ليست الروابط المحتملة بين تايوان وإسرائيل في الهجوم الإرهابي الإسرائيلي على لبنان الذي تم فيه تفجير أجهزة اتصال مفخخة مما أسفر عن مقتل وإصابة الآلاف من الناس الأسبوع الماضي؛ سوى أحدث حلقة في تاريخ طويل من العلاقات العسكرية والتعاون بين المستعمرتين-الاستيطانيتين. وحتى لو تبين أن تايوان لم تكن متورطة في هذا الهجوم، فإن تعاونها العسكري مع إسرائيل يعود إلى نصف قرن على الأقل.
وقد تعززت العلاقات الإسرائيلية-التايوانية بشكل كبير بعد أن شنت إسرائيل حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فقد سارعت تايوان إلى إدانة عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وتبرعت بأكثر من نصف مليون دولار أمريكي لتمويل الخدمات المقدمة للجنود الإسرائيليين وعائلاتهم. ولم تغير الإبادة الجماعية اللاحقة موقف تايوان، كما عبر عنه وزير خارجيتها "جوزيف وو" في اجتماع عقد في آذار/ مارس مع أكاديميين إسرائيليين في تايبيه: "نحن ندين الهجوم الإرهابي لحماس ونقف متضامنين مع إسرائيل. موقفنا لم يتغير". وقد كانت وزارة الخارجية التايوانية هي من رتّب الزيارة.
وقد تحركت تايوان بسرعة لإدانة إيران بعد رد الأخيرة في 13 نيسان/ أبريل على هجمات إسرائيل على قنصليتها في دمشق. ففي 15 نيسان/ أبريل، التقت الرئيسة التايوانية تساي إنغ ون بوفد من أعضاء الكنيست الإسرائيلي بقيادة بواز توبوروفسكي، رئيس مجموعة الصداقة البرلمانية الإسرائيلية التايوانية، وأعربت عن تضامن بلادها مع إسرائيل. وخلال الاجتماع، نقلت تساي تعازيها الحارة وتضامنها مع الوفد. وأكد توبوروفسكي أن "ما قدمته تايوان لإسرائيل من دعم خلال هذه الفترة الرهيبة ستظل تتذكره إسرائيل دائما".
لطالما كانت للعلاقات بين تايوان وإسرائيل مميزة، وهي لم تقتصر فقط على التحالف الإمبريالي المناهض للشيوعية أثناء الحرب الباردة فحسب، بل قامت بشكل خاص أيضا نتيجة عزلتهما الدبلوماسية والسياسية في معظم أنحاء العالم
لطالما كانت للعلاقات بين تايوان وإسرائيل مميزة، وهي لم تقتصر فقط على التحالف الإمبريالي المناهض للشيوعية أثناء الحرب الباردة فحسب، بل قامت بشكل خاص أيضا نتيجة عزلتهما الدبلوماسية والسياسية في معظم أنحاء العالم. وقد كان ماو تسي تونغ هو مَن أدرك طبيعة النظامين في عام 1965. في مناسبة استقباله لوفد من منظمة التحرير الفلسطينية، أعلن ماو أن "الإمبريالية تخشى الصين والعرب. إن إسرائيل وتايوان تشكلان قاعدتين للإمبريالية في آسيا. أنتم بوابة القارة العظيمة، ونحن ظهيرها. لقد خلقوا إسرائيل من أجلكم، وفورموزا من أجلنا وهدفهم واحد".
أصبحت جزيرة تايوان، التي أطلق عليها البرتغاليون اسم فورموزا في القرن السادس عشر، مهمة بعد عام 1947 وخاصة بعد عام 1949. ومع انتصار الثورة الصينية وهزيمة نظام حزب الكوومينتانغ القومي بقيادة تشيانغ كاي تشيك، انتقلت قيادة الكوومينتانغ وأكثر من مليون ونصف من أتباعها إلى تايوان التي كان عدد سكانها في تلك الفترة يتجاوز ستة ملايين نسمة، واستولوا عليها وأعلنوا الأحكام العرفية فيها على مدى العقود الثلاثة التالية، واستمروا في حكم الجزيرة كإقطاعية خاصة بهم حتى عام 2000. وأطلق الكوومينتانغ اسم "جمهورية الصين" على تايوان، باعتبارها المنطقة الوحيدة التي كان يسيطر عليها الحزب بعد أن أُعلنت الصين بأكملها "جمهورية شعبية" في تشرين الأول/ أكتوبر 1949.
