انشغل العقل النهضوي كثيرا بقضية التقنية، وثار نقاش كبير بين جيل الإصلاحيين الأوائل حول ضرورتها ودورها في التقدم، إذ تباعدت وجهات النظر حول مبدأ حيادها، فكان عدد من الإصلاحيين، يميل إلى أنها صنعت لخدمة المستعمر، وأن استيرادها وتوطينها، يقدم خدمة استخباراتية جليلة إذ يساعد على انكشاف المسلمين ومعرفة أحوالهم، والاطلاع على أسرارهم، فكتبت كتابات كثيرة في التحذير من أخطار المذياع وآلات التصوير والتلفون والتلغراف، وغيرها من المنتجات التقنية التي أنتجها الغرب، وساهمت في تقدمه والرفع من مؤشرات تنميته الاجتماعية.



وإذا كان بعض الدارسين للحالة الإصلاحية المغربية مال في سياق مقارن إلى التمييز بين الفقهاء الجامدين والفقهاء المتنورين، مستعينين في ذلك بفتاوى بعض الفقهاء الإصلاحيين بخصوص التقنيات الحديثة، مثل فتوى محمد ابن الحسن الحجوي وابن المواز، مما نقله باستفاضة محمد المنوني في "مظاهر يقظة المغرب الحديث"، فإن مثل هذا النقاش، الذي كان في الواقع صدى لجدل الموقف بين تقدم الغرب وطابعه الاستعماري، فإن الوقائع على الأرض، أي واقع تسارع دخول التقنيات إلى بلدان المسلمين، ثم  أثر الكتابات التنويرية التي رصدت من واقع الرحلة والمعاينة  تطور النموذج الغربي،  حكمت على المواقف المعترضة  على التقنية بعدم مواكبة العصر، فقد لعبت كتب الرحلات إلى دول الغرب (رحلة الطهطاوي، وفارس الشدياق، والصفار، ومحمد بن الحسن الحجوي، ومحمد كرد علي وغيرهم)، دورا أساسيا في الكشف عن أسباب التقدم الغرب، وأهمية التقنية في تطوير حياة الأوربيين وتيسير مصالحهم.

يلاحظ محمد عابد الجابري في قراءته لخطاب الإصلاحيين الأوائل توتر الموقف من الغرب في رؤيتهم، بين من ينحاز لجوانب التقدم والتمدن، وبالأخص ما يتعلق بتطور التقنية، ومن يغلب الطابع الاستعماري الوحشي في ممارسة الغرب وسياسته، ويفسر بذلك جزءا من الخلاف في نظرة هؤلاء إلى التقنيات المستوردة من الغرب، ويقرأ عبد الله العروي في "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية" مواقف الفقيه في ضوء تسارع قوانين الحداثة وهجومها على كل البيئات، وفقدان الفقيه لأرضه، أي جمهوره، بسبب الجاذبية التي تمثلها التقنية، وعدم قدرة الجمهور على مقاومتها بمتابعة رأي الفقيه الممانع لها.

توطين التقنية: الإمكان والأفق

بعيد الاستقلال الذي نالته الدول العربية والإسلامية، لم يعد سؤال المشروعية مطروحا في التعامل مع قضية التقنية التي أنتجها الغرب، فقد تم تجاوز هذا السؤال، بسؤال آخر، لم يغادر الخلفية الثقافية التي حكمت النقاش السابق، فقد كان السؤال المحير وقتها حول إمكان توطين التقنية، وهل بالإمكان أن نتصور أن الغرب، الذي يتقدم بفضل التقنية، يمكن أن يسمح للتقنية أن تتوطن في العالم العربي والإسلامي بالنحو الذي يصير به هذا العالم المغاير للخرب أو الخصم له متقدما بنفس الوتيرة التي يتقدم بها الغرب.

