صلالة- العُمانية

تفضّل حضرةُ صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظم القائد الأعلى- حفظه الله ورعاه- أمس بزيارةٍ سامية كريمة لعدد من الوحدات العسكرية بالجيش السلطاني العُماني بصرفيت بمحافظة ظفار.

ولدى وصول جلالته- رعاه الله- معسكر صرفيت بالجيش السلطاني العُماني كان في استقبال جلالته- أيده الله- اللواء الركن مطر بن سالم البلوشي قائد الجيش السُّلطاني العُماني، والعميد الركن قائد لواء المشاة (11) ، وقائد كتيبة الحدود الشمالية، وقد تفضل جلالة القائد الأعلى- أبقاه الله- بمصافحة ضباط المواقع العسكرية بالجيش السُّلطاني العُماني بالمعسكر.

بعدها تفضل جلالتُه- أيده الله- واستمع إلى إيجاز عن المواقع العسكرية والوحدات القائمة عليها بالجيش السُّلطاني العُماني وما زودت به من الأجهزة والمعدات العسكرية، وما تضطلع به هذه الوحدات من أدوار ومهام وطنية.

وتفضَّل جلالة عاهل البلاد المفدى القائد الأعلى- حفظه الله ورعاه- واطلع خلال جولته الميدانية على بعض التجهيزات والمعدات في عدد من المواقع العسكرية.

بعدها تمَّ التقاط الصور التذكارية لحضرة صاحب الجلالة القائد الأعلى- حفظه الله ورعاه- مع أبنائه من ضباط المواقع العسكرية التي شملتها الزيارة الكريمة لجلالته- رعاه الله- وقد غادر بعدها جلالته معسكر صرفيت محفوفًا برعاية الله وحفظه.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

(نص) المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي

يمانيون../

المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي – 03 رمضان 1446هـ 03 مارس 2025م

 

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في قصص القرآن عن أنبياء الله ورسله، يأتي الحديث عنهم:

في إطار مهامهم الرسالية، وسعيهم لهداية المجتمع البشري، وشدِّه إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والعودة به إلى الصراط المستقيم. ويأتي الحديث عنهم أيضاً في مقام الاهتداء بهم، والتأسي، والاقتداء، بما هم عليه من كمالٍ إيمانيٍ عظيم. وكذلك ما يتعلق بالهداية في الواقع العملي، سواءً بأسلوب الدعوة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أو في التصدي لمشاكل الحياة، والتعامل مع ظروفها وأوضاعها المختلفة.

فلهم هذا المقام العظيم في الواقع البشري: هم القدوة، هم الأسوة، هم القادة، هم الهداة، هم الرموز الذين يجب أن يلتف حولهم المجتمع البشري.

ولذلك فالقصص المرتبط بهم، وهو نموذجٌ من القصص القرآني كما ذكرنا بالأمس، له أهميته الكبيرة جدًّا في مقام الهداية، في مقام التأسي، في مقام استلهام ما يرتقي بالإنسان في وعيه، في إيمانه، في رشده، ما نحتاج إليه في علاقتنا بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في مسيرة حياتنا، في ما يواجهه الإنسان أيضاً من تحديات، ومخاطر، ومشاكل، في ظروف الحياة، فهم في المستوى الأول فيما يتعلق بالاهتداء، واستلهام الدروس والعبر من سيرتهم.

ويأتي الحديث عن الأنبياء، في النماذج التي قدمها القرآن الكريم، بمستوى أيضاً ما هم عليه هم من مقامات قد تكون متفاوتة في مستوى الفضل والأهمية، كما ذكرنا قول الله تعالى بالأمس: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة:253]، وهذا يعود أيضاً إلى مستوى مهامهم، وما واجهوه في هذه الحياة من ظروف ومشاكل.

