ذاكرة الأوطان.. إرث الأجيال
تاريخ النشر: 24th, September 2024 GMT
مدرين المكتومية
برهنت أحداث التاريخ ومصائر الأمم، أنَّ الذاكرة الجمعية للشعوب والحضارات تمثل المرتكز الأول والأساسي للأجيال التالية في مسيرة البناء والتطوير، فكما يُقال "من ليس له ماضٍ لا حاضر له ولا مستقبل"؛ وهي عبارة ألمعية تعكس يقينًا بديهيًا لدى العقلاء، وتؤكد أنَّ أي مجتمع لا يمكن له أن ينسلخ من ماضيه وأن يتخلى عن إرثه الحضاري؛ بل يتكئ عليهما من أجل أن يواصل مسيرته الحضارية في هذا العالم.
والإرث الحضاري والرصيد التاريخي لأي مجتمع هو بمثابة نقطة الانطلاق في رحلة بناء الأوطان وصون مقدراتها وبناء مستقبلها؛ بل إنه مصدر إلهام يضيء الآفاق أمام الأجيال، واحدًا تلو الآخر، في عملية متواصلة لا تتوقف مهما مرت السنون. وذا الإرث التاريخي يوجه بوصلة أداء الشعوب، ضابطًا لمساراتهم ومعززًا فيهم روح الولاء والانتماء بمسؤولية.
وخلال الأسبوع الجاري، انطلقت في مسقط أعمال المؤتمر الدولي للتأريخ الشفوي "المفهوم والتجربة عربيًا"، والذي عُقد على مدى يومين، واستضافته ونظمته بجدارة منقطعة النظير هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، بالتعاون مع مؤسسة "وثيقة وطن" بالجمهورية العربية السورية الشقيقة؛ بمشاركة مراكز التأريخ الشفوي في مختلف دول العالم، وهدف المؤتمر إلى مناقشة أحداث الماضي ومجريات الحاضر وتطلعات المُستقبل.
أثناء حضوري لأعمال هذا المؤتمر، لفت انتباهي التنوع الثري للمشاركين من خلفيات ثقافية متعددة، وعدد ومضامين أوراق العمل والجلسات النقاشية التي أثرت أعمال المؤتمر الدولي، فتحوّل هذا المحفل إلى منارة عالمية تضيء مسارات المُستقبل، المنطلقة من الماضي عابرةً للحاضر، في ترسيخ لحقيقة تاريخية تُبرهن على الدور الرائد الذي مارسته سلطنة عُمان خلال الحقب التاريخية المختلفة، عززت فيه من أواصر التعاون مع مختلف شعوب العالم، شرقًا وغربًا، ونجحت في أن تكون حلقة وصل محورية بين مختلف الأقطار والشعوب.
ولعل أبرز ما أستطيع أن أسلط عليه الضوء، ذلك التوصيف الدقيق الذي استخدمه سعادة الدكتور حمد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، عندما وصف التأريخ الشفوي بأنه "مصدر الذاكرة الذي يجب أن يحظى بمنزلة خاصة، لما يلعبه من دور محوري في حفظ ذاكرة الوطن والدفاع عن حقوقه".
هذا الربط العبقري بين "التأريخ الشفوي" وذاكرة الوطن، يؤكد العلاقة التشابكية بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويُشير بوضوح إلى أهمية العناية الشديدة بكل ما تحتفظ به ذاكرتنا الجمعية والفردية من أحداث ومجريات تاريخية، ربما يرى البعض أنها أحداث عابرة، لكنها في حقيقتها، تمثل حلقة من حلقات سلسال طويل يمتد في جذور هذه الأرض الطيبة، ولن يتوقف ما دامت الذاكرة الحيَّة للشعوب لا تغفُل ولا تنام.