قبل أيام، وقعت كارثة كبيرة في سياق العداون الإسرائيلي على لبنان، إذ أقدم الجيش الإسرائيلي على تفجير أجهزة البيجر ثم أجهزة "التولكي" "والكي" اللاسلكية التي تستخدم للتواصل سواء في المجال العسكري أو المدني، مفجرة بذلك نقاشا عموميا دوليا رفع سقف التخوف من التقنية عاليا، وأدخلت الشك لدى الجميع في سلامة وأمن الأجهزة التي يستعملها المواطنون في حياتهم الخاصة أو تستعملها مصالح الدولة في المجال المدني.في المرحلة الأولى، لم يكن طموح النخب يتعدى توطين التقنية التي يستفاد منها في المجال المدني فقط، لكن مع ذلك، لم تكن هذا المسار بدون كلفة قيمية وثقافية وأيضا اقتصادية وسياسية.

في المستوى الأول، يمكن أن نقرأ في المراحل الأولى الآثار التي أحدثها التلفزيون والانفتاح على القنوات الفضائية، فضلا عن الانترنت، على المسألة القيمية والأخلاقية، إذ بدأت النخب تطرح سؤال السيادة الثقافية، قبل أن ينتهي نقاشها إلى طرح سؤال الهوية، وهل هي موحدة أم متعددة، حتى صار الانفتاح وتعدد الروافد في الهوية هو النتيجة التي تحكم واقع كل المجتمعات العربية والإسلامية، بعد أن كان مشروع النخب بعد الاستقلال هو قضية الوحدة في بعدها الثقافي والقيمي والسياسي والقومي.  ثم وجدت النخب نفسها بفضل تواتر استنبات التقنية، أمام واقع آخر، فقدت فيه أدوراها كنخب موجهة، لتظهر بذلك نخب أخرى مؤثرة، لا تحمل من مقومات النخب السابقة، أي شيء ثقافي أو قيمي، بل أضحت الغريزة والتفاهة المقوم الأساسي لاستقطاب الجمهور والتأثير فيه.

في المستوى الثاني، أي الاقتصادي، لم تكن قضية التقنية تمر من غير شروط، فقضية التوطين كانت في الجوهر، تشترط وجود نخب قادرة على تشغيل هذه التقنية والتعامل معها، مما استدعى معه، ربط نخب بمصدر التقنية (البلد الأوربي) علميا وتربويا وثقافيا (الدراسة بالخارج)، وهو ما أنتج واقع تبعية الاقتصاد للبلد المصدر للتقنية، بالشكل الذي صار معه من المتعذر تبني فكرة تعدد المراكز وتعددها بما يسمح بهامش المناورة في إرساء سيادية الدولة واستقلال قرارها الاقتصادي.

في المستوى السياسي، كان السؤال الأبرز الذي طرحته النخب وقتها هو هل يسمح الغرب للدول العربية بامتلاك تقنية تدفعها نحو الإقلاع؟ وهل من الممكن تبني نظرة تجزيئية إلى التنمية، أي الحصول على تقنية دون أخرى، بما يجعل سقف التقدم في العالم العربي متحكما فيه؟

في الواقع، تعددت الإجابات النظرية بخصوص هذا السؤال، لكن واقع الحال، أثبت أن الحصول على التقنية كان مشروطا بتبعية سياسية، تجعل من حصول حالة التقدم بالشكل الذي كانت تطرح في الأدبيات النهضوية (التقدم المشروع باستقلالية القرار) أمرا متعذرا، إذ أكدت وقائع تطور المجتمعات العربية الإسلامية، في الكثير من التجارب، أن الطلب على التقنية فاق كل التوقعات، فأصبحت ظاهرة "تكديس المنتجات" كما أشار إليها مالك بن نبي، فاقدة لكل معنى بنائي نهضوي، وفي المقابل، سعت تجارب أخرى للتحايل على الغرب وإيجاد مساحات مناورة، تستمد منها ما يمكن استمداده من التقنية المحظورة، فانتهى المطاف بهذه الدول إلى أن عاشت تجارب الحصار بفضل رؤيتها التحررية (مصر، سوريا، العراق، إيران).