قصة الهداية الإلهية للمجتمع البشري، هي متزامنةٌ منذ الوجود البشري على الأرض، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” جعل أول إنسانٍ يخلقه جعله نبياً، نبياً أوحى اليه، هداه، علَّمه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ما يحتاج إلى علمه في مسيرة حياته، قدَّم له الهداية؛ ليسير في مسيرة هذه الحياة على الصراط المستقيم، يتحرك في حياته وفق تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، علَّمه الالتزامات الأساسية في هذه الحياة، في ما على الإنسان أن يعمله، وما عليه أن يحذره، في إطار الأوامر والنواهي الإلهية، والتي هي هدايةٌ لنا إلى ما فيه الخير لنا، فالله يأمرنا بما هو خير لنا، وينهانا عمَّا هو خطرٌ علينا، له تأثيراته السيئة علينا، والمجتمع الإنساني موجودٌ في اطار نعمة من الله عليه، ورعايةٍ من الله عليه؛ وإنما كيف يتعامل مع الله، ومع نعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من واقع أنه عبدٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومن واقع أنه في إطار ملك الله وملكوته وتدبيره، في هذا العالم الذي هو في إطار التدبير الإلهي، تدبير الله الحي القيوم “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلذلك كانت مسيرة الأنبياء في هداية الناس مسيرةً مستمرةً.

لكن في الواقع البشري نشأت حالة الانحراف، وحالة المعاصي، وحالة الخلل الكبير في مستوى الالتزام بتعليمات الله وهديه، وفي مستوى الاتِّباع للهداة الأنبياء، الذين جعلهم الله هداةً للناس، فتعاظمت حالة الانحراف في الواقع البشري، على المستوى العملي، على مستوى الأخلاق والقيم، على مستوى المحرمات، فيما هو حلال، وفيما هو حرام، ووصلت- في نهاية المطاف- إلى انحرافٍ خطيرٍ جدًّا في مستوى التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الإيمان بأنه هو وحده “جَلَّ شَأنُهُ” الإله، الذي نعبده، ونتَّجه إليه بالعبادة، والاعتراف بأننا عبيدٌ له، وأنه وحده المدبر لشؤون السماوات والأرض؛ وبالتالي علينا أن نتوجه إليه وحده بالعبادة، هو الخالق، هو الرازق، هو المدبر لشؤون السماوات والأرض، لا يملك أحدٌ غيره أي تدخلٍ، أو شيءٍ من التدخل في تدبير شؤون السماوات والأرض، بشأن الخلائق أجمعين، ولا يملك مثقال ذرةٍ في السماوات والأرض أحدٌ سواه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

حالة الانحراف وصلت إلى مستوى الشرك (ظاهرة الشرك)، فكان البشر، مع اعترافهم بالله أنه الخالق، الذي خلق السماوات والأرض، وفطر السماوات والأرض، وأنه الذي يحيي ويميت، وأنه الذي يرزق، ولكن وصلوا في مستوى انحرافهم إلى الاعتقاد بشركاء معه في الألوهية، وبتعدُّد الآلِهة، وأضافوا أدواراً ومستويات معينة، يعني: هم يعتبرون الآلهة- التي اعتقدوها آلهة- أنها بمستوى دون الله، دون الله، وتحت ربوبية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي مستوى معيَّن، ودور معيَّن، لكنهم يعتبرونه في إطار الألوهية، يعني: يعتقدونها آلهةً مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، شريكةً مع الله في الألوهية، وفي أدوار معيَّنة، ومهام معيَّنة.

تنوعت هذه المعتقدات في مسألة الشرك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”:

