ربما لم يكن لجيلي الحظ نفسه، من التطلع إلى بيروت، لم نعرف منها غير حياتها الليلية التي نسمع عنها، وفنانيها الذين تعلقنا بهم منذ طفولتنا المبكرة، الغالبية منا حفظوا أغنية لبنانية قبل أن يعرفوا ما هي الموسيقى. مع مرور الوقت تتجلى بيروت فـي وجدان كل منا، وتُشرق حتى وهي مكلومة.
أتذكر المرات التي هرعتُ فـيها لأقرأ عن الحداثة فـي الشعر العربي، والمغامرات التي خاضها الشعراء من أجلها.
كتبت نوف السعيدي فـي مجموعتها القصصية الأولى «حكايات الفراغ والضجر»، التي حصلت على جائزة الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء عام 2016، عن رحلتنا الأولى إلى بيروت فـي العام نفسه، عندما كان علينا أن نقتصد كثيرًا من أجل رحلة نحلم بها، إذ لم نكن نملك المال، كنا نريد حصتنا من بيروت فهي حقنا جميعًا؛ لكن تلك الرحلة مزقتنا، مزقنا حال المدينة التي شُغلنا بها، ومع ذلك بيروت تحتفظ بسحرها الأخَّاذ مهما كانت الظروف.
يكتب الكاتب اللبناني هلال شومان فـي رواياته -التي قرأتها كلها- مثل، «ليمبو بيروت» و«كان غدًا»، عن هذه النظرة الرومانسية المبالغ بها لبيروت، عن السطح الذي نشاهده من المدينة، بينما يغلي كل ما فـيها تحت هذا السطح. «نستطيع نحن الزائرات لبيروت أن نتغنى بها كما لو أنها دمية، جماد، أو صورة ذهنية فحسب، لكن هل يمكننا فعل العكس؟
تعلقتُ بالأدب اللبناني أكثر من غيره من آداب العالم العربي، يحدث هذا عادة مع الأدب المصري، لكن فـي حالتي اكتشفت الأدب المصري متأخرا، قرأتُ العديد من الكتب من هناك، وأغرمت برواية جبور الدويهي «شريد المنازل»، حيث كان لاسم صبي القدرة على أن يتسبب فـي مقتله؛ الشاب المسلم الذي نشأ مع عائلة مسيحية، مع أي طرف عليه أن يقاتل فـي وقت الحرب؟ قرأت «أحلم يا سيدي» لهدى بركات، واختبرت الحُب فـيها مثل إبر تسحبها على طول الجلد، تخزك وتحدثك عن السحر فـي الحُب الذي تعرفه ولا تتحدث عنه. قرأت يوسف حبش الأشقر، الذي لا أستطيع بعد الحديث عنه. أما إلياس خوري، فقد تبعته كالمريدة منذ قرأت له روايته «الوجوه البيضاء»، التي أتذكر منها الآن عمال النظافة الذين يعرفون المدينة أكثر من أي أحد آخر.
كان لي علاقة أخرى ستتشكل مع مرور الوقت ببيروت، فالمرة الثالثة التي زرتها كانت فـي سبتمبر 2023، كنتُ قد قرأتُ الكثير من الأعمال لربيع جابر ورينيه الحايك، قرأت لربيع ثلاثيته «بيروت مدينة العالم»، التي سحرتني بتعددية هذه المدينة منذ التاريخ، وحكايات اللجوء إليها، وفرص أن تتغير فـيها حياة الهاربين والذين لم يكن لهم ملاذٌ آمن آخر، تعرفت على طوائفها وحروبها التي خاضتها، وعن كل الذين احتلوها واستعمروها، وعما كابدوه فـي مدينة محاربة منذ الأزل، كما قرأت له رواية «رالف رزق الله فـي المرأة»، الكاتب الذي انتحر من على صخرة فـي ساحل بيروت. كانت رزان عز الدين وليلى السيد حسن، وهما كاتبتان فـي عمري نفسه من لبنان وزميلتان لي فـي ورشة كتابة، قد عزمتا على تعريفـي بالمدينة، حتى وإن اضطرتا لأخذي إلى أطلالها، حيث ينام المتسولون الآن، كنا قد عبرنا بجانب صخرة الروشة عندما قالتا لي: «أمل، هل قرأتِ رالف فـي المرآة لربيع جابر؟ من هنا انتحر!»، بيروت تضع نقاط ارتكازها بآدابها وفنونها مجددًا، كنتُ محظوظة لأنني قرأتُ الرواية فعلًا، قلتُ لاهثة: «نعم، فعلت! ما الذي حدث بالضبط؟».