تقييم المرحلة، بمختلف مساراتها في التعاطي مع التقنية، وسبل استجلابها، كشف معضلة جديدة، شغلت بال النخب لما عاينت سياسة الغرب في توطين التقنية في الدول الثالثية، إذ أدركت أنه من الصعب النظر إلى موقع التقنية من التقدم من غير استحضار البعد الثقافي والقيمي في الموضوع، ومن غير حضور رؤية سياسية تضع التقنية ضمن مشروع وطني مستقل.

التقنية والمعطيات الشخصية

مع ظهور المخترعات الذكية، وبشكل خاص، الهواتف والآلات التقنية المنزلية الذكية، ومواقع التواصل الاجتماعي، طرح سؤال جديد، يتعلق المعطيات الشخصية، وكتبت كتب كثيرة تحذر من أدوار هذه المخترعات في جمع المعطيات الشخصية، وتوزيعها عبر الخوادم المركزية (BIG DATTA) لأهداف استخباراتية بالنسبة للشخصيات العمومية، او أغراض تجارية، بالنشبة للشركات التي تستثمر هذه المعطيات في الإعلانات الإشهارية. 

فكتب كل من مارك دوغان، وكريستوف لابي كتابا بعنوان: "الإنسان العاري: الديكتاتورية الخفية الرقمي" يحذران من الآثار التي خلفتها الثورة الرقمية، لاسيما ما يتعلق بالحياة الخاصة للإنسان والحميمية والهوية واللغة. وبدلا من التقليل من دور "الافتراضي" في حياة الناس، أصبح هذا العالم الافتراضي هو العالم الحقيقي، بينما أصبحت مساحات العالم الحقيقي محتلة ومهيمنة عليها من قبل مختلف الآليات التي أنتجتها الثورة الرقمية. ففي الوقت الذي كان يظن فيه الناس أن الثورة الرقمية جاءت لتعظم سلة المكاسب بفضل تقريب المعلومة وسرعة الوصول إليها فضلا عن معالجتها وتداولها، وتقريب المساحات وتسريع وتيرة التواصل ونوعيته، انقلبت الأمور رأسا على عقب، فأصبحت هذه المساحة الإيجابية لا تستثمر إلا بنحو محدود، بالقياس إلى التهديد الذي أصبحت يشكله العالم الرقمي للحميمية والحياة الخاصة والحرية واستقلال الشخصية وحسها النقدي، فحسب هذا الكتاب، أضحى الإنسان، أمام هيمنة مخرجات الثورة الرقمية عبدا أمام حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات التي تتحكم في الصناعة الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية.

كما كتب روبير ريديكير يحذر في "شبكات التواصل الاجتماعي"، من السلط الرهيبة التي أضحت تمثلها هذه الشبكات، والمدى البعيد الذي وصلت إليه أهدافها، لاسيما ما يتعلق بتأثيرها على مسار الدولة الحديثة، أو على كينونة الإنسان وجوهره الإنساني، وسعيها نحو تغيير معناه ورهاناته، وطمس المعنى الروحي الجواني فيه، وتحويله إلى جسد عاري مكشوف الظاهر والباطن، وقتل حياته الخاصة والحميمية، وتدميرها لخصوصية المنزل، وانتصارها للفوضى، وقتلها للانتماء، وإنهائها لمفهوم الرأي العام، وتحولها إلى تنين يبتلع الدولة.

وبدل أن تقوم التقنية بالدور الاستخباري التقليدي، تحول مستهلكوها جميعهم (أي المجتمع) إلى أدوات في خدمة الوشاية، فالمتصل في شبكات التواصل الاجتماعي يتحول إلى خادم واشي، لا يكتفي فقط بتقديم الوشاية ضد الناس، بل يتحول نفسه إلى موضوع للوشاية، ويسمح للأجهزة الذكية باختراق أسراره ونقل خواصه المضمرة إلى الخوادم العملاقة، فيحيطها علما بأي نوع من الأكل يحب، وأي نوع من وسائل النقل يريد أن يستقل، وفي أي المطاعم يرتاح أن يأكل فيها، والجهات التي يحبذ السفر إليها، والأشخاص الذين يحب التفاعل معهم، والأشخاص الذين يكره التواصل معهم، والأفلام التي يحب مشاهدتها، والتي يحلو له الخلوة معها حين ينفرد بنفسه.