البعض من البشر في نظرتهم إلى بعض الظواهر الكونية، وتأثرهم بها، اعتقدوها آلهة، مثلما هو حال من عبدوا الشمس، من عبدوا القمر، من عبدوا النجوم… اختلفت أحوال البشر في ذلك. البعض اتَّجهوا إلى جمادات، إلى الأصنام التي ينحتونها، إمَّا من الصخر، أو يصنعونها من الخشب، أو من معادن أخرى، وجعلوا منها تماثيل بأشكال معينة، ونصبوها في المعابد، واعتقدوها آلهة. البعض من البشر ألَّهوا الملائكة، اعتقدوا الملائكة كذلك مشاركين في مسألة الألوهية. والبعض منهم ألَّهوا البعض من البشر، البعض من الناس ألَّهوا أُناساً: إمَّا من الطغاة المجرمين الظالمين، الذين يصل بهم طغيانهم إلى ادِّعاء الربوبية والألوهية، مثلما هو حال فرعون، الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:38]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات:24]، ومثلما هو حال أيضاً بعض الملوك والطغاة الآخرين. والبعض اتخذوا آلهة بغير رضاً منها، يعني: مثل من ألَّهوا عيسى “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، عيسى المسيح رسول الله، عبد الله ورسوله، ألَّهوه، هو لا يرضى بذلك، وحدث هذا من بعد زمان، من بعد سنوات طويلة من توفي الله له، لكن اتَّجهوا بانحرافهم هذا الاتِّجاه الخاطئ، الذي يتناقض تماماً مع رسالة الله، مع دعوة رسوله إلى عبادة الله، وهو الذي أنطقه الله، فكان أول ما نطق: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}[مريم:30]، الإقرار بعبوديته لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو الذي كان العنوان الأبرز لدعوته في رسالته: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[مريم:36].

فالحالة بالنسبة للبشر في مستوى الانحراف، والانحراف حالة خطيرة في واقع الناس؛ لأن الباطل يزداد، إذا اتَّجه الناس اتِّجاهاً في خط الباطل، وفي طريق الضلال، يزداد ضلالهم، يكبر انحرافهم مع الزمن، مع الوقت، وانفصالهم عن مصدر الهداية وعن خط الهداية، تكثر حالة الخرافات والأساطير والضلال، ويصلون إلى مستويات خطيرة جدًّا.

مع أن كل تلك الأشياء التي اتَّخذوها شركاء مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في معتقدهم الباطل والخاطئ، وبعضها- كما قلنا- مما ينحتونه هم من الصخور، أو مما يصنعونه هم من الأخشاب، أو بعض المعادن، أو غير ذلك، أو من بعض الظواهر الكونية، مثل: حالة العبادة للشمس، والقمر… ونحو ذلك، هذه الحالة مع أنها حالة سخيفة،وينبغي ألَّا يقع فيها البشر، ألَّا يصلوا إليها؛ لكن تُحاط بأساطير، وهالة، ومعتقدات معيَّنة، ويرتبط بها الناس في أحوالهم هم، وظروف حياتهم، في حالة الرجاء، عندما يكون لهم- مثلاً- مرضى، ويقولون له: إذا تقربت إلى هذا الصنم بقربان معيَّن، إمَّا بنذور معيَّنة، أو كبش… أو ما شاكل، أي قرابين يقدمها، البعض كانوا يُقدِّمون حتى الكلاب قرابين لأصنامهم، يتصورون أن ذلك سيكون له تأثير في أحوالهم، إمَّا في شفاء مريض، في تلبية حاجةٍ أو طلب، في دفع شرٍ، في تحقيق نفعٍ… أو غير ذلك، فارتبطوا بها من واقع ظروف حياتهم، وأحيطت بأساطير وهالة تجعل الناس يتقبلون الارتباط بها، والاعتقاد بها، والاتِّجاه نحوها بالرجاء بالنفع، أو دفع الضر… أو غير ذلك.

فهذا التمادي في الباطل، وهذه الحالة من الوصول إلى مستويات فظيعة جدًّا في المعتقدات الباطلة والزائفة، والتنكر للحقائق الكبرى، ومنها: حقيقة التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أساسه الابتعاد عن هدى الله، إذا ابتعد الناس عن هدى الله؛ يكبر باطلهم، يزداد ضلالهم، يتمادون في الضلال والباطل حتى يصل إلى مستويات فظيعة.

ولذلك ما بين نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، والذي كانت البشرية، وكان الناس قد استأنفوا حياةً جديدةً معه بعد الطوفان العظيم، قائمةً على التوحيد الكامل لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والاتِّجاه في مسيرة الحياة على أساس رسالته، وتعليماته ودينه، وما أحل، وما حرَّم، وفق توجيهاته وتعليماته، لكن عادت البشرية من جديد إلى الانحراف على مدى أجيال، وأتت قصة نبي الله هود “عَلَيْهِ السَّلَامُ” مع قومه عاد، ثم نبي الله صالح مع قومه ثمود… وهكذا.

إلى عهد نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، كانت المجتمعات البشرية قد انتشرت على نطاقٍ جغرافيٍ أوسع، وكانت أيضاً في واقعها السياسي قد نشأت بحالة جديدة في الواقع السياسي في المجتمعات البشرية، وهي الممالك، يعني: من الوضع العشائري، الذي كانت عليه المجتمعات البشرية في عصر نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ” وما قبله، وكذلك إلى عهد نبي الله هود “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، إلى عهد نبي الله صالح، لكن مع الكثافة السكانية، وانتشار الناس في نطاقٍ جغرافيٍ أوسع، بدأت المجتمعات تتشكل بشكل ممالك (مملكة)، يعني: تشبه حالة دولة في هذا العصر، ممالك معينة؛ لأن الواقع البشري اتَّسع، في البداية كانوا في المستوى العشائري يُنَظِّمُون أمورهم، ويعيشون كمجتمعات في هذا الإطار، لكن كثرت العشائر بنفسها، عشيرة، وعشيرة، وعشيرة، وأصبح المجتمع مجتمعاً واسعاً؛ حينها تشكلوا بشكل ممالك، وأصبحت لهم أشبه ما يكون بالدولة في هذا العصر، يعني: هناك نطاق جغرافي معيَّن، فيه أُمَّة من الناس، لديهم حاكم يحكمهم.

واتَّجهت الحالة في السيطرة على الناس، في إطار تلك الممالك في بعضها، إلى حالة طغيانٍ كبير، يعني: يتَّجه الزعماء والقادة من واقع سيطرتهم ونفوذهم، إلى أن يصلوا في مستوى طغيانهم إلى أن يقدِّم نفسه إلهاً، وهذا حصل في عصر نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، في إطار المنطقة التي وُلِدَ فيها، ونشأ فيها، وبعثه الله بالرسالة فيها، وكان ذلك في جنوب العراق، بالامتداد إلى تركيا، أو أجزاء من تركيا، والمملكة البابلية، وما جاورها وامتداداتها، هي من أقدم الممالك في المجتمعات البشرية.

ففي ذلك العصر وُلِدَ نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” في تلك المنطقة، فيما يحسب الآن من جنوب العراق، بالامتداد إلى أطراف تركيا، أو أجزاء من تركيا، وفي تلك المرحلة كان هناك مملكة كبيرة، عليها حاكمٌ ظالمٌ، متكبرٌ، ضالٌّ، وصل به الطغيان إلى أن يدَّعي الألوهية، أن يدَّعي نفسه إلهاً، وكذلك كانت حالة الشرك قد شملت، وعمَّت، وانتشرت إلى حدٍ كبير في ذلك المجتمع، وتوارثها لأجيال، توارث حالة الشرك لأجيال؛ فاستحكمت في أوساط الناس، والمجتمع بنفسه في موروثه من الشرك، ذلك الانحراف الكبير جدًّا، وتلاه انحراف عن بقية الأمور؛ لأنه مع الشرك هناك انحراف عن بقية الشرع الإلهي، عن معظمه، عن الأخلاق والقيم في أكثرها؛ إنما يكون هو رأس الانحراف، ومن ورائه وتتبعه حالاتٌ كثيرة من الانحراف: على مستوى الشريعة، على مستوى الالتزامات الأخلاقية والدينية… وغير ذلك.

