100 عام على الجدار الحديدي لجابوتنسكي وشارون
تاريخ النشر: 24th, September 2024 GMT
سالم الكثيري
في تعليقه في مُقابلة تلفزيونية على أحداث "طوفان الأقصى"، أشار الدكتور فوزي البدوي أستاذ الدراسات اليهودية ومقارنة الأديان في الجامعة التونسية- والذي يُعد من أهم المتخصصين المعاصرين في هذا الشأن- إلى شخصية يهودية مُهمة قد لا تكون معروفة كثيرًا لدى الأوساط العامة، وإن كانت معروفة لدى المختصين في الصراع العربي الإسرائيلي دون شك.
هذه الشخصية هي فلاديمير جابوتنسكي، ذي الأصول الأوكرانية، الذي يُعد من أكثر الصهاينة تشددًا وعنصرية، ومن دعاة القضاء على الشعب الفلسطيني وإبادته من الوجود تمامًا؛ لأنها الطريقة الوحيدة المُمكنة لاستيطان اليهود في الأراضي الفلسطينية وفق رؤيته، وهو مُحق في هذه الرؤية، وإن كانت متعصبة. فقد كتب جابوتينسكي مقالًا عام 1923 يعترف فيه صراحة بأنَّ فلسطين ليست أرضًا لليهود وأنَّه لو كان فلسطينيًا لقام بمثل ما يقوم به الفلسطينيون في الدفاع عن أرضهم؛ لأنه لا يوجد شعب على مدار التاريخ سلَّم أرضه هكذا لمحتل دون دفاع أو مُقاومة. ومن هنا أتت دعوته لإقامة جدار حديدي وهمي يقوم على فكرة قتل رغبة المقاومة لدى أصحاب الأرض، قبل قتل المقاومين أنفسهم؛ وذلك من خلال التنكيل بالشعب وإرهابه وهزيمته نفسيًا، وبهذا يكون جابوتنسكي أول من دعا إلى إقامة الجدار العازل كفكرة من أفكار الحرب النفسية لتكون بمثابة الخط السياسي لعنف الدولة الذي مارسته إسرائيل لاحقًا في كل حروبها مع الفلسطينيين والعرب؛ لتُعمل فيهم آلة القتل والفتك بهم منذ نكبة 1948 إلى يومنا هذا، رئيسًا بعد رئيس دون هوادة وصولًا إلى نتنياهو الذي يعتبر وريث جابوتنسكي الشرعي وفقًا للدكتور فوزي البدوي.
بعد دعوة جابوتنسكي بسبعين عامًا وفي بداية الألفية، أصبحت الفكرة حقيقة على أرض الواقع وماثلة أمام العالم أجمع على يد العنصري الآخر المجرم آريل شارون؛ حيث طوَّق الضفة الغربية وعزل القدس عن محيطها بجدار إسمنتي سميك يصل ارتفاعه إلى 9 أمتار ويزيد طوله على 700 كيلومترًا وبتكلفة تصل إلى حوالي 3 مليارات دولار؛ ليفوق بذلك "جدار برلين" الشهير في الطول والارتفاع والتكلفة أيضا، رغم كل الدعوات الأممية والقانونية الرافضة لإقامته؛ كونه يمثل نظامًا للفصل العنصري (Apartheid) بكل بجاحة. المفارقة التي حصلت أنه بعد 100 عام من دعوة جابوتنسكي المقيتة و20 عامًا من مشروع شارون الباهظ الثمن وفي الوقت الذي اعتقدت فيه إسرائيل أنها قد قتلت الرغبة في المقاومة لدى السواد الأعظم من الفلسطينيين من خلال سياستيْ الأرض المحروقة وتكسير العظام، واطمأنت إلى كبحها لدى القلة القليلة، بحسب توهُّمِها، وفي الوقت الذي كان من المفترض أن يكون الجدار العازل أكثر متانة وإسرائيل أكثر تماسكًا، جاءت معركة "طوفان الأقصى" على حين غِرة لتقلب كل الموازين رأساً على عقب، بشهادة الإسرائيليين والأمريكان أنفسهم، قبل غيرهم من المُحللين في الشرق والغرب.