على أن الأمر لا يقتصر فقط على الهواتف النقالة أو الحواسيب المجهزة بالكاميرات والشاشات التلفزيونية الذكية، بل يشمل كل الأجهزة الذكية التي يحرص الإنسان على شرائها ووضعها في مطبخه أو حمامه أو غرفة نومه.

وتمتد مهمة الوشاية لأكبر من مجرد الإخبار عن الذات وعن الآخرين، بل تتحول إلى تقديم معطيات لا يرغب الآخرون أن تنشر عنهم في سياق تصفية الحسابات أو التعليق على التدوينات والتغريدات، فيتحول التعليق على موضوع يتضمن أفكارا للنقاش العمومي، إلى فضاء لتدمير الآخرين ونشر أخبار صحيحة أو زائفة عن سلوكات أو معلومات أو أسرار لا يريد المستهدفون بها أن يظهر الناس عليها.

كارثة تفجير البيجر أو التقنية حين تهدد سلامة المجتمع وأمنه

قبل أيام، وقعت كارثة كبيرة في سياق العداون الإسرائيلي على لبنان، إذ أقدم الجيش الإسرائيلي على تفجير أجهزة البيجر ثم أجهزة "التولكي" "والكي" اللاسلكية التي تستخدم للتواصل سواء في المجال العسكري أو المدني، مفجرة بذلك نقاشا عموميا دوليا رفع سقف التخوف من التقنية عاليا، وأدخلت الشك لدى الجميع في سلامة وأمن الأجهزة التي يستعملها المواطنون في حياتهم الخاصة أو تستعملها مصالح الدولة في المجال المدني.

التحقيقات الأولية تتحدث عن شركة وهمية في المجر، تم منحها الترخيص من الشركة التايوانية الأم بإنتاج هذه الأجهزة، فوضعت تحت البطارية 20 غراما من المتفجرات، مع إحداث تغيير تقني في الدائرة الإلكترونية التي تحكم عمل البطارية، بالشكل الذي يسمح بوصول درجة حرارتها لسقف يتجاوز المعتاد، بما يسمح بتفجرها ثم انفجار المادة المتفجرة تحتها، وتعريض حياة المستعلمين للخطر.

المجتمع الذي قبل أن تكون التقنية، معبرا لهيمنة ثقافة الآخر، وثقافته وقيمه، بل وقبل كرها أن تصير التقنية أداة لهدم هويته ومرجعيته، ووحدة وتماسك مكونات المجتمع، سيصير أمام واقع قبول تقنية تنهي حياته وتهدد سلامته الشخصية، دون أن تكون له القدرة على مجرد مناشدة مؤسسات دولية تسعفه في رفع التهديد الوجودي عنه.الواقعة كما تبدو في الظاهر لها علاقة بالحرب، لكنها تثير مشكلة قانونية خطيرة، تتعلق بشرعية هذه الممارسة بالنسبة إلى الشركات، وأثرها على مستقبل التقنية، ومخاطر تنامي الشك من تأثير المنتجات التقنية على حياة الناس وسلامتهم، إذ يمكن في أي لحظة، أن تستعمل التقنية كأداة حرب، ضد أي دولة ما، ما لم يتم احترام الأطر القانونية الدولية لمتعلقة بسلامة المنتجات التقنية المصدرة من أي تهديد للأمن وسلامة المستعلمين.

