمياتها ومؤسسات التشريعية لم تحسم بعد على كافة مستويات الحكم المركزي والإقليمي مما يجعله تعييناً لا يفهم منه إلا فرض سياسة الأمر الواقع. ويعود مناوي من بين كل فصائل الحركات الدافورية حاكماً سلطانياً على إحدى أكثر مناطق البلاد توتراً وما شهدته من أهوال صراعات حروب بين حكومة النظام البائد ضد سكان أدت إلى إبادة جماعية تطهير اثني ممزقة لنسيجها الاجتماعي. لكنه انسحب من الخرطوم بقواته بحجة انه جاء للسلام، وهذا تعبير ليس كافياً في تبرير موقف حركته والحركات الأخرى من الحرب أو حماية من يفترض حمايتهم في دائرة إقليمه. فطبيعة السلطات الأهلية في دارفور مع تركيبة مجتمعها القبلي يعلي من شأن المنصب كقيمة تنزع إلى تأكيد ذات القبيلة المتمثلة في شخص الحاكم، وليس بما يقتضي دوره من دور ينعكس على واقع المواطنين ويقودهم نحو تنمية حقيقية.
ومن جانب آخر درجت السلطة المركزية (الاتحادية) إلى منظومة الاختيار الذي يتأسس على الوزن العشائري. ومع هذا يبقى الحاكم الحالي يتنازع بين نفوذ سلطة الدولة والقبيلة.
إذن عادت الحرب مجدداً إلى الإقليم، وإن لم تكن غائبة عنه، حيث تشهد مدنه الكبرى نيالا والفاشر والجنينة وزالنجي مواجهات دامية فاق ضحاياها مجموع ما سقط في عاصمة البلاد. تعود الحرب ولم يعد مقاتلو الدعم السريع ميليشيا محدودة التحرك والمهمة تواجه حركات مسلحة نيابة عن الدولة المركزية، فقد عادت مقدمة خطاباً سياسياً يخاطب قضايا وظلامات عانت منها أقاليم الهامش بالصورة التي تجلت في صياغات خطابات حركات الهامش منذ الخمسينيات، ولكن ظلت مخططاتها الجوهرية كمجموعة ذات تكوين قبلي لم تتغير وإن اختلفت وسائلها. ولم تستطع قواته فرض سيطرتها العسكرية التي يخشى أن تهيمن على كامل الإقليم ومن ثم تفرض واقعاً جديداً على مستوى استراتيجية الحرب مما يهدد بانتزاعها للإقليم بأكمله وإقامة دولة بديلة إذا عجزت عملياً عن تقويض دولة 56 ذات المركزية القابضة بخطابها الدعائي الجديد.
إن المسافة بين دارفور والحرب في العاصمة السودانية تغطي جبهة عريضة تمتد إلى أكثر من ألف وأربعمئة كليو متر في إقليم تعادل مساحته دولة فرنسا ويجاور دولاً في المحيط الأفريقي. مسافة ملتهبة على طول التعدد السكاني والجغرافي شكلت خط امداد لوجيستي لقوات الدعم السريع بالغ الأهمية فشلت محاولات الجيش في قطعه. وبينما تتطور الحرب دون حل يلوح في الأفق، يزداد الموقف الحرج للحرب تعقيداً في إقليم دارفور مما يؤشر كما تشير التقارير المنظمات الدولية بأن الأزمة مرشحة للتصاعد على الصعيد الإنساني. فما يعيشه الإقليم من تداعيات تعيد الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه طوال فترة النزاعات التي عصفت بالإقليم على مدى السنوات الماضية.
في سياق الموقف المعقد للحرب لن تكون معاناة سكان الإقليم في عداد قائمة أولويات الحل العاجل لأسباب تختلف فيها الدواعي بقدر اختلاف الوسائل. فالحلول لن تطرح نفسها للاستجابة الفورية بطريقة ملحة سواء على المستوى الوطني أو الدولي أو الإعلامي. والراجح أن تأخذ الحرب دورتها الكاملة في الإقليم ومن ثم ستشكل واقعاً – في غياب مركزية القرار- يعصب تجاوزه بمعايير التقسيم السلطوي بين المركز والأطراف على ما تعانيه العلاقة من تجاذبات قائمة، فتكاد العلاقة بعد أشهر ممتدة من الحرب في السودان بين المركز والأقاليم منقطعة مما مهد لظهور جماعات خارج شرعية الدولة تعلب دوراً توظفه أطراف الصراع في محاولة لاستقطابات سياسية قبلية تزيد من حدة الصراع في مجتمع تمزقه الحرب على أساس جهوي.
تتحول دارفور الى ساحة صراع تتجمع فيها كافة أطراف الصراع وأدواته هذه المرة وتصبح محوراً لأطراف متقاتلة متعددة التوجهات في واقع تشكل الحرب خارطته السياسية، وذلك مؤشر انقسام حاد في جغرافيا سياسية متعددة ضمن شبكة من التقسيمات الإدارية مقسمة بين سلطات إدارية أهلية وجيوش وحركات مسلحة تدعي حقاً وباطلاً تمثيل الإقليم وتحكم قبضتها على سلطة لم تعد لديها جدوى في ظل حرب أخلت بمعادلات التوازنات التقليدية التي حافظت على الحد الأدنى من التوافق الموقوت عبر عقود.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي# عدد اليوم 12/08/2023م