مسألة تأريخ الأحداث وتدوينها وحفظها وتدبر تفاصيلها ودراستها وتحليلها، باتت اليوم مسؤولية جماعية مشتركة، خاصة في ظل ما تتعرض له الحقائق التاريخية من تشويه مُتعمّد مع سبق الإصرار والترصد، بهدف تزوير التاريخ، ومحو بعض الأحداث من السجلات، أو حتى ادعاء البعض امتلاكه لتاريخ مُعين أو نسبة أحداث تاريخية لهم، دون سند علمي وتاريخي قوي، وبلا برهان معرفي يُثبت صحة الادعاء؛ بل على النقيض تمامًا، فإنَّ الكثير- إن لم يكن الجميع- ممن يدّعون نسبة أحداث تاريخية لهم لا يقدمون أي دلائل علمية وتاريخية صادقة، وإنما يعتمدون على المزاعم والأكاذيب والوثائق غير التاريخية.
والأجيال الحالية وتلك التي ستأتي، بحاجة ماسة للتعرف على تاريخها، ولذلك تولي هيئة الوثائق والمحفوظات عناية خاصة بأهمية الاعتناء بالتأريخ الشفوي، وكم نشعر بسعادة غامرة عندما نرى الخبراء والمتخصصين في الهيئة يجوبون أنحاء ولايات عُماننا الحبيبة، ويجلسون مع رجال ونساء احتفظوا بذاكرة الوطن في قلوبهم قبل عقولهم، فيبدأون في سرد مختلف الأحداث، ويروون القصص التاريخية التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، وهو ما يُمثل رصيدًا معرفيًا وتاريخيًا غنيًا.
وأخيرًا.. إنَّ العمل على حفظ التاريخ من أسمى وأنبل الأعمال، ولا شك أنَّ الأدوار الوطنية التي تؤديها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، تؤتي ثمارها في صورة رؤية تاريخية ناصعة، تروي سيرة وطن شامخ كشموخ جباله الشاهقة، وتنساب فيه الأحداث كما تجري المياه في الأفلاج، فتروي ظمأ الباحثين عن الحقائق التاريخية.. فهنيئًا لكل من أسهم بهكذا دور، وتحية تقدير وامتنان إلى جميع العاملين في هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية وعلى رأسهم سعادة الدكتور رئيس الهيئة، الذي يقود مهمة وطنية سيُسطِّر تفاصيلها التاريخ وتوثقها الأحداث.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
قراءة أولية في أفق السلام القادم..
المتتبع للمشهد السياسي وتطورات مستجدات الأحداث المتسارعة على الصعيد العربي عليه أن يتوقف ليقرأ الأحداث قراءة متأنية فاحصة لما بين السطور بعيدًا عن انسياق وسائل الإعلام وراء ما يروج له الإعلام الصهيوني والإعلام المتصهين
وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطه مهمة في معركة الوعي للربط بين ماضي الأحداث وحاضرها لاستشراف المستقبل بوعي مستنير من خلال وضع النقاط على الحروف ليتضح المعنى، ومن ثم البناء على مستجدات الأحداث وتداعياتها اليوم في المنطقة، وما يجري في سوريا وما يعد من سيناريوهات يتم الترويج لها بوعي أو بدون..
وهنا يحضرني ما كنت قد تطرقت إليه في رسالتي التي تقدمت بها لنيل درجة الماجستير من كلية الإعلام جامعة صنعاء في العام 2022 م تحت عنوان اتجاهات النخبة اليمنية نحو الأداء المهني والأخلاقي للصحافة الرقمية، وبالتحديد ما يتعلق “بظهور العصر الرقمي وما أحدثه من تغيرات في الواقع السياسي العربي بعد 2011م، جراء استخدام التقنية الإعلامية كونها سلاح جديد بيد الدول الكبرى أطلق عليه (القوة الناعمة)، ليحل محل السلاح التقليدي بهدف السيطرة على دول العالم الثالث؛ إذ لم تعد الجيوش وحدها تقرر مصير الحروب ورجحان كافة الأطراف المتقاتلة، إنما بالمعلومات التي يملكها كل طرف حول الطرف الآخر ومدى سرعة انتشارها وتأثيرها”.