في الواقع، لا تملك المجتمعات المستهلكة كل المعطيات عن التقنيات والأجهزة التي تستهلكها، في حين يحتفظ مصنعوها بالكثير من الأسرار عن وظائفها الأخرى، فإذا كان العالم اليوم، يدرك بأن هذه الأجهزة أضحت وسائل مرنة لجمع المعطيات الشخصية واستعمالها بشكل غير قانوني، وتغيير الثقافات والقيم، والتحكم في الأمزجة، وربما تغيير الأنظمة السياسية، فإنها إلى حد اليوم لا تزال تجهل الأبعاد العسكرية والأمنية فيها، وكيف يمكن أن تستخدم في لحظة من اللحظات ضد حياة الأفراد وسلامتهم.

الخلاصة:

التحدي المطروح اليوم، لخلق نوع من الطمأنينة حول سؤال الأمن والسلامة في استعمال التقنية، هو النتائج النهائية التي سيقدمها التحقيق حول الكيفية التي تم فيها تفخيخ أجهزة اللاسلكي من قبل إسرائيل في لبنان، ثم المدى الذي يمكن أن تبلغه التحقيقات الدولية بهذا الخصوص، والآثار القانونية والسياسية التي يمكن أن ترتب على الفاعل الإجرامي الذي حول التقنية إلى سلاح حربي،  فأي قصور عن الفهم التقني، وأي تراخ أو عجز عن ترتيب الآثار القانونية والسياسية، سيبقي سؤال علاقة التقنية بالأمن والسلامة بالنسبة للأفراد والمجتمعات، سؤالا جديا محفوفا بكثير من الشكوك، وسيعيد إلى المخيال الاجتماعي، غلبة الطابع الاستعماري في تقاسم  الغرب للتقنية التي ينتجها، فالمجتمع الذي قبل أن تكون التقنية، معبرا  لهيمنة ثقافة الآخر، وثقافته وقيمه، بل وقبل كرها أن تصير التقنية أداة لهدم هويته ومرجعيته، ووحدة وتماسك مكونات المجتمع، سيصير أمام واقع قبول تقنية تنهي حياته وتهدد سلامته الشخصية، دون أن  تكون له القدرة على مجرد مناشدة مؤسسات دولية تسعفه في رفع التهديد الوجودي عنه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الغرب رأي العربية العرب تكنولوجيا الغرب رأي استخدامات أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المعطیات الشخصیة الإسرائیلی على الثورة الرقمیة فی المجال فی سیاق یمکن أن

إقرأ أيضاً:

لماذا يكره الحداثيون التونسيون تركيا؟

تصدير: "إن التمييزَ السياسيَ الدّقيقَ الذي نستطيع اختزال الدوافعَ والأفعال السياسية كلَّها فيه هو التمييزُ بين الصديق والعدو" (المفكر الألماني كارل شميت)

منذ المرحلة التأسيسية لما سُمّي بالانتقال الديمقراطي في تونس، يلاحظ المراقب للشأن التونسي أنّ المواقف الإقليمية من الفاعلين الاجتماعيين في تونس تتجه إلى التصلب في محورين أساسيين، وهما محوران يختلفان اختلاف تضاد في الموقف من الثورات العربية ومخرجاتها، وإن شئنا الدقة قلنا إنهما محوران يختلفان في الموقف من وجود الإسلاميين -خاصة المنتمين إلى الحركات ذات المرجعية الإخوانية- في الحقل السياسي القانوني. ولذلك اعتبر محور "الثورات المضادة" -بقيادة الإمارات والسعودية- أن كل من يدعم الانتقال الديمقراطي أو حتى يعارض إفشاله هو عدو له.

ونحن نتحدث هنا عن المحور التركي-القطري الذي كان ذا موقف إيجابي من الثورات العربية بدءا من الثورة التونسية، وهو موقف لن ينساه محور الثورات المضادة ووكلاؤه المحليين في تونس كلما وجدوا تركيا أو قطر في وضعية صعبة. ولن نعدم الأمثلة عن مجاهرة أغلب "الحداثيين" التونسيين بالعداء لتركيا أو قطر -بل بالتحريض عليهما والشماتة فيهما- كلما مسّهما الضر قبل "تصحيح المسار" وبعده. وهو ما وقع خلال الأزمة الديبلوماسية بين بعض دول الخليج وقطر ما بين 2017 و2021، وكذلك خلال الانقلاب العسكري الفاشل على الرئيس أردوغان سنة 2016.