وقد كان نظام الكوومينتانغ صديقا للصهيونية منذ الحرب العالمية الأولى حيث دعم وعد بلفور، وبينما امتنع النظام عن التصويت على قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، اعترف نظام الكوومينتانغ رسميا بإسرائيل في آذار/ مارس 1949، قبل بضعة أشهر من الإطاحة به. كما صوت لصالح عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، بل وسمح لإسرائيل بإنشاء قنصلية لها في مدينة شنغهاي.
وبسبب هيمنة الولايات المتحدة وسيطرتها الإمبريالية في فترة الحرب الباردة، أصرت القوى الغربية على أن تظل تايوان القيادة الشرعية الوحيدة المعترف بها للصين بأكملها، وبالتالي يجب أن تستمر في الاحتفاظ بمقعد الأمم المتحدة الذي احتلته الصين منذ عام 1945، بما في ذلك في مجلس الأمن، حيث كانت الصين القوة غير الأوروبية الوحيدة التي كانت تتمتع بحق النقض. وبمساعدة "اللوبي الصيني" المتمركز في الولايات المتحدة، احتفظ مستوطنو الكوومينتانغ غير المنتخبين في تايوان بمقعد الأمم المتحدة حتى عام 1971، عشية تطبيع الولايات المتحدة للعلاقات مع جمهورية الصين الشعبية في عام 1972. والواقع أنه منذ عام 1965 وحتى عام 1971، كانت الولايات المتحدة وإسرائيل بمعيتها قد صوتتا باستمرار ضد اقتراح طرد تايوان واستبدالها بجمهورية الصين الشعبية في الأمم المتحدة. وقد اعترفت الولايات المتحدة أخيرا بجمهورية الصين الشعبية في عام 1979.
وكان صهر تشيانغ كاي تشيك، رجل الأعمال الثري تي. في. سونغ، هو الممول الرئيس للوبي الصيني. وقد تأسس اللوبي في عام 1952 على يد الناشط الأمريكي المناهض للشيوعية مارفن ليبمان الذي أسس منظمة "مساعدة المثقفين الصينيين اللاجئين" التي عرفت باختصار بمؤسسة "آكري"، والتي أصبحت حجر الأساس بالنسبة له لإطلاق حملات لدعم النظام الاستيطاني- الاستعماري في تايوان. كان ليبمان، الذي كان يهوديا (اعتنق الكاثوليكية وتعمّد في عام 1978 في سن 55)، من المتعصبين الصهاينة اليمينيين الذين عملوا مع الجماعة الإرهابية الصهيونية إرغون تسفاي لئومي، التي ارتكبت مذبحة دير ياسين في نيسان/ أبريل 1948، والتي قتل فيها مئات الفلسطينيين.
في الواقع، حتى عام 1969، كان ليبمان، الذي أصبح محاربا دوليا في الحرب الباردة ومناهضا للشيوعية (كان قد أسس أيضا في عام 1966 مجموعة الضغط "أصدقاء استقلال روديسيا" وهي إحدى جماعات الضغط الرئيسة لدعم نظام إيان سميث الاستعماري-الاستيطاني العنصري في روديسيا)، قد شغل منصب سكرتير "لجنة المليون ضد قبول الصين الحمراء في الأمم المتحدة" التي أسسها في عام 1953. وقد حشد ليبمان دعم عضو الكونغرس الجمهوري والتر جض، الذي كان مبشرا بروتستانتيا في الصين في ثلاثينيات القرن العشرين، لدعم نظام ما يسمى بـ"جمهورية الصين". وكما كان المسيحيون الإنجيليون التبشيريون دوما أكبر مؤيدي الصهيونية في الغرب، فقد كانوا أيضا من أشد المؤيدين لنظام تايوان، وخاصة بعد أن اعتنق تشيانغ كاي تشيك البروتستانتية في عام 1927. وقد تم تمويل منظمة "آكري" الداعمة لتايوان والمعادية لجمهورية الصين الشعبية من قِبَل مؤسسة فورد، ومؤسسة روكفلر، وفي وقت لاحق من قِبَل وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية.
ولقد رأت جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، والتي اكتسبت قوة هائلة منذ سبعينيات القرن العشرين، بصفتها "اللوبي الإسرائيلي"، في اللوبي الصيني سابقة ممتازة ونموذجا يحتذى به. وعلى الرغم من أن نظام تايوان كان صديقا مقربا لجميع الأنظمة العربية المحافظة المناهضة للشيوعية، وخاصة المملكة العربية السعودية والأردن، فقد نقلت إسرائيل في عام 1975 تكنولوجيا الصواريخ الأمريكية إلى تايوان سرا، وبدأت في بيع صواريخ إسرائيلية لتايوان بما يصل إلى نصف مليار دولار. والواقع أن وزارة الدفاع الإسرائيلية أنشأت محطة دائمة في العاصمة التايوانية، تايبيه، لتسهيل التعاون العسكري. وشمل التعاون، بما في ذلك تجارة الأسلحة، المدافع وقذائف الهاون والقوارب الصاروخية والبنادق والمدافع الرشاشة. كما وردت تقارير صحفية عن أن إسرائيل نقلت إلى تايوان تكنولوجيا الحرب النووية والكيميائية، بالإضافة إلى التدريب الاستخباراتي. وقد تم تعزيز هذه التجارة بين المستعمرتين-الاستيطانيتين بناء على طلب الولايات المتحدة، التي تعمل إسرائيل كوكيل لها.