ففي ذلك المجتمع كان هناك تثبيت لدعائم ذلك الباطل، يعني: باطلٌ محميٌ رسمياً من خلال السلطة الحاكمة، وعلى رأسها طاغية وصل به الحال أن يدَّعي لنفسه الربوبية، وكذلك استحكام حالة الشرك، التي يَتَشَبَّثُ بها المجتمع كموروثٍ اعتاد عليه، اعتقده بناءً على هالةٍ من الأساطير والخرافات، والتأثيرات التي تأتي- كما قلنا- إلى واقع الحياة، وارتباط من ظروف الحياة المختلفة، وكان مجتمعًا شديداً.

ومع أن الطاغية بنفسه، الذي يقال أنه: (النمرود)، وفي بعضها يقال: (النمروذ)، وفي بعضها… تختلف الأسماء باختلاف اللغات، هو بنفسه يدعم تلك الحالة من الشرك، ويتبناها، وهي- في نفس الوقت- مرتبطةٌ به، يعني: كما في عصر (فرعون)، يعتبرون الآلهة متعددة، ويعتبرون ذلك الطاغية كبير الآلهة، مع اعترافهم في الأساس بالله.

لكن مثلاً في عصر ذلك الطاغية المجرم، الحاكم والمسيطر في زمن نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” في جنوب العراق (النمرود)، وفي زمن (فرعون)، وصل بهما الطغيان، هذان الاثنان وصل بهما الطغيان إلى درجة أن يَحْظُرا ويمنعا منعاً باتاً الذكر لله، العبادة لله، الإقرار بالله، الحديث عن الله، بحيث سعى كلٌ منهما أن يكون هو يقدِّم نفسه أن يكون كبير الآلهة، وقدَّم حظراً على الذكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أو الحديث عنه “جَلَّ شَأنُهُ”، مع أن ذلك لا يعني عدم معرفة المجتمع، أو حتى إقرار المجتمع، بأن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه فاطر السماوات والأرض، وأنه هو الذي خلقهم؛ لأن ذلك الطاغية بنفسه، الذي يقدِّم نفسه بأنه هو كبير الآلهة، ويحمي تلك الأصنام معه، هو بنفسه مخلوق، يعني: ليس هو الذي خلق نفسه، هم يعرفون أن الذي خلقه هو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنه كان معدوماً، وأنه وُلِد في مرحلة معينة، وزمن معين، وكان معدوماً قبل ذلك، فهو مخلوق، مخلوقٌ وهم يعرفون أنه مخلوق؛ وبالتالي هم يعرفون أن الله هو الذي خلقه.

لكن الطغاة أولئك، مثلما هو حال (النمرود)، أو حال (فرعون)، هو قَبِل بتلك الآلهة من المجسمات والتماثيل والأصنام معه؛ لأنه يعتبرها لا تنافسه في الواقع، يعني: الناس يرتبطون بها كطقوس، يجعلون لها المعابد، يبنون لها مبانٍ ضخمة، ولا تزال هناك آثار في كثير من بلدان العالم، تدل على اعتنائهم الشديد، بأن تكون المباني التي يبنونها لتكون معابد لأصنامهم مبانٍ ضخمة جدًّا، يبذلون فيها جهداً كبيراً، يُقدِّمون الكثير من المال والجهد، ويعتنون بها؛ لتكون من أضخم ما بنته البشرية، يعني: عبادة باهتمام، اهتمام كبير، وفي نفس الوقت هذه الطقوس التي تمارس في تلك المعابد، سواءً قرابين معينة، أذكار معينة، حالات توجه بالعبادة، لها أشكال مختلفة في واقعهم، تبقى في ذلك المستوى، يبقى بقية الدور بكله للملك، الذي وصل به الحال أن يقدِّم نفسه باعتباره كبير الآلهة، فهو راضٍ عن تلك الحالة؛ لأنه مسيطر، مهيمن، متحكم، وتلك المجسمات الحجرية، أو من أشكال أخرى، لا تمثل أي إشكال عليه هو في الواقع، فهو من هذه الناحية لا مشكلة عنده.

