لجريدة عمان:
2025-10-27@23:39:27 GMT

أوهام الديمقراطية-1

تاريخ النشر: 24th, September 2024 GMT

ربما كان من الأليق أن أضع عنوانًا آخر لمقالي هذا هو «يوتوبيا الديمقراطية» باعتبار أن الديمقراطية تظل حلمًا طوباويًّا فـي هذا العالم. وربما يندهش القارئ من هذا القول ويراه حكمًا جائرًا غير مبرر؛ فهو حكم لا يبرره التاريخ ولا الواقع المعيش: فالتاريخ يشهد بأن الديمقراطية نظام سياسي عريق ليس وليد اليوم، بل يضرب بجذوره فـي عصر قدماء اليونان.

والتجربة تشهد بأن هناك نظمًا وممارسات ديمقراطية فـي عالمنا المعاصر، حتى إنه يمكن تصنيف الدول إلى دول تتبنى نظمًا ديمقراطية، وهي الدول التي نصفها بأنها الدول المتقدمة أو المتحضرة؛فـي مقابل الدول التي لا تتبنى نظمًا ديمقراطية، وهي الدول التي نصفها غالبًا بأنها دول شمولية أو استبدادية وقمعية. غير أن هذا الاعتراض على الحكم الذي قدمته باعتباره موضوعًا لمقالي، ينطوي على مغالطات وأخطاء عديدة باعتباره ينطوي على تعميمات، وهذا ما سوف أحاول الكشف عنه فـي هذا المقال. وأود بداية التأكيد على أن مقالي هذا لا يعني على الإطلاق معاداة الديمقراطية، بل هو يهتم فـي المقام الأول بإبداء بعض الملاحظات الجوهرية على الديمقراطية من حيث هي فكرة وممارسة فـي الوقت ذاته.

نشأت فكرة الديمقراطية باعتبارها نظامًا سياسيًّا فـي القرن السادس قبل الميلاد فـي اليونان، وتحديدًا فـي أثينا، مع نشأة ما يُعرَف «بدولة المدينة» city-state، حينما انتقل المجتمع من مجتمع قَبَلي إلى مجتمع يقوم على التجارة والملاحة والصناعة. وقد روَّج بعض السوفسطائيين لفكرة الديمقراطية التي تتمثل فـي تحقيق المساواة بين المواطنين والأخذ برأي الأغلبية فـي شؤون السياسة والحكم. ولكن أفلاطون- الأرستقراطي بحكم نشأته وتكوينه الفكري- ظل رافضًا لهذه الديمقراطية التي تقوم على الحكم الذي تقرره الأغلبية، والتي يمكن أن تنقلب إلى نوع من الديماجوجية أو الغوغائية، مثلما كان رافضًا أيضًا لحكم الطغاة؛ وهو موقف قد ترسخ لديه بعد أن رأى أن هذه الديمقراطية الغوغائية هي التي أفضت إلى إعدام الحكيم سقراط (بتهمة إفساد عقول الشباب!)، فهرب إلى ميجارا فـي حماية إقليدس؛ لأن أثينا لم تكن ترحب بأصدقاء سقراط ومحبيه. وموقف أفلاطون هذا هو ما جلب عليه نقد فلاسفة كبار باعتباره موقفًا معاديًا للديمقراطية ومؤيدًا للنظم الشمولية، ومن هؤلاء كارل بوبر فـي كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه». غير أن هذا النقد غير متعاطف مع موقف أفلاطون، ومن ثم لا يسبر غوره؛ إذ إن حقيقة موقف أفلاطون تقوم على رؤيته لمعنى العدالة فـي الدولة، فقد رأى أن الديمقراطية تتعارض مع حقيقة العدالة: فالعدالة ليست مفهومًا حسابيًّا يقوم على المساواة. نعم ينبغي أن يكون الأفراد متساوين أمام القانون، ولكنهم ليسوا- ولا ينبغي أن يكونوا- متساوين من حيث أوضاعهم ومراكزهم فـي الدولة؛ وبالتالي فإن العدالة تتحقق حينما تقوم كل طبقة أو فئة فـي المجتمع بالوظيفة المنوطة بها وفقًا لملكات ومواهب أفرادها: فالطبقة الحاكمة تقوم من الدولة مقام الرأس من الجسم؛ ولهذا فإن الحكام ليسوا كأي أفراد أخرى فـي الدولة، بمعنى أن دورهم مركزي، وبمعنى أنهم يجب أن يمتازوا بالعقل والحكمة. وطبقة الجند لها وظائف أخرى محددة، ويمتاز أفرادها بالشجاعة والقوة. كذلك فإن الطبقة الأدنى هي طبقة العمال والفلاحين ممن يمتازون بمواهب أخرى لا غنى عنها فـي الدولة. ولا مانع عند أفلاطون من أن ينتقل فرد من طبقة إلى أخرى أعلى إذا استطاع أن يمتلك المواهب المؤهِّلة للطبقة الأعلى، بل يمكن أن يهبط الفرد إلى طبقة أدنى، إذا تدنت مواهبه (وهذا ما يمكن أن نتعرف عليه فـي فلسفة أفلاطون من خلال الأسطورة الفينيقية التي يذكرها فـي كتاب الجمهورية، والتي لا يتسع المقام لذكرها فـي هذا الصدد). هذه هي قراءتي لجوهر نقد أفلاطون للديمقراطية، وهو نقد يمكن أن يستدعي هو ذاته نقدًا لأفلاطون من قبيل: النزعة الطبقية فـي فلسفته، والنزعة الاستعلائية لديه ولدى أرسطو على الشعوب الأخرى؛ ولكن هذه الانتقادات لفلسفة أفلاطون لا تنال من نقده للديمقراطية فـي حد ذاته، إذا استبعدنا التفاصيل العابرة المتعلقة بالسياق التاريخي والاجتماعي لفلسفته.

