ربما كان من الأليق أن أضع عنوانًا آخر لمقالي هذا هو «يوتوبيا الديمقراطية» باعتبار أن الديمقراطية تظل حلمًا طوباويًّا فـي هذا العالم. وربما يندهش القارئ من هذا القول ويراه حكمًا جائرًا غير مبرر؛ فهو حكم لا يبرره التاريخ ولا الواقع المعيش: فالتاريخ يشهد بأن الديمقراطية نظام سياسي عريق ليس وليد اليوم، بل يضرب بجذوره فـي عصر قدماء اليونان.
نشأت فكرة الديمقراطية باعتبارها نظامًا سياسيًّا فـي القرن السادس قبل الميلاد فـي اليونان، وتحديدًا فـي أثينا، مع نشأة ما يُعرَف «بدولة المدينة» city-state، حينما انتقل المجتمع من مجتمع قَبَلي إلى مجتمع يقوم على التجارة والملاحة والصناعة. وقد روَّج بعض السوفسطائيين لفكرة الديمقراطية التي تتمثل فـي تحقيق المساواة بين المواطنين والأخذ برأي الأغلبية فـي شؤون السياسة والحكم. ولكن أفلاطون- الأرستقراطي بحكم نشأته وتكوينه الفكري- ظل رافضًا لهذه الديمقراطية التي تقوم على الحكم الذي تقرره الأغلبية، والتي يمكن أن تنقلب إلى نوع من الديماجوجية أو الغوغائية، مثلما كان رافضًا أيضًا لحكم الطغاة؛ وهو موقف قد ترسخ لديه بعد أن رأى أن هذه الديمقراطية الغوغائية هي التي أفضت إلى إعدام الحكيم سقراط (بتهمة إفساد عقول الشباب!)، فهرب إلى ميجارا فـي حماية إقليدس؛ لأن أثينا لم تكن ترحب بأصدقاء سقراط ومحبيه. وموقف أفلاطون هذا هو ما جلب عليه نقد فلاسفة كبار باعتباره موقفًا معاديًا للديمقراطية ومؤيدًا للنظم الشمولية، ومن هؤلاء كارل بوبر فـي كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه». غير أن هذا النقد غير متعاطف مع موقف أفلاطون، ومن ثم لا يسبر غوره؛ إذ إن حقيقة موقف أفلاطون تقوم على رؤيته لمعنى العدالة فـي الدولة، فقد رأى أن الديمقراطية تتعارض مع حقيقة العدالة: فالعدالة ليست مفهومًا حسابيًّا يقوم على المساواة. نعم ينبغي أن يكون الأفراد متساوين أمام القانون، ولكنهم ليسوا- ولا ينبغي أن يكونوا- متساوين من حيث أوضاعهم ومراكزهم فـي الدولة؛ وبالتالي فإن العدالة تتحقق حينما تقوم كل طبقة أو فئة فـي المجتمع بالوظيفة المنوطة بها وفقًا لملكات ومواهب أفرادها: فالطبقة الحاكمة تقوم من الدولة مقام الرأس من الجسم؛ ولهذا فإن الحكام ليسوا كأي أفراد أخرى فـي الدولة، بمعنى أن دورهم مركزي، وبمعنى أنهم يجب أن يمتازوا بالعقل والحكمة. وطبقة الجند لها وظائف أخرى محددة، ويمتاز أفرادها بالشجاعة والقوة. كذلك فإن الطبقة الأدنى هي طبقة العمال والفلاحين ممن يمتازون بمواهب أخرى لا غنى عنها فـي الدولة. ولا مانع عند أفلاطون من أن ينتقل فرد من طبقة إلى أخرى أعلى إذا استطاع أن يمتلك المواهب المؤهِّلة للطبقة الأعلى، بل يمكن أن يهبط الفرد إلى طبقة أدنى، إذا تدنت مواهبه (وهذا ما يمكن أن نتعرف عليه فـي فلسفة أفلاطون من خلال الأسطورة الفينيقية التي يذكرها فـي كتاب الجمهورية، والتي لا يتسع المقام لذكرها فـي هذا الصدد). هذه هي قراءتي لجوهر نقد أفلاطون للديمقراطية، وهو نقد يمكن أن يستدعي هو ذاته نقدًا لأفلاطون من قبيل: النزعة الطبقية فـي فلسفته، والنزعة الاستعلائية لديه ولدى أرسطو على الشعوب الأخرى؛ ولكن هذه الانتقادات لفلسفة أفلاطون لا تنال من نقده للديمقراطية فـي حد ذاته، إذا استبعدنا التفاصيل العابرة المتعلقة بالسياق التاريخي والاجتماعي لفلسفته.