مثلما استطاعت "العائلة الديمقراطية" في تونس تذويب خلافاتها الأيديولوجية وصراعاتها التاريخية لمواجهة العدو "الإسلامي" المشترك والمتمثل في حركة النهضة أساسا، فإن "الحداثيين" التونسيين -سواء أكانوا في السلطة أم كانوا في الموالاة النقدية أو المعارضة الراديكالية حاليا- قد نجحوا في تذويب خلافاتهم عند بناء الموقف من المحورين الإقليميين المتواجهَين في تونس وخارجها. فمحور "الثورات المضادة" -أي محور التطبيع- قد كان وما زال هو الحليف الاستراتيجي لكل "القوى الديمقراطية"، بما فيها تلك التشكيلات الأيديولوجية القومية واليسارية التي تكتسب جزءا من شعبيتها من دعم المقاومة الفلسطينية. بل إن ذلك المحور يبقى هو الحليف الأهم لـ"تصحيح المسار" وللسلطة القائمة باسم تحقيق "الإرادة الشعبية" و"مطالب الثورة" داخليا، وباسم "مناهضة التطبيع" والسياسات الإمبريالية والصهيونية خارجيا.

للكشف عن التناقضات الداخلية للوعي السياسي "الحداثي" في موقفه من الأزمة الأخيرة بين السلطة والمعارضة في تركيا، ولمواجهة حملات التزييف المُمنهج التي يمارسها اليسار الوظيفي في الإعلام والنقابات والمجتمع المدني ضد ما يسميه بتركيا "الإخوانية"، سيكون علينا أن نتجاوز ما تقوله الجملة السياسية "الحداثية" لنبحث عما يؤسسها معرفيا وتاريخيا. فلتركيا -على خلاف قطر وقناة الجزيرة- حضور قوي في التاريخ التونسي منذ قرون، وهو تاريخ تمت إعادة كتابته في مرحلة الاستعمار غير المباشر -أو ما يسمى بمرحلة الاستقلال- عبر نخب فرنكفونية تبنت سردية الدولة-الأمّة البورقيبية، وكانت الذراع الأيديولوجية لمنظومة الاستعمار الداخلي. وفي هذه السردية تمت شيطنة الأتراك واعتبارهم سببا أساسيا من أسباب التخلف.

وفي مقابل هذا الموقف السلبي من تركيا العثمانية/الإسلامية كان هناك تثمين صريح أو ضمني لتركيا "الكمالية" باعتبارها النموذج المرجعي لسردية الدولة-الأمة في العالم الإسلامي، وباعتبارها مثالا للتحديث الفوقي/الإكراهي على النمط اللائكي الفرنسي الذي اعتمدته النخب التونسية بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا.

قبل الثورة التونسية، لم تكن تركيا "الأردوغانية" نموذجا جاذبا للنخب "الحداثية" اللائكية، ولكنها أيضا لم تكن تمثل أي خطر على ما يسمّونه بـ"النمط المجتمعي التونسي". فأردوغان في أسوأ الحالات هو "إسلامي" أو محافظ (لم يكن وقتها يعتبر إخوانيا عند النخبة الحداثية) يظهر قوّة اللائكية وقدرتها على احتواء خصومها ضمن التراث السياسي الأتاتوركي. أما بعد الثورة، فإن مساندة تركيا للثورة واقترابها من حركة النهضة قد جعلاها هدفا لكل حملات الشيطنة والتشويه من أغلب القوى "الديمقراطية"، بمختلف مكوّناتها البورقيبية واليسارية والقومية.