في ظل عدم إدراك خطورة الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا المتقدمة في الاتصال والإعلام، وهوما أشار إليه التقرير رقم (1352) الصادر في 1964/4/27م، الذي تمت مناقشته في دورة الكونجرس الأمريكي الـ (88) وأكد في مضمونه على “تحقيق مكاسب، وأهداف سياسية خارجية، من خلال التعامل مع الشعوب الأجنبية بدلا عن الحكومات باستخدام أدوات وتقنيات الاتصال الحديثة، مع إمكانية القيام بإعلامهم والتأثير في اتجاهاتهم، بل وجرفهم وجبرهم على سلوك معين، يؤدي في النهاية إلى ممارسة ضغوط حاسمة على حكوماتها”، وهذا ما ظهر في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية من خلال الفيس بوك وتويتر الذي لعب دوراً مؤثراً فيما يسمى بثورات الربيع العربي؛ تمثل في قدرة وسائل التواصل الرقمية على تشكيل الاتجاهات، وتوفير عوامل الاستقطاب للتأثير على المواطن، وفي ساحات مفتوحة للحوار، وعملت على زعزعة أمن واستقرار عدد من الدول العربية، حيث تصدرت مواقع التواصل “فيس بوك” ذلك المشهد، وقد كشف تقرير حول شبكات الهاتف المحمول عن زيادة كبيرة في استخدام الفضاء الرقمي بعد ثورات الربيع العربي في مصر، حيث لعب فيس بوك وتويتر دوراً فاعلاً في تحريك الشارع ما أدى إلى تخلي عدد من رؤساء الدول العربية عن السلطة في كل من تونس ومصر ، واليوم في سوريا ..
لقد تحول الفيس بوك وتويتر من الشؤون الاجتماعية إلى الاهتمامات بالشؤون السياسية للدول، وأصبحت الصفحات السياسية تفوق الصفحات الرياضية والفنية فيما لم تدرك الحكومات مستوى وحجم المسؤوليات لرعاية الفئات العمرية الحرجة من الشباب؛ فتم استغلال تقنيات التكنولوجيا والبطالة؛ ليجد الشباب فيه متنفساً للتعبير عن أراءهم السياسية التي لا يستطيعون الجهر بها في العالم الواقعي الذي يعيشونه غير مدركين لأبعاد ومرامي تلك المخططات..
وما يحدث اليوم من انجراف مجاميع كبيرة من الناشطين وراء تلك المخططات في الترويج لها والانسياق دون وعي، ومنها ما يحدث في سوريا من تأمر واضح لحرف المسار عن مساندة ودعم غزة والتخفيف عن تركيز الرأي العام العالمي الذي كان قد بدأ يطالب بمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة وعلى رأسهم رئيس وزراء الكيان الصهيوني المجرم نتنياهو ووزير دفاعه المقال غالانت. وعلى وقع الكارثة الناتجة عن ارتكاب العدو الإسرائيلي للمجازر وجرائم حرب الإبادة الجماعية ضد أبناء الشعب الفلسطينيين في غزة. ومن ثم لفت الأنظار إلى ما يحدث في سوريا لإشغال الرأي العام بما حدث في سوريا وبالتحديد في العام 2011م وفعلاً انصرف الرأي العام وراء ذلك فيما كان عليه أن يتابع المشهد في غزة حيث قتل كيان الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 140الف من أبناء الشعب الفلسطيني في أكثر من 400يوم منذ السابع من أكتوبر 2023م
وأصاب أكثر من 110الف اخرجن جلّهم من الأطفال والنساء.. والمؤلم الذي يندى له جبين الإنسانية أن يمنع كيان الاحتلال فرق الإسعاف من الوصول إلى الجثث المتناثرة في شوارع وأزقة غزة وتركها للكلاب تنهشها في وحشية بشعة لم تشهدها البشرية من قبل..
فأيهما أولى في معركة الوعي اليوم تستحق الاهتمام وتوجيه الأنظار إليها في هذا الظرف العصيب..
هل شغل الناس بمعارك هامشية في سوريا؟ وإفساح المجال لكيان العدو الإسرائيلي المدعوم من دول الاستكبار العالمي أمريكا وبريطاني للاستمرار في ارتكاب المزيد من المجاز وجرائم حرب الإبادة الجماعية في غزة..