وعلى الرغم من نقد أفلاطون لمفهوم الديمقراطية، فقد تم استدعاء الديمقراطية فـي العصر الحديث باعتبارها النظام الأمثل للنظم السياسية، وراح بعض المفكرين المعاصرين يروجون لهذا النظام باعتباره معبرًا نموذج الغرب (خاصةً الغرب الأمريكي) باعتباره غاية ما وصل إليه الإنسان فـي سعيه نحو التحضر والتقدم؛ بل إن دولة إسرائيل التي يمكن تعريفها بأنها «ذيل الغرب فـي الشرق الأوسط» تعتبر نفسها الدولة الديمقراطية الوحيدة فـي الشرق الأوسط؛ وأنها لهذا السبب تعتبر الدولة الوحيدة المتقدمة فـي هذه المنطقة، وهذا ما يروِّج له أيضًا بقوة ساسة الغرب وأبواقه الإعلامية التي باتت الآن فاقدة للمصداقية بعد انكشاف الأكاذيب التي روجتها عن الحرب فـي غزة.
غير أن هذا الترويج لفكرة الديمقراطية وممارساتها فـي واقعنا الراهن يظل ترويجًا دعائيًّا وموجهًا أيديولوجيًّا من أجل تبرير النظام العالمي الراهن الذي يسعى الغرب إلى الهيمنة عليه حتى الآن. ولهذا فإن هذا الطرح لفكرة الديمقراطية وممارساتها الراهنة يستدعي عندنا تساؤلات عديدة تجعلنا نتشكك فـي صدقها. ويمكن صياغة أهم هذه التساؤلات على النحو التالي:
هل الدول المتقدمة هي الدول الديمقراطية؟!
وهل كل نظام لا ديمقراطي يعني أنه نظام استبدادي؟!
وهل كل نظام شمولي هو نظام استبدادي بالضرورة؟!
هذه تساؤلات جوهرية لا يتسع المقام للإجابة عنها هنا، ولهذا سوف نحاول الإجابة عنها فـي مقالٍ تالٍ.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فـی الدولة یمکن أن نظام ا
إقرأ أيضاً:
رئيس حزب الاتحاد: انتخابات الشيوخ خطوة لترسيخ الديمقراطية.. وحزب الاتحاد جاهز للمنافسة
أكد المستشار رضا صقر، رئيس حزب الاتحاد، أن الحزب يرحب بإعلان الهيئة الوطنية للانتخابات للجدول الزمني الخاص بانتخابات مجلس الشيوخ، مؤكدًا أن هذه الخطوة تمثل انطلاقة مهمة نحو تعزيز المشاركة السياسية وترسيخ قواعد الديمقراطية، كما أنها تعكس التزام الدولة بخارطة الطريق الدستورية وتنظيم الاستحقاقات في مواعيدها.
وقال "صقر"، في تصريحات صحفية اليوم، أن الانتخابات المقبلة تمثل فرصة حقيقية لتجديد دماء المجلس بدفع كوادر سياسية جديدة تملك رؤى عصرية قادرة على الإسهام في دعم السياسات العامة والتشريعات، مشددًا على أن حزب الاتحاد يرى في مجلس الشيوخ أحد ركائز البناء المؤسسي التي تضمن التوازن في صناعة القرار الوطني، وتعزيز الحوار بين كافة مكونات المجتمع.
وأكد المستشار رضا صقر أن الحزب أنهى استعداداته الفنية والتنظيمية لخوض الانتخابات المرتقبة، من خلال الدفع بكوادر سياسية تمتلك الكفاءة والخبرة، وتتمتع بقبول جماهيري واسع في مختلف المحافظات.
ولفت رئيس الاتحاد إلى أن الحزب حرص خلال الفترة الماضية على إعداد مرشحيه عبر برامج تدريبية وتأهيلية، تضمن تمثيلًا مشرفًا يعكس تطلعات المواطنين ويدافع عن مصالحهم تحت قبة المجلس.