عبرنا معًا إلى مقاهٍ قديمة فـي المدينة، قالتا لي: «هنا كان يجتمع الشيوعيون، وما زال هذا المكان يحمل كل تلك النستالجيا». قلتُ لهما: «عليّ أن أكتب عن بيروت، هل تعرفا أن كاتبًا مصريًا معاصرًا كتب عن رحلته إلى هنا كتابًا بعنوان بيروت شي محل؟ وهو مصري يدعى يوسف رخا». قلت لهما: «أعرف مجلة رحلة وقرأت معظم أعدادها». كانت ليلى، التي تعمل فـيها، مندهشة، «كيف تعرفـين كل هذا عن بيروت وعن أدبنا ومجلاتنا بينما نكاد لا نعرف الكثير عن بلدك؟»، حان دوري حينها لأتحدث عن عُمان التي أهوى، وعن الطريقة المثالية لمعرفتها.
فـي هذه الرحلة عشتُ أجمل اللحظات، تسكعت فـي بيروت، وعندما دخلتُ إلى مكتبة برزخ، فوجئتُ بكتب قديمة يصعب الحصول عليها. افترشتُ الأرض بجانب قسم الشعر، فقال لي موظف المكتبة: «هل تحبين الشعر لهذه الدرجة؟ من تفضلين؟» وعندما تحدثنا عن تفضيلاتي قال لي: «تستحقين الدخول إلى المخزن إذًا»، أدخلني إلى تلك الغرفة المغبرة وغير المرتبة، لكنها كانت الغرفة الأجمل على الإطلاق، وقال لي: إن كثيرًا من النسخ هنا لا يمكن إخراجها من المكتبة لأنها النسخ الوحيدة التي بقيت من هذه الكتب. لكن إن كانت هناك نسخة إضافـية من أي كتاب أرغب فـيه، يمكنني الحصول عليه.
وعندما عرف أنني من عُمان، التقط أحد الجالسين فـي المقهى التابع للمكتبة الكلمة وهرع إليّ قائلًا إنه من عُمان أيضًا، كان يتحدث بلهجة لبنانية ممزوجة بالعُمانية، رجل كبير فـي السن يلوذ ببيروت منذ عقود واتخذها مدينة تخصه.
حضرتُ فـي هذه الرحلة حفلًا فـي مترو المدينة، قبو صغير يلتقي فـيه الشباب، كان «الفرعي»، الرابر الأردني الفلسطيني، يغني فـي ذلك المساء، وكلما التفتُ وجدتُ شخصًا يعمل فـي مجلة «ميجافون»، أو الفتاة التي تدون منذ سنوات عن النسوية التقاطعية، كنتُ لا أفوت الخروج إلى سلالم القبو، وهي مكان التدخين رغم أنني لا أدخن، لأسمع الناس هناك وأتعرف عليهم أكثر. بيروت، مار مخايل، والحمراء، والجميزة، والروشة، بيروت الغنية جدًا رغم جراحها.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الصايغ: مواجهة إسرائيل لا تكون في بيروت وجبل لبنان
علّق عضو كتلة الكتائب اللبنانية النائب سليم الصايغ على كلمة الأمين العام ل"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم عبر قناة "الحدث"، قائلا:" اليوم نرى مشهدية بعيدة كل البعد من معركة تحرير لبنان، فما سبّب باحتلال بعض الأراضي اللبنانية هي حرب الإسناد التي أطلقها حزب الله لدعم غزة وبعد سنة هاجم الجيش الإسرائيلي لبنان ودمّر ما دمّر واحتل ما احتل، ونتج عن ذلك وقف اطلاق النار المعروف والذي فاوض عليه وفيه أو عبره حزب الله والذي هو وثيقة استسلام، بحيث أن الحزب اعترف بفك البنية التحتية العسكرية وضمنا التحول إلى حزب سياسي".
ولفت إلى أنه "علينا أن نسمع ما يقوله حزب الله منذ مدة طويلة ونستنتج العكس تمامًا على الأرض"، مشيرًا إلى أنهم "يتقنون الدعاية الحربية وغيرها إنما اليوم نحن أمام مشهدية تريد أن تنكر ما حصل واقعًا على الأرض".