استطاعت حماس- وهي حركة مُقاومة وليست جيشًا نظاميًا- اختراق هذا الجدار الذي ظهر على حقيقته كجدار مهترٍ؛ لتؤكد للعالم أن مقاومة المحتل فكرة لا يُمكن أن تموت لدى صاحب الأرض، وأن التحرر من الاحتلال حق لا يسقط بالتقادم، وأن "الجيش الذي لا يُقهر" ليس إلّا أكذوبة ودعاية صهونية على غرار دعاية جوبلز النازية. ولأوَّل مرة يتم مثل هذا الهجوم المُباغت من قبل الفلسطينيين وفق خطة سرية مُحكمة أبهرت كل المخططين الإستراتيجيين والعسكريين على مستوى العالم ولأول مرة يتم أسر 250 أسيرًا إسرائيليًا دفعة واحدة، وقتل نحو 1200 شخص في يوم واحد. ووفقًا للدكتور مصطفى البرغوثي الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية فإن ما خسرته إسرائيل في حرب غزة الحالية أضعاف أضعاف ما خسرته في حرب الأيام الستة، والتي هزمت فيها 3 جيوش عريية واحتلت القدس الشريف والجولان وسيناء وجنوب لبنان بمساحة تقدر بثلاثة أضعاف مساحة مصر، كما إنه ولأول مرة يتم فيها التخفيض الائتماني لإسرائيل ويُسجَّل فيها 10 آلاف جريح وقتيل. ولولا الجسر الجوي الأمريكي لتزويد إسرائيل بالسلاح والمال لما صمدت كل هذه المدة، فقد منحتها منذ بداية هذه الحرب حتى الآن 45 مليار دولار؛ أي بمعنى أنها تدفع على كل شهيد فلسطيني مليون دولار. وبلغة الأرقام كذلك يذكر الدكتور طارق السويدان في محاضرة له عن تداعيات 7 أكتوبر أن الإحصائيات تشير إلى أن إسرائيل تلقت خلال العشر سنوات الماضية مساعدات أمريكية بمبلغ 320 مليار دولار، بينما تقدر خسائرها المتوقعة من هذه الحرب للعشر سنوات المقبلة بـ 400 مليار دولار وهو رقم مهول جدًا.
هذا بطبيعة الحال لا ينفي بأي حال من الأحوال ما يتعرض له الشعب العربي المسلم في فلسطين عامة وفي غزة خصوصًا من مذابح وقتل وتدمير منذ ما يُقارب العام؛ كأول إبادة جماعية تُعرض على الهواء مباشرة ويتفرج عليها العالم بدمٍ بارد، وهو منزوع الضمير والإنسانية. إلّا أن حركة التاريخ وإن كانت بطيئة وغير ملحوظة كما يؤكد طارق السويدان وغيره من المتخصصين، فإن صاحب الحق لا بُد وأن يستعيد حقه إن لم يكن اليوم فغدًا.
ومعركة طوفان الأقصى تمثل بداية الانطلاقة لاستعادة هذا الحق الذي ما يزال بحاجة إلى مزيد من الوقت والتضحية والثبات وتهيئة أسباب النصر، وهنا نُشير إلى ما قد ذكره الدكتور عبدالوهاب المسيري سابقًا في مقابلة له على قناة الجزيرة، حول هشاشة هذا الكيان من الداخل حيث يذكر أن: "الجنرال بوف قائد الحامية الفرنسية في حرب 1956 أو ما يعرف بالعدوان الثلاثي على مصر، جاء بدعوة من الصحفي المصري المشهور محمد حسنين هيكل ليُلقي محاضرة في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بعد حرب أكتوبر سنة 1973؛ حيث قال في معرض حديثه إنه بينما كنتُ أحلق بالطائرة مع إسحاق رابين وأُهنئه بالنصر العظيم في حرب 1967، جاء رد رابين صادمًا لي؛ حيث فوجئت به يقول وهو في لحظة النصر، ولكن ماذا سيبقى بعد هذا؟"؛ أي أنه يدرك تمامًا أن إسرائيل زائلة حتمًا، مثلما هي في كل الأدبيات الإسرائيلية. وتحدث يعقوب تالمون عن عُقم الانتصار، فيما أشار أحد المفكرين إلى أنَّ إسرائيل ستركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى نهايتها المحتومة؛ فالإسرائليون يدرسون مآلات الحروب الصليبية والجيوب الاستطانية تاريخيًا ويدركون أنَّ دولتهم زائلة لا محالة مثلها.