على الرغم من الإنكار الرسمي، فإن حقيقة أن الولايات المتحدة يبدو أنها أُبلغت مسبقا بالعملية الإرهابية الإسرائيلية بتفجير أجهزة النداء في لبنان ليست مفاجئة على الإطلاق، ولن يكون مفاجئا أيضا إذا ثبت تورط تايوان في تلك العملية الوحشية، على الرغم من نفيها الرسمي المستمر لتورطها
استمرت عمليات نقل الأسلحة من إسرائيل إلى تايوان حتى عام 1992 على الأقل، عندما أقامت جمهورية الصين الشعبية أخيرا علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وفي نفس العام، أنشأت إسرائيل مكاتب اتصال ثقافية وتجارية في تايبيه، مما أدى إلى زيادة العلاقات التجارية غير العسكرية. وفي حين استمر التعاون في صناعة الأسلحة بين البلدين، كان استئجار تايوان لنظام أقمار صناعية إسرائيلية للتجسس (المعروف باسم "نظام المراقبة عن بعد للأرض- أ") في عام 2001 هو الذي ساعد في توسيع نطاق تجسس تايوان ومراقبتها للصين. وقد بلغت التجارة الإسرائيلية التايوانية في عام 2022 وحده أكثر من 2.67 مليار دولار.
تقع إسرائيل وتايوان في الخطوط الأمامية ضد الأعداء المعلنين للولايات المتحدة -المقاومة العربية للإمبريالية الأمريكية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني، والصين– وكلا المستوطنتين متهمتان بزعزعة استقرار منطقتيهما وإشعال حروب إقليمية محتملة لإضعاف خصوم الولايات المتحدة. إن حقيقة أن الأساطيل البحرية الأمريكية وترساناتها تتنقل بين الدولتين المنبوذتين على مدى العام الماضي ليس سوى قمة جبل الجليد المرئية للمخططات الأمريكية المستمرة لتهديد خصومها.
وفي هذا السياق، يمكن مقارنة كل من إسرائيل وتايوان بأوكرانيا، التي سعت الولايات المتحدة إلى تحويلها إلى قاعدة لحلف شمال الأطلسي ضد روسيا -التي تنظر إليها واشنطن باعتبارها تحديا هائلا لهيمنتها الإمبريالية- على حساب مئات الآلاف من أرواح الأوكرانيين. وعلى الرغم من الإنكار الرسمي، فإن حقيقة أن الولايات المتحدة يبدو أنها أُبلغت مسبقا بالعملية الإرهابية الإسرائيلية بتفجير أجهزة النداء في لبنان ليست مفاجئة على الإطلاق، ولن يكون مفاجئا أيضا إذا ثبت تورط تايوان في تلك العملية الوحشية، على الرغم من نفيها الرسمي المستمر لتورطها.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإسرائيلي العلاقات الصين إسرائيل امريكا الصين علاقات تايون مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة صحافة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة جمهوریة الصین الشعبیة الولایات المتحدة الحرب الباردة الأمم المتحدة على الرغم من إسرائیل فی إلى تایوان مع إسرائیل حتى عام فی عام
إقرأ أيضاً:
الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي ومفارقة الإرهاب
عقب هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الذي نفذته حركة حماس على فرقة غزة ومستوطنات غلاف غزة، زعمت إسرائيل وجميع الحكومات الغربية أن إسرائيل وقعت ضحية "هجوم إرهابي" من قبل حماس، ولذلك فإن الدولة الصهيونية تتمتع بالحق الكامل في الدفاع عن نفسها ضد عدوها، وبما أن الجماعات المسلحة الفلسطينية تسببت في هذا "الهجوم غير المبرر" حسب ادعائهم، فعلى الفلسطينيين مواجهة حرب إبادة والتعرض للموت والدمار والتنكيل والتجويع والتهجير الذي تشنه عليهم إسرائيل باعتبار ذلك عملا من أعمال الدفاع عن النفس.
وقد صنفت دولة الاستعمار الاستيطاني التي قامت على "الإرهاب" كافة أشكