الشيخ ياسر مدين يكتب هل تستقل السنة بالتشريع؟
تاريخ النشر: 25th, September 2024 GMT
أوحى الله تعالى بالسنة النبوية المطهرة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أوحى إليه بالقرآن الكريم، وقد بيَّنَ السادة العلماء أنَّ للسنة المطهرة مع القرآن الكريم ثلاث حالات: الحالة الأولى أن تدل على ما دلَّ عليه، وقد رُوى عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «ما تركتُ شيئاً مما أمرَكم اللهُ به إِلَّا وقد أمرتُكم به، ولا شيئاً مما نهاكم اللهُ عنه إلا وقد نهيتُكم عنه»، ومن أمثلة هذا القسم الأحاديثُ التى تفيد وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، كقوله صلى الله عليه وسلم: «بُنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت»، حيث دلَّت هذه الأحاديث على ما جاء به القرآن الكريم فى هذا الشأن، نحو قوله سبحانه: «وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ»، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»، وقوله عز وجل: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً».
والحالة الثانية أن تأتى السّنة المطهرة لتُبيّنَ القرآن الكريم، فمَثَلاً قد نزل القرآن الكريم بالأمر بوجود الصلاة والزكاة والحج، وجاءت السنة ببيان صور أداء هذه العبادات، قال الله تعالى: «فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً»، وجاءتْ السنةُ المطهرة مبينةً عددَ ما فُرض من الصلوات، ومواقيتها، وأركانها، وعدد ركعاتها، وطريقة أدائها.. وكذلك قال تعالى: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ»، وقد بيَّنت السنة مناسكَ الحج.
وقد قال الصحابى الجليل سيدنا عمرانُ بن حُصين رضى الله عنه، لرجلٍ يريد الاقتصارَ على القرآن الكريم وحده: أنتَ رجلٌ أحمقُ! أتجدُ الظهرَ فى كتاب الله أربعاً لا يُجهرُ فيه بالقراءة؟! ثم عدَّدَ عليه الصلاةَ والزكاةَ ونحو ذلك، ثم قال: أتجدُ هذا فى كتاب الله مُفسَّراً، إن كتاب الله أبهم هذا، وإنَّ السنة تُفسِّرُ هذا.والحالة الثالثة هى استقلال السنة بتشريع لم ينصَّ عليه القرآن، وقد بيَّن السادة العلماءُ أنَّ هذا ليس خاصّاً بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل غيرُه من المرسلين أُمروا بأوامر لم تتضمنْها الصُّحُف والكتب المنزلة عليهم، فوجودُ وحى سوى الكتاب المنزَّل مستقلٍّ بالتشريع واجب الاتباع لم يكن أمراً خاصّاً بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.وذكروا من أمثلة ذلك أن سيدَنا إبراهيم عليه السلام أُمِر بذبح ولده إسماعيل فى رؤيا صادقة وليس فيما نزَلَ عليه من صُحف، قال تعالى: «قَالَ يَا بُنىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى»، وقد بيَّن القرآن الكريم أن النبييْنِ الكريميْنِ إبراهيم وإسماعيل امتثلا لأمر الله تعالى فى غير الصُّحف المنزلة وأثنى عليهما فقال سبحانه: «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».
وها هو سيدنا موسى عليه السلام أرسله الله تعالى إلى فرعون ليُؤمنَ به وليُرسلَ بنى إسرائيل معَه، وهذا الأمر لم تنزل به التوراة؛ لأن التوراة نزلت بعد ذلك فى فترة التِّيه، قال تعالى: «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنْ بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ».
وقد قامت الحجة على فرعون وصار عاصياً حين لم يُطعْ سيدنا موسى فى أمرٍ لم تنزل به التوراة.وهذان المثالان من القرآن الكريم يدلانِ دلالة قاطعة على أنه قد يُوحَى للأنبياء عليهم السلام بأوامر ليست فى الكتب المنزلة عليهم يجب اتباعها.