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: فی حرب
إقرأ أيضاً:
حلم بوتين الذي تحول إلى كابوس
مع سقوط بشار الأسد، انقلب المدوِّنون العسكريون القوميون الروس على الكرملين، فاشتعلت قناة (تو ميجورز) على تلجرام في وجه أكثر من مليون مشترك قائلة: «عشر سنوات من الحضور، وجنود روس موتى، ومليارات مهدرة من الروبلات وآلاف الأطنان من الذخيرة، لا بد من تعويضها بطريقة ما». ولم يتحرج البعض من انتقاد فلاديمير بوتين رأسا: «يبدو أن مغامرة سوريا، التي بدأها بوتين شخصيا، تشرف على النهاية. والنهاية مخزية، شأن جميع مساعي الكرملين’الجيوسياسية’ الاستراتيجية الأخرى». ولم تكن تلك حالات فردية، فقد رصدت شركة «فيلتر لابس» لتحليل البيانات التي أتعاون معها انخفاضا حادا على مواقع التواصل الاجتماعي في المشاعر المتعلقة بسوريا مع سقوط الأسد.
يتناقض ذلك تناقضا صارخا مع زعم بوتين السخيف في مؤتمره الصحفي السنوي الذي عقد الأسبوع الماضي بأن روسيا لم تتكبد أي هزيمة في سوريا. وخلافا لمواقع التواصل الاجتماعي، حاولت وسائل الإعلام التقليدية أن تسير على خطى الكرملين، لكن حتى في هذا كان ثمة انشقاقات. فقد جاء في مقال رأي نشرته صحيفة كومرسانت واسعة الانتشار لعقيد سابق مقرب من القيادة العسكرية أن «بوسعك أن تمارس الخداع قليلا على الساحة الدولية، على أن تحرص لئلا ينطلي خداعك عليك أنت»، ثم إن الكاتب ضرب المثال بسوريا على أن «النصر في عالمنا اليوم لا يمكن تحقيقه إلا في حرب سريعة خاطفة. فمن يحقق نصرا فعليا في غضون أيام أو أسابيع ولكنه يعجز عن تعزيز نجاحه تعزيزا عسكريا وسياسيا، فسوف ينتهي به الأمر مهزوما مهما فعل». وقال لي فاسيلي جاتوف محلل الإعلام في جامعة كاليفورنيا الجنوبية إنه يظن أن تلك رسالة موجهة من هيئة الأركان العامة إلى الكرملين: كونوا واقعيين بشأن ما يمكننا تحقيقه في أوكرانيا أيضا.
ليس سقوط الأسد لطمة لمصالح روسيا في الشرق الأوسط وحسب، ولكنه لطمة لجوهر قوة بوتين التي طالما قامت على إدارة التصورات. فقد شرح لي ذات يوم جليب بافلوفسكي، البوق الإعلامي السابق لبوتين، كيف تعلم القادة الروس، عندما ضعف الكرملين على المستوى المحلي في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أن يسيطروا على التليفزيون لخلق عظمة مصطنعة. لم يكن الكرملين قادرا في تلك المرحلة على السيطرة على حكام الأقاليم، ولكنه أعطى إحساسا بتحكم الرئيس في كل شيء من خلال وجوده الطاغي في وسائل الإعلام. ومنذ ذلك الحين، انتقل بوتين بإدارة التصورات إلى الساحة الدولية، محاولا أن ينسج قصة مفادها أنه يقود جيلا جديدا من الأنظمة الاستبدادية المقدر لها أن ترث الأرض. وفجأة تبدو هذه الصورة مهتزة. فالآن هو الوقت المناسب لفرض المزيد من الضغوط قبل أن يتمكن من إصلاح أوضاعه وعرض فيلمه مرة أخرى عن القوة العظمى.
بداية من جورجيا، حيث اتخذ المحتجون موقفا شجاعا ضد قرار الحكومة الموالية لروسيا بوقف التكامل مع الاتحاد الأوروبي، والأمر في جورجيا يتعلق بابتلاعها في مجال موسكو الاستعماري الجديد، فالهيمنة الروسية المتزايدة تسمح لموسكو بفرض قبضتها الخانقة على خطوط أنابيب نقل الغاز إلى أوروبا والتلاعب بالوصول إلى آسيا الوسطى. والهدف الذي يسعى إليه المتظاهرون هو حشد عدد كاف من الناس في النظام للتخلي عن الحزب الحاكم وحاكمهم الفعلي أي رجل الأعمال بيدزينا إيفانشفيلي، وقد بدأت المظاهرات تؤتي ثمارها، إذ انشق بعض الدبلوماسيين والمسؤولين، وبوسع الغرب أن يوضح أن القادة الجورجيين منبوذون من خلال فرض عقوبات على الساسة والشركات ومسؤولي الأمن المتورطين في حملات القمع.