ولم يكن حظ قطر وقناة الجزيرة بأفضل من حظ تركيا في بكائيات "الحداثيين" على مكاسب "النمط المجتمعي" المهدَّدة من المحور التركي-القطري وأدواته "الإخوانية". ولفهم هذه الأطروحة المركزية في السرديات "الحداثية" التونسية بعد الثورة، سيكون علينا أن نطرح السؤال التالي: بأي معنى تمثل تركيا -وتحديدا نموذج حزب العدالة والتنمية- خطرا وجوديا من منظور أغلب القوى الحداثية في تونس؟

رغم أهمية "المخيال التاريخي" في بناء الموقف المعادي لتركيا عند أغلب النخب الحداثية (أي ارتباط الأتراك في السرديات التاريخية "البورقيبية" بالاستعمار والتخلف وسيطرة "الغرباء" -أي البايات الحُسينيين- على تونس قبل أن يسترجعها منهم "الزعيم")، فإن مناصرة تركيا للربيع العربي ودعمها للانتقال الديمقراطي في تونس -ووقوفها في تونس وخارجها ضد محور الثورات المضادة- كل ذلك جعل النخب الحداثية "تُفعّل" الصور النمطية للتركي العثماني وتسقطها على التركي الأردوغاني فتحوّله -دون الحاجة لدليل- إلى مشروع استعماري جديد، أو على الأقل تختزله في دور الوكيل للمشروع الصهيو-إمبريالي كما يُدندن أغلب "الحداثيين" عندنا بدعم قوي من محور الثورات المضادة وعرّابي مشروع القرن.

وبمعنى ما، يمكن اعتبار مواقف "الحداثيين" من تجربة العدالة والتنمية في تركيا تجليا لمفارقة من أهم مفارقات العقول الحداثية وتناقضاتها الداخلية. فعوض الاحتفاء بانتهاء حكم العسكر وعودة الديمقراطية منذ تولي أردوغان الحكم، وعوض تثمين الشراكة بين الإسلاميين والعلمانيين تحت مظلة النموذج الأتاتوركي من "اللائكية الفرنسية"، وعوض الاستئناس بهذا النموذج لإدارة الانتقال الديمقراطي وبناء المشترك المواطني، فإن النخب "الديمقراطية" التونسية لم تر في تركيا أردوغان إلا نظاما "إخوانيا" تجب شيطنته بكل الطرق، كما يجب تأييد محاولات الانقلاب العسكري عليه ونصرة خصومه حتى لو لم يكن في تاريخهم ومواقفهم ما يشهد لهم بالديمقراطية أو بنصرة القضايا العادلة مثل قضية فلسطين.

لا يخرج موقف "الحداثيين التونسيين" من إيقاف إمام أوغلو عن الخط العام المعادي للإسلاميين داخل البلاد وخارجها. وهو خط يتقاطع موضوعيا -بل يتعامد وظيفيا- مع محور الثورات المضادة ومن ورائها "إسرائيل" ورعاتها في الغرب. ولذلك يحرص أغلب الحداثيين على حصر الاستهداف في "الإخوان"، وهو أمر يمكن رده إلى عاملين أساسيين : أولا، مخاوف محور الثورات المضادة -خاصة السعودية- من "الإخوان" باعتبارهم يقدمون نموذجا لإمكانية التصالح بين الإسلاميين والفلسفة السياسية الحديثة، أو باعتبارهم نموذجا للتعايش بين الإسلاميين والعلمانيين بعيدا عن منطق التكفير ومنطق التخوين، أي منطق التنافي والصراع الوجودي. الأصوات المروجة لنهاية "زمن الإخوان" في تونس هي نفسها -وإن ادعت مناصرة المقاومة تماشيا مع الرأي العام- من يعادي بناء أي ديمقراطية تشاركية لا تستثني الإسلاميين. ولمّا كانت تركيا قد قدمت نموذجا لإمكانية وجود فضاء سياسي يستدمج الإسلاميين ويكون فعّالا من الناحية الاقتصادية، فإن النخب "الحداثية" لا يمكن إلا أن تعادي ذلك النموذج خدمةً لمصالحها الداخلية ولمصالح "أصدقائها" الذين سنجد فيهم "إسرائيل" وإن تخفت وراء محور الثورات المضادة وعرّابي التطبيعثانيا، مخاوف "الكيان الصهيوني" والغرب بصفة عامة من "المقاومة الإسلامية" (ذات المرجعية الإخوانية) وهو ما يستدعي شيطنة كل الحركات الإخوانية لتبرير ضرب المقاومة الفلسطينية وشرعنة "الإبادة الجماعية" للشعب الفلسطيني أمام الرأي العام العالمي.

ونحن نذهب إلى أن الموقف من "الإخوان" -وما تلاه من إفشال لكل التجارب الديمقراطية التي شاركوا فيها- لا يمكن أن ينفصل عن العاملين المذكورين أعلاه: الخوف على الأنظمة التسلطية العربية -خاصة الأنظمة ذات الشرعية الدينية- والخوف على "الكيان الصهيوني" في حال سقوط "الحصون المتقدمة" التي تحميه في أنظمة الطوق وغيرها.

لقد أثبتت مواقف "النخب الحداثية" التونسية من الأزمة التركية الأخيرة أن ما يحدد الموقف ليس "الحقيقة" أو "المبادئ" وإنما المصالح الداخلية لما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" ومصالح "الأصدقاء" في الخارج. وبصرف النظر عن الادعاءات الذاتية لتلك النخب، فإن طبيعتها الوظيفية في منظومة الاستعمار الداخلي تجعلها معادية لكل جهة تقبل بـ"الإسلاميين" مكوّنا من مكونات المشهد السياسي القانوني، خاصة الحركات ذات المرجعية الإخوانية. فارتباط النخب "الحداثية" بمحور الثورات المضادة يجعلها واقعيا في محور "التطبيع"، أي في محور متصهين يعتبر أن عدو "الكيان الصهيوني" والغرب عموما (حركات المقاومة الإسلامية "الإخوانية" مثل حماس والجهاد) هو عدوه الاستراتيجي.

ولذلك، فإن تلك الأصوات المروجة لنهاية "زمن الإخوان" في تونس هي نفسها -وإن ادعت مناصرة المقاومة تماشيا مع الرأي العام- من يعادي بناء أي ديمقراطية تشاركية لا تستثني الإسلاميين. ولمّا كانت تركيا قد قدمت نموذجا لإمكانية وجود فضاء سياسي يستدمج الإسلاميين ويكون فعّالا من الناحية الاقتصادية، فإن النخب "الحداثية" لا يمكن إلا أن تعادي ذلك النموذج خدمةً لمصالحها الداخلية ولمصالح "أصدقائها" الذين سنجد فيهم "إسرائيل" وإن تخفت وراء محور الثورات المضادة وعرّابي التطبيع، كما سنجد فرنسا ومنظومة الاستعمار الداخلي وإن انتقدوهما "مجازا" في سردية التحرير الوطني.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟
  • لماذا يكره الحداثيون التونسيون تركيا؟
  • (أبو علي) اليمني الذي أدهش العالم بشجاعته وثباته أمام الصواريخ الأمريكية المعتدية على اليمن (كاريكاتير)
  • من هو صاحب البقالة المواطن اليمني الذي أبهر العالم بصموده اثناء الغارات الامريكية وتحول إلى ترند عالمي
  • «الشيخ خالد الجندي»: مصر البلد الوحيد في العالم التي سمعت كلام الله مباشرةً (فيديو)
  • «التوطين»: فعاليات احتفالية للعمال في عيد الفطر
  • تعرف على قائمة المنتخبات التي ضمنت تأهلها مبكرا إلى كأس العالم 2026
  • شاهد بالفيديو.. المشجعة السودانية الحسناء “سماح” تهاجم الحارس أبو عشرين بعد الهفوة الكبيرة التي ارتكبها: (قد لا نشارك في كأس العالم بسببك.. عذبتنا في دنيتنا ريحنا منك واعتزل)
  • ما المبلغ الذي سيحصل عليه الفائز بكأس العالم للأندية 2025؟
  • ما هي المنتخبات التي تأهلت إلى «كأس العالم 2026»؟