ثم إذا عدنا إلى القرآن الكريم فسنجد أنه يشير إلى استقلال السنة بالتشريع فى غير آية، من هذا قوله تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، فكلمة (ما) فى هذه الآية عامَّة تشمل القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكلمة (الرسول) تشير فى وضوح إلى أنهما معاً وحى من الله تعالى، وقد روَى سيدُنا عبدالله بن مسعود أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعنَ الواشمات [والوشم غرس إبرة فى الجِلد حتى يسيلَ منه الدم ثم يُحشَى هذا الموضع بكُحل أو نحوه فيتلوّن هذا الموضع بلونٍ لا يزول] فبلغ ذلك امرأةً من بنى أسد تُسمَّى أمَّ يعقوب كانت على علم بكتاب الله تعالى فاستنكرت ذلك عليه، فقال لها: وما لى لا ألعن مَن لعَنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو فى كتاب الله، فقالت: لقد قرأتُ ما بينَ لَوْحَى المصحف فما وجدتُ فيه ما تقول! قال: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأتِ: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» قالت: بلى.
ويدل على هذا أيضاً ما جاء من آيات قرآنية فيها إشارة إلى طاعة مستقلة للرسول الكريم، كقوله سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» [النساء: 59]، فطاعة الله تعالى فيما نزل به القرآن، وتكرار الأمر (وأطيعوا) مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على طاعته فى ما سوى القرآن الكريم، وهو السنة المطهرة. وقد تكرّر هذا فى غير موضع من كتاب الله تعالى.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الصلاة الزكاة سیدنا رسول الله صلى الله علیه وسلم القرآن الکریم الله تعالى کتاب الله وقد بی
إقرأ أيضاً:
حكم قراءة القرآن الكريم وكتابته بغير العربية.. الإفتاء توضح
قالت دار الإفتاء المصرية أن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين المنزَّل على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلسان عربي مبين، الذي أُمر بتبليغه للعالمين؛ فقال عز شأنه: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90]، فرسالته صلى الله عليه وآله وسلم عامة لجميع الناس، وليست قاصرة على جنس دون جنس، ولا زمن دون آخر، وإنما هي ليوم القيامة.
حكم قراءة القرآن الكريم وكتابته بغير العربية
وتابعت الإفتاء عبر موقعها الرسمي في فتواها رقم 2348 لفضيلة الدكتور شوقي علام حول حكم قراءة القرآن الكريم وكتابته بغير العربية أن العمل على تبليغ القرآن الكريم وتعليمه لجميع المسلمين هو من المهمات في الدين، ولا شك أن ذلك يقتضي أحد أمرين: إما أن يعرف هؤلاء المسلمون اللغة العربية فلا إشكال، أو أنهم لا يعرفونها فيحتاجون حينئذٍ لمن ينقل لهم القرآن الكريم بلغتهم، ومن هنا فإن العلماء قد بحثوا حكم ترجمة القرآن الكريم وبيان جوازها من عدمه وانتهوا إلى فريقين:
الفريق الأول: المنع والتخوف من التحريف
يتمسك هذا الفريق بموقف صارم يرفض ترجمة القرآن الكريم إلى لغات أخرى. يعتقدون أن ترجمة القرآن هي أمر مستحيل؛ فحتى وإن كانت الترجمة دقيقة، فإنها لن تتمكن من نقل جمال وبلاغة القرآن الكريم. القرآن لا يُحاكى، ولا يُقارن به شيء، وهو معجز في أسلوبه، كما تحدى الله -سبحانه وتعالى- الإنس والجن أن يأتوا بمثله. لذلك، يرى هذا الفريق أن الترجمة قد تُفقد المسلمين الاتصال بالقرآن بلغته الأصلية، مما قد يؤدي إلى فهم مبتور أو حتى تحريف المعاني.