وفي الأسبوع الماضي، سارت حكومة المملكة المتحدة على الطريق الصحيح بفرض تجميد الأصول وحظر السفر على 5 مسؤولين. فلا بد من إظهار أن القيادة الموالية لروسيا ضعيفة لكي يسارع من يلونها في السلطة إلى الفرار من السفينة بأعداد كافية. وقد فشلت مساعي الكرملين في استخدام الفساد والدعاية لعرقلة رحلة مولدوفا نحو الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الأخير. ولذلك يستحق الجورجيون دعم تطلعاتهم الأوروبية أيضا.
في الوقت نفسه، في أعالي البحار، اتخذت أوروبا أخيرا إجراءات ضد الأسطول الروسي الخفي الذي ينقل النفط عبر العالم ويبيعه بأسعار أعلى من الحد الذي حددته مجموعة الدول السبع. فسوف يتم الآن إيقاف السفن والصعود إليها إذا لم يكن لديها التأمين الصحيح. ويذهب إيدي فيشمان من جامعة كولومبيا إلى أن هذه هي اللحظة المناسبة لشل عائدات النفط الحيوية للكرملين من خلال فرض عقوبات ثانوية على الكيانات التي تشتري النفط بسعر أعلى من المحدد. وهذا سوف يخيف التجار الهنود والإماراتيين الذين يواصلون التعامل مع روسيا، وبالتالي يزيد الضغوط على الاقتصاد الروسي الذي تشكو قياداته بالفعل من عدم استدامة النظام. وبرغم مزاعم الكرملين بأن كل شيء في الاقتصاد على ما يرام، فالروس لا يصدقون هذا، ويتذمرون على الإنترنت من أن التضخم يجعل رواتبهم تبدو عديمة القيمة.
وبرغم إصرار الكرملين على أن روسيا والصين يمثلان تحالفا أقيم في جنة اقتصادية، فإن الواقع أكثر هشاشة. إذ تقول الشركات الروسية إن البنوك الصينية لن تعمل معها الآن بعد أن أدرجت الولايات المتحدة المؤسسات الروسية على القائمة السوداء. وبدلا من ذلك، فإنهم يخشون من أن الصينيين يعرضون عليهم طرقا «مريبة للغاية» لنقل الأموال ــ ولا يجدون خيارا سوى المشاركة في اللعبة.
سوف يكون الكرملين أشد وعيا بهذه الشكاوى في مختلف أنحاء المجتمع، من المدونين العسكريين إلى رجال الأعمال. وبرغم أنه لا توجد أي بوادر على انتفاضات ديمقراطية، وأن بوتين لا يخشى الانتخابات، لكنه يقلق عندما لا يتصرف الناس وفق إملاءاته عليهم، وكثيرا ما يعيد الرئيس الروسي حساباته عندما يرى أنه لا يستطيع السيطرة على التصورات والسلوكيات، ولذلك تخلى عن جهود التعبئة بعد أن أدت محاولاته الأخيرة للتعبئة إلى فرار ما يصل إلى مليون شاب روسي من البلد.
ومع زيادة الغرب نقاط الضغط على روسيا، فإن الهدف من ذلك لا يتمثل في تغيير سحري للنظام. بل إن الهدف هو إشعار القيادة بعدم اليقين إلى الحد الذي يجعلها تعيد التفكير فيما يمكنها الإفلات به. ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن تكون الضغوط على بوتين كثيفة وسريعة، فتأتي الضربة تلو الأخرى في تتابع غير متوقع، بما يفضح قصص النفوذ الدولي التي ألفها. وتتخذ أوكرانيا إجراءات مباشرة: بهجمات طائرات مسيرة على مواقع الإنتاج العسكري في عمق روسيا والاغتيال المشهود لجنرال روسي في قلب موسكو. لكن حلفاءها الديمقراطيين يمكن أن يفعلوا الكثير من خلال إعادة تعلم فن الحرب الاقتصادية والسياسية.
لقد كان نهج جو بايدن المعيب هو الانتظار دائما إلى ما بعد الأزمة الروسية، ثم السماح لبوتين بالتعافي وإعادة تجميع صفوفه. فهل يمكن أن يجرب دونالد ترامب شيئا أكثر ديناميكية؟ أم أنه سيصدق تهديدات بوتين أكثر مما صدقها بايدن؟ فتكون المفارقة إذن هي أن الولايات المتحدة تصدق أسطورة بوتين عن منعته أكثر مما يصدقها العديد من الروس. ذلك أن أهم إدارة تصورات يكتنزها فلاديمير بوتين هي التي تستهدف البيت الأبيض نفسه.