nassyid@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

هل تسعى الدعم السريع لتقسيم البلاد؟

مع تسارع الأحداث بالسودان، بين التقدم الميداني المتواصل للجيش السوداني وارتفاع مستويات النشاط السياسي الإقليمي لإيجاد مسارات تؤدي لإنهاء الحرب الأهلية، برز تفصيل جديد مرتبط بسير الأحداث العامة يبدو أنه سيكون له أثر كبير، على الأقل في الوقت الحالي، على مجريات الأحداث. دخلت كينيا، الدولة الواقعة إلى الجنوب الشرقي لجنوب السودان، على خط الحدث السوداني، واستضافت مؤتمرا ضم قوات الدعم السريع، أعلن فيه عن توجه لتشكيل حكومة سودانية موازية. ماذا يعني هذا الكلام؟ وهل يتجه السودان نحو تقسيم جديد؟
اتهمت الحكومة السودانية كينيا بانتهاك سيادة السودان، من خلال استضافة حدث يرتقب أن تعلن خلاله قوات الدعم السريع حكومة موازية الجمعة.
وأدانت الخارجية السودانية كينيا لسماحها باستضافة الحدث، وفي بيان صدر مساء الثلاثاء قالت الوزارة “هذا يعني تشجيع تقسيم الدول الأفريقية وانتهاك سيادتها والتدخل في شؤونها، في خرق لميثاق الأمم المتحدة والأمر التأسيسي للاتحاد الأفريقي والقواعد التي استقر عليها النظام الدولي المعاصر”.
الحكومة الموازية التي يعتزم الدعم السريع ومجموعة من القوى السياسية والحركات المسلحة الإعلان عنها في مناطق سيطرة الدعم السريع، تأتي في وقت عصيب يمر به السودان حيث تعاني البلاد من انقسام سياسي وفوضى أمنية.
ويأتي قرار قوات الدعم السريع بالتوقيع على ميثاق مع الفصائل السياسية الموالية لها وإعلان حكومة في الأراضي التي تسيطر عليها، في الوقت الذي تسعى فيه إلى تعزيز قبضتها على دارفور ما سيؤدي فعليا إلى تقسيم السودان.