وعلى الرغم من نقد أفلاطون لمفهوم الديمقراطية، فقد تم استدعاء الديمقراطية فـي العصر الحديث باعتبارها النظام الأمثل للنظم السياسية، وراح بعض المفكرين المعاصرين يروجون لهذا النظام باعتباره معبرًا نموذج الغرب (خاصةً الغرب الأمريكي) باعتباره غاية ما وصل إليه الإنسان فـي سعيه نحو التحضر والتقدم؛ بل إن دولة إسرائيل التي يمكن تعريفها بأنها «ذيل الغرب فـي الشرق الأوسط» تعتبر نفسها الدولة الديمقراطية الوحيدة فـي الشرق الأوسط؛ وأنها لهذا السبب تعتبر الدولة الوحيدة المتقدمة فـي هذه المنطقة، وهذا ما يروِّج له أيضًا بقوة ساسة الغرب وأبواقه الإعلامية التي باتت الآن فاقدة للمصداقية بعد انكشاف الأكاذيب التي روجتها عن الحرب فـي غزة.

غير أن هذا الترويج لفكرة الديمقراطية وممارساتها فـي واقعنا الراهن يظل ترويجًا دعائيًّا وموجهًا أيديولوجيًّا من أجل تبرير النظام العالمي الراهن الذي يسعى الغرب إلى الهيمنة عليه حتى الآن. ولهذا فإن هذا الطرح لفكرة الديمقراطية وممارساتها الراهنة يستدعي عندنا تساؤلات عديدة تجعلنا نتشكك فـي صدقها. ويمكن صياغة أهم هذه التساؤلات على النحو التالي:

هل الدول المتقدمة هي الدول الديمقراطية؟!

وهل كل نظام لا ديمقراطي يعني أنه نظام استبدادي؟!

وهل كل نظام شمولي هو نظام استبدادي بالضرورة؟!

هذه تساؤلات جوهرية لا يتسع المقام للإجابة عنها هنا، ولهذا سوف نحاول الإجابة عنها فـي مقالٍ تالٍ.

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فـی الدولة یمکن أن نظام ا

إقرأ أيضاً:

القيادة التي لا تسمع.. لا تتعلّم!

 

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

 

حين تصمت المؤسسة عن نفسها. لا أحد يسمع أخطاءها وهي تتكرر.

في بعض المؤسسات، لا يُسمع الصوت إلا من الأعلى، وحين يتحدث الموظفون لا أحد يُصغي. يصبح الصمت هناك فضيلةً مفروضة، والكلمة مغامرةً غير مأمونة العواقب. ويُطلب من الموظف ألّا يُبدي رأيًا، بل أن يصمت بأناقة؛ فالرأي يُفسَّر تمرّدًا، والنقد يُعامَل كجريمةٍ إدارية، والكلمة تُقابَل بالحذر وكأنها تهديدٌ للنظام.

وهكذا يتحوّل الصمت تدريجيًا إلى سياسةٍ غير مُعلنة تُزيَّن بشعار «الانضباط»، لكنها تخفي وراءها خوفًا من المساءلة، وضياعًا للأفكار التي كان يمكن أن تُنقذ كثيرًا من القرارات.

وحين يُصبح الصمت أسلوبًا في الإدارة، لا يعود الهدوء دليلًا على الاستقرار، بل علامةً على أن المؤسسة فقدت صوتها الداخلي. ذاك الصوت الذي يُصحّح، ويقترح، ويجرؤ على القول قبل أن يتأخر الوقت.

الصمت في المؤسسات لا ينشأ صدفة، بل يُزرع بالتدريج. يبدأ حين يُهمَّش أول صوتٍ نقدي، ويستمر حين تُغلق الأبواب في وجه من يقترح أو يعترض، ثم يتحوّل مع الوقت إلى سلوكٍ جماعيٍّ يفضّل فيه الناس السلامة على المشاركة. عندها تختفي الحوارات، وتتحوّل الاجتماعات إلى مراسم شكلية تُتلى فيها القرارات بدل أن تُناقش.

إنها بيئة لا تُعاقب الخطأ بقدر ما تُعاقب الجرأة على كشفه، ولا تكافئ الصدق بقدر ما تُكافئ الصمت؛ وهكذا يتكوّن جدارٌ من الخوف، لا تراه في اللوائح، لكنه حاضرٌ في كل التفاصيل، يكمّم الأفواه قبل أن تنطق، ويُطفئ الفكرة قبل أن تولد. وحين يسود الصمت، يخسر الجميع.