أضاف: "أهالينا لهم الحق بالعودة الآمنة إلى قراهم لكن لا يمكن أن يستعملهم الحزب أكياس رمل ليحتمي وراءهم". وقال: "حزب الله تحطّم في معركته ضد إسرائيل في حرب الإسناد، واندثرت قواه العسكرية ويريد إعادة بناء قواته معنويًا أقله لربما يستطيع أن يستعيد بعض الوهج ويبرّر الاحتفاظ بسلاحه في شمال الليطاني، ونحن على قاب قوسين من تأليف حكومة لا تعطي الحزب ما اعتاد عليه من مغانم وهو يسعى للإنجازات الوهمية على الأرض ليرفع سعره في المفاوضات"، معتبرًا أن هذه اللعبة باتت مكشوفة".
ورأى أن "حزب الله يريد أن يقبض على القرار المالي للدولة اللبنانية فهناك 3 أو 4 مواقع مالية في الدولة، ديوان المحاسبة، المدعي العام المالي ووزير المالية وهو الذي يراقب عمل بقية الوزراء ويقرر أن يصرف لهم الاعتمادات، وبهذه الطريقة يسعى الحزب إلى السيطرة على مفاصل بقية الوزارات وهذا ما حصل في السابق وليس تكهنًا فهي هي التجربة في آخر 3 حكومات"، مضيفا: "من هنا يسعى الى النفاذ عبر القرار المالي ليعطل أكثر وأن يكون في المعادلة اللبنانية وكأنه لا يزال يتمتع بكامل قوته العسكرية والأمنية على الأرض وهذا ما يرفضه اللبنانيون بعد المآسي التي عانينا منها". وقال: "على الحزب أن يتوجه للإسرائيلي الذي حاربه لا إلى أخيه في الوطن المفترض أن يكون شريكهم وأخاهم في الوطن الذي احتضنهم".
ورأى الصايغ أن "حزب الله لا يعرف أن يحفظ جميلًا للناس الذين احتضنوه"، مشيرًا إلى ان"ما قام به أمس من استباحة لشوارع طويلة عريضة في وسط العاصمة بيروت وعمليات ترهيب وكما حصل الليلة في جبل لبنان في منطقة الجديدة أكثر من 200 دراجة وإطلاق النار في الهواء"، سائلًا: "على من هذه العراضات؟ على شريككم في الوطن الذي احتضنكم عندما كان الإسرائيلي يهجّر أبناءكم من الجنوب ويستهدف مراكزكم ويدمّر الضاحية الجنوبية فهل هكذا تردون المعروف؟".
وأكد " ان لا حاضنة شعبية أبدًا للحزب، فقد أمضينا الليل نقوم بالاتصالات مع أبنائنا في المناطق التي تدخلها الدراجات النارية لكي لا يأتوا بردة فعل، لأننا لا نريد أن ننجرّ إلى مواجهة أهلية مع هذا السلاح غير الشرعي ونترك للجيش اللبناني أن يفعل ما يجب ان يفعله"، معتبرًا أن "حزب الله يريد أن يضرب هيبة الجيش اللبناني والقوى الأمنية وهيبة رئاسة الجمهورية، فالشيخ نعيم قاسم يقول غير ما يُضمر فهو يقول إنه يعوّل على رئيس الجمهورية الذي كان حتى الأمس القريب قائدًا للجيش ولكن في الوقت نفسه حصل أمس اعتداء على الجيش اللبناني من قبل جماعة حزب الله واليوم هذه المشاكل الأمنية في جبل لبنان ووسط بيروت هي ضربة موجّهة إلى العهد الذي يرأسه العماد جوزاف عون".
وطمأن الصايغ حزب الله بأننا "لن نلعب لعبته مهما كلّف الأمر ولن ننجرّ إلى منطق الدويلة والممارسات الإرهابية التي مارسها ضد أهالي بيروت وجبل لبنان، نحن نواجه بمنطق الدولة والقانون والمعايير والجيش عمد إلى توقيف كثيرين من المرتكبين والقوى الأمنية في صدد ملاحقة والقبض على المرتكبين الذين أطلقوا النار ترهيبًا على الناس وهذا رهاننا، وهو السلطة الشرعية اللبنانية". وختم: "يريدون مواجهة إسرائيل فهي لا تواجَه في بيروت ولا في جبل لبنان، هم لا يستطيعون أن يعوّضوا عن خسارتهم المدوية بانتصارات على أبناء وطنهم في الداخل".