“نظام حكم جديد في السودان”
عبد العزيز الحلو، رئيس الحركة الشعبية شمال، وهي إحدى التشكيلات التي شاركت بالمؤتمر في كينيا وقاتلت الحكومات السودانية المتعاقبة من قواعدها في جبال النوبة، تعهد بالعمل على وضع نهاية للحروب في السودان، والانخراط مع الأطراف الداعية لبناء نظام حكم جديد في البلد.
وأكد الحلو في خطابه خلال فعاليات توقيع ميثاق تشكيل حكومة مدنية في السودان في العاصمة الكينية نيروبي الثلاثاء، أن “الحركة الشعبية شمال ستعمل مع الأطراف السودانية لوضع حلول جذرية لأزمة البلاد”، التي قال إن جلها يتمثل في “هيمنة المركز وتجاهل قضايا الهامش ومحاولة فرض دولة دينية في بلد متعدد الأعراق والثقافات”.
وأضاف الحلو أن الحرب كشفت عن جوهر الصراع في السودان، موضحا “السودان يعيش صراعا بين المركز والهامش، مركز استأثر بالسلطة والثروة والتفوق الاجتماعي، وهامش محروم من كل شيء”.
وقال الحلو “نحن بحاجة إلى دستور جديد وصياغة عقد اجتماعي جديد من شأنه أن يحل السؤال الأبدي حول كيفية حكم السودان”.
كما قدم متحدثون آخرون قوات الدعم السريع على أنها حركة مؤيدة للديمقراطية، وبُثت صور عدة خلال الاجتماع لزعيم المجموعة محمد حمدان دقلو من شاشة ضخمة وسط هتافات صاخبة.

“حكومة موازية ستؤدي للتقسيم”
صحيفة “نيويورك تايمز” اعتبرت في تقرير أن السودان بات على طريق التقسيم، حيث أن الجماعات الانفصالية التي شاركت في مؤتمر كينيا اقتربت الثلاثاء من الإعلان عن حكومة انفصالية.
وجاء في تقرير الصحيفة أن اجتماع كينيا جاء بمثابة “لحظة رمزية مذهلة” لقوات الدعم السريع، التي تعاني من ضربات مستمرة من الجيش السوداني ومن خسارات متتابعة لمواقعها في عدد من المحاور.
وعليه، تأمل الدعم السريع إنهاء سلسلة الهزائم وتعزيز مطالبها بالحكم، من خلال تشكيل حكومة تسيطر من خلالها على المساحات الشاسعة التي تسيطر عليها من السودان.
ومنذ نيسان/أبريل 2023، تسببت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع بمقتل عشرات الآلاف وتشريد أكثر من 12 مليون شخص، وبأكبر أزمة إنسانية في العالم.
وفيما يسيطر الجيش على شرق وشمال السودان، تسيطر قوات الدعم السريع على كل منطقة دارفور تقريبا ومساحات من الجنوب. وفي الأسابيع الأخيرة، قاد الجيش هجوما في وسط السودان واستعاد المدن الرئيسية وكل العاصمة الخرطوم تقريبا.

مونت كارلو

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • السودان.. هل تستطيع قوات الصياد تجاوز كردفان ودق أبواب دارفور ؟
  • لقاء عبد الرحيم دقلو هو اكبر دليل على هزيمة الدعم السريع
  • حكومة انفصال دارفور
  • قوى سياسية توجه دعوة الى الجيش السوداني والدعم السريع والمؤتمر الشعبي يوضح مشاركة علي الحاج في اجتماعات بنيروبي
  • عبد العزيز الحلو: جوهر الصراع في السودان صراع مركز وهامش
  • الدعم السريع ترقص في احتفال على الجماجم والأشلاء
  • الجيش السوداني يضيق الخناق على مقار الدعم السريع ويحكم سيطرته على كافوري في الخرطوم بحري
  • حكومة السودان تدخل تعديلات دستورية والدعم السريع يبحث تشكيل حكومة موازية
  • محمد ناجي الأصم: حكومة الدعم السريع القادمة بلا مشروع
  • هل تسعى الدعم السريع لتقسيم البلاد؟