فالقرارات تُبنى على نصف الحقيقة، لأن النصف الآخر حُبس في صدور من خافوا الحديث. تتكرّر الأخطاء نفسها، لأن من رآها أول مرة لم يتجرّأ على قولها، ويبهت الإبداع حين تموت الأفكار قبل أن تُولد.

وفي بيئةٍ يخاف فيها الناس من الكلام، لا يتعلّم أحدٌ من الآخر، بل يتقنون فنَّ الصمت أكثر من فنِّ العمل. فكم من فكرةٍ وُلدت في عقل موظفٍ بسيط، لكنها ماتت قبل أن تُقال، لأن الباب كان مغلقًا… والقلب كذلك.

وحين يصبح الخوف من الخطأ أكبر من الرغبة في الصواب، تتحوّل المؤسسات إلى مساحاتٍ هادئةٍ من الخارج لكنها قلقةٌ من الداخل؛ تسير على استقرارٍ ظاهريٍّ يخفي تحته فوضى من التردّد، ويتحوّل فيها الإنجاز إلى واجبٍ روتينيٍّ لا إلى قيمةٍ حقيقية. ويبهت الولاءُ شيئًا فشيئًا، لأن الخوف لا يبني انتماءً، والصمت لا يصنع ولاءً.

فالمؤسسة التي تُطفئ صوت موظفيها تُطفئ نبضها الحيّ معهم، وتتحوّل مع الوقت إلى كيانٍ إداريٍّ بلا روحٍ ولا ذاكرة، تُكرّر أخطاءها بثقةٍ مؤلمة.

كسر الصمت لا يحتاج إلى قراراتٍ عليا، بقدر ما يحتاج إلى قادةٍ يُنصتون. فالقائد الذي يفتح أذنيه قبل فمه يُعيد الحياة إلى مؤسسته من جديد. يبدأ التغيير حين يشعر الموظف أنّ رأيه لن يُحسب عليه، وأن خطأه فرصةٌ للتعلّم لا مناسبةٌ للعقاب. عندها تنكسر الحواجز، ويتحوّل الخوف إلى حوار، وتستعيد الاجتماعات معناها الحقيقي: مساحةً للتفكير لا استعراضًا للنتائج.

فالثقة لا تُبنى باللوائح، بل بالممارسات اليومية؛ بابتسامةٍ تُرحّب بالرأي المختلف، وبكلمةِ شكرٍ تُقال لمن تجرّأ على لفت النظر قبل أن تقع المشكلة.

القيادة التي تحتضن النقد تُنقذ نفسها من الأزمات قبل أن تبدأها؛ فالصراحة المبكرة علاج، بينما الصمت الطويل نزيفٌ مؤجَّل. والقائد الواعي لا يخشى الملاحظات، بل يراها مرآةً تُصحّح الرؤية قبل أن تتّسع الأخطاء. فالإصغاء ليس ضعفًا، بل ذروة القوة حين يُمارس بثقةٍ وعدالة.

وفي نهاية المطاف، لا يُخيف المؤسساتَ النقدُ بقدر ما يُضعفها الصمت. فالقائد الذي لا يسمع، يحرم نفسه من فرصة التعلّم قبل أن يُفاجئه الخطأ، ويقود مؤسسته إلى العزلة وهي تظنّ أنها تمضي بثقةٍ في طريقٍ خاطئ.

أمّا القيادة الواعية، فهي التي تُدرك أن أعظم القرارات تبدأ بكلمةٍ صادقةٍ قالها موظفٌ لم يُقاطعوه. فالحوار ليس رفاهيةً إدارية، بل خطَّ الدفاع الأول عن جودة القرار واستدامة الثقة. فالقائد الذي يُنصت لا يسمع الكلمات فحسب، بل يسمع نبض مؤسسته في أصوات أهلها.

وحين تُصغي القيادة بصدق، تُنقذ نفسها من التكرار، وتكتب بآذانها مستقبلًا أذكى وأصدق. فالقيادة التي تسمع… تتعلّم، والتي تتعلّم… تبقى.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • خبير: إشادة اليونسكو بتطور التعليم في مصر تتويج لجهود الدولة
  • وفد “الديمقراطية”إلى القاهرة يلتقي الأسرى المحررين الفلسطينيين المبعدين
  • شيخ الأزهر: لا سلام فى الشرق الأوسط بدون إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة
  • أوهام الـ70 مقعدًا في البرلمان العراقي
  • الدول التي لديها أكبر عدد من السفارات حول العالم (إنفوغراف)
  • الجامعة العربية تُحذر من خطورة الميليشيات داخل الدولة السودانية
  • القيادة التي لا تسمع.. لا تتعلّم!
  • رئيس الوزراء: بدون الاستثمارات التي تقوم بها الدولة لما تحققت معدلات النمو الاقتصادي الإيجابية
  • العزة التي أضاعها المطبعون
  • “الديمقراطية”: المواقف “الأميركية الإسرائيلية” ضد الأونروا تمديد لإبادة غزة بأشكال أخرى