لكن المشكلة عنده في أن يبقى هناك ارتباط بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، توجُّه إلى الله بالعبادة، ذكر لله، ولاسم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا يقلقه؛ لأنه يدرك ضعف موقفه، ضعف موقفه، هو إنسان مخلوق، ضعيف، عاجز، وُلِد وسيموت ويرحل من هذه الحياة، فإذا ادَّعى لنفسه أنه كبير الآلهة، هي دعوى لا تهددها أو تمثل قلقاً عليها تلك المجسمات والأصنام؛ لكن مبدأ التوحيد لله، الذكر لله، هو الذي يهدد طغيانه ذلك، ويضربه في الصميم؛ فيحظرون الحديث عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يعتبرون ذلك يشكِّل خطراً على مواقعهم التي قد رسَّخوها في أوساط المجتمع، تحت هذا العنوان: عنوان كبير الآلهة.

على كُلٍّ، نشأ نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” في جنوب العراق، وسط ذلك المجتمع الذي قد وصل به الانحراف إلى ذلك المستوى، فهو مجتمع مُتَشَبِّث بذلك الباطل، وباطلٌ وضلالٌ كبيرٌ قد أصبح مرتكزاً على حماية رسمية من السلطة، وحماية اجتماعية من نفوذ الأشخاص الذين ارتبطوا بمصالح في ذلك الوضع، وأيضاً بالخرافات والأساطير التي قد أثّرت على الكثير من الناس، فارتبطوا بالأصنام من ظروف حياتهم: في طلب النفع، في طلب دفع الضر، في طلب الشفاء، في طلب الرزق، في طلب البركات، من خلال تلك الطقوس التي يقدِّمونها.

عندما نشأ نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، نشأته كنشأة بقية الأنبياء والرسل، ينشأون موحِّدين لله تعالى، هذه قضية أساسية، هذا مبدأٌ أساسيٌ، لم يكن هناك أبداً أي رسولٍ، أو نبيٍ من أنبياء الله، كان قبل رسالته قد اتَّجه في حالة شرك، أو انحرف هذا الانحراف، بل إنَّ الأنبياء والرسل منزَّهون عن غير ذلك أيضاً: عن الجرائم، عن المفاسد، عن… ما قبل رسالتهم، ما قبل بعثتهم، هم ينشأون في إطار عناية ورعاية إلهية، كما قال الله عن نبيه موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه:41]، ينشأون بسجلٍ نظيف على المستوى الأخلاقي والسلوكي، ينشأون بقيم راقية، بمكارم الأخلاق، وينشأون موحِّدين لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومتميِّزين بما هم عليه من توحيدٍ، ومن مكارم الأخلاق، ومن اتِّجاهٍ صحيح، وانشدادٍ إلى الله تعالى، ليسوا متلوثين بما تلوث به المجتمع، لا من الناحية العقائدية بما فيه من باطل وضلال رهيب، ولا من الناحية السلوكية والعملية، فهذه نقطة مهمة جدًّا، هي أساسٌ في فهمنا لما سيأتي من هذه الدروس عن نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”.

لكن تلك الحالة حالة وصلت إلى محيطه الأسري، حالة الانحراف والشرك، وصلت إلى محيطه الأسري، يعني: حالة مسيطرة على المجتمع من حوله؛ ولـذلك هو يعاني من الغربة في التصدي لتلك الحالة، ومواجهة تلك الحالة، يعاني من الغربة؛ لأن محيطه حتى على المستوى الأسري متأثِّر بتلك الحالة؛ ولهـذا نجد في القرآن الكريم في عدة مواضع، ما يذكره الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عن مشكلة إبراهيم مع أبيه، في مثل قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}[الأنعام:74]، نجد ذلك أيضاً في (سورة مريم)، في (سورة الأنبياء) أيضاً، كيف يتحدَّث مع والده، مع أبيه عن هذا الموضوع، يختلف المفسِّرون والمؤرخون: هل هذا يعني والده، عندما يقول الله في القرآن: {لِأَبِيهِ}، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ}، أم أنه يحكي عن عمه؛ لأن العم أيضاً قد يقال له أب، كما في قصة إبراهيم وإسماعيل ويعقوب، عندما حضر يعقوب الموت، {قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}[البقرة:133]،  فذكروا إسماعيل من آبائه، مع أنه عم يعقوب، عم نبي الله يعقوب، لكن حسبوه تحت هذا الاسم، يعني: هذا واردٌ في الاستعمال العربي عند العرب، أن يقال عن العم أيضاً (أب)، لكن (والد) تختص بالأب الذي ولدك، على كُلٍّ هذا رأي الكثير من المفسرين: أنَّ هذا يعني عمه، والبعض يقولون: [بل أبوه]، والده يعني، فعلى كُلٍّ بغض النظر عن هذا الاختلاف، الخلاصـــــة: أنَّ هذه الإشكالية وصلت إلى محيطه الأسري، إلى داخل الأسرة، وواجه هذه الإشكالية حتى في داخل الأسرة، وسنجد كيف كان حجم هذه الإشكالية، وكيف كان حجم تأثيرها، في قصة نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”.