أحد المبررات البارزة لهذا الرأي هو أن الترجمة ليست مجرد نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي تفسير للمعنى بلغة أخرى. وبالتالي، قد يعتقد البعض أن الترجمة هي القرآن نفسه، وهو ما يؤدي إلى تحريف المعنى بشكل غير مقصود. لذلك، يُحذّر هذا الفريق من أن الترجمة قد تُساهم في تقليل اهتمام المسلمين بتعلم اللغة العربية وفهم القرآن مباشرةً منها.
الفريق الثاني: الجواز مع الضوابطفي المقابل، هناك فريق من العلماء يرون أن ترجمة القرآن الكريم جائزة ولكن ضمن شروط وضوابط. هؤلاء يميزون بين الترجمة والقراءة الحرفية، حيث يعتبرون أن الترجمة ليست بديلاً عن القرآن، بل هي محاولة لنقل المعاني. ومن هنا، يستندون إلى أنه لا حرج في ترجمة القرآن إلى لغات مختلفة طالما تم التأكيد على أن الترجمة ليست قرآناً بالمعنى الحرفي، بل هي تفسير له.
من الناحية العملية، يقترح هذا الفريق تشكيل لجان من علماء التفسير واللغة لوضع معايير دقيقة للترجمات بما يضمن الحفاظ على معاني القرآن. يُفترض أن تتم الترجمة بالتعاون مع مختصين من لغتين: العربية واللغة المستهدفة، لضمان دقة التفسير. ويؤكد هذا الفريق على ضرورة أن يكون النص المترجم مرفقاً مع النص العربي الأصلي، لتجنب اللبس ولتوضيح أنه ليس بديلاً عن النص القرآني، بل هو تفسير يمكن أن يساعد غير الناطقين بالعربية على فهم معاني القرآن.
التحديات العملية والتخوفاتورغم أن العديد من المجامع الإسلامية، مثل مجمع البحوث الإسلامية في مصر ومجالس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، يلتزمون بمنع كتابة القرآن بلغات أخرى، فإن البعض يعترف بضرورة ترجمة القرآن في حالات معينة، مثل الدعاية الإسلامية أو تعليم المسلمين الجدد.
يُحتمل أن تكون الحاجة إلى هذه الترجمة ملحة خاصة في ظل التقدم التكنولوجي ووسائل التواصل الحديثة التي تجعل الوصول إلى معلومات دينية بلغة المواطن أسهل وأكثر شمولًا.
ضوابط الترجمة: الحفاظ على قدسية النص القرآنيمن أبرز الآراء المؤيدة للترجمة هو وضع ضوابط صارمة لضمان عدم تحريف النصوص القرآنية. يشير هذا الرأي إلى ضرورة عدم نشر النصوص المترجمة بمعزل عن النص العربي، بل يجب دمجها بشكل متكامل بحيث يتم التأكيد على أنها مجرد تفسير، مع تقديم توضيحات حول تنوع القراءات القرآنية. كما ينبغي أن تكون الترجمة تحت إشراف علماء مختصين، مما يضمن تطابق الصوتيات مع اللغة العربية بأدق صورة ممكنة.
حفاظاً على قدسية القرآن وفهمه العميقيظل الجدال حول ترجمة القرآن الكريم قضية شائكة، بين الحفاظ على قدسية النص العربي وفهمه السليم، وبين تلبية حاجات المسلمين غير الناطقين بالعربية. وبينما تظل الترجمة وسيلة لتوصيل معاني القرآن، يبقى الالتزام بالضوابط العلمية أمرًا بالغ الأهمية لضمان عدم تحريف القرآن، وحفاظاً على مبدأ التفسير الصحيح للمفاهيم القرآنية.
إن هدف المسلمين يجب أن يكون تعزيز فهم القرآن في أوسع نطاق ممكن، مع احترام قدسية النص وحمايته من أي تحريف أو سوء فهم.