في دعوته لقومه، وتحركه بالرسالة الإلهية؛ لهداية قومه، ومعالجة هذا الانحراف الكبير في واقعهم، بدءاً بظاهرة الشرك؛ لأنها في المقدِّمة، في مقدِّمة ما يتصدى له الأنبياء والرسل في المجتمعات التي قد تورَّطت فيها؛ لأنها تمثل هي العائق الأكبر عن بقية أمور الدين، ولأنها هي في حالة الانحراف أكبر حالة انحراف، يعني: على مستوى التقييم والتصنيف لها، جريمة كبيرة جدًّا، أكبر جريمة، تنكُّر لأكبر الحقائق، إساءة كبيرة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن الله منزَّه عن  أن يكون له شريك في ملكه أو ألوهيته، في هذا إساءة إليه، في ذلك نسبة الضعف والعجز إليه، وأنه يحتاج إلى أعوان يشاركونه في تدبير أمور الخلق، وفي تدبير أمور الكون، فهو منزَّهٌ عن أن يكون له شركاء في مُلكِه ومِلكِه لعباده، وهو وحده الإله، والبقية كلها مخلوقاتٌ له، فهو الرب لكل شيء “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فهناك مقامات لنبي الله إبراهيم، مقامات متعددة، وصلت في نهايتها إلى مستوى الاحتكاك الكبير بينه وبين قومه، إلى درجة أنهم عملوا على حرقه بالنار، وستأتي هذه القصة.

إن شاء الله ندخل في هذه المقامات مع قومه، وكيف هي الأساليب الحكيمة التي عمل بها نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، ليعالج الحالة التي وصلوا إليها، من التَّشَبُّث الشديد بذلك الضلال والباطل، الذي- كما قلنا- محميٌ رسمياً، يعني: من السلطة، محميٌ اجتماعياً من ذوي النفوذ، محميٌ بفعل الارتباط الروحي، والوجداني، والنفسي، الناتج عن أساطير وخرافات ربطت المجتمع عقائدياً ووجدانياً بِشِدَّة، وهو مجتمع شديد فيما هو عليه من تَمَسُّكٍ بالباطل.

نبدأ– إن شاء الله- بالمقام المذكور في القرآن الكريم المقام الأول، ضمن مقامات متعددة، فيما ورد في القرآن الكريم في المحاضرة القادمة.

نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • مُحاضرات القائد هُدىً وبصائر
  • (نص) المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد 1446هـ
  • جلالة السلطان يصدر أربعة مراسيم سامية بالتصديق على اتفاقيات
  • جلالة السلطان يصدر 4 مراسيم سامية.. عاجل
  • أعزَّك الله.. سيدنا عزيزَ الإسلام
  • مقتطفات من المحاضرة الرمضانية (2) .. للسيد القائد
  • الوزير الأمير يطلع على الانضباط الوظيفي في عدد من الوحدات التابعة لوزارة النفط والمعادن
  • الرئيس الشرع يتلقى برقية تهنئة من سلطان عمان بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك
  • زاد الروح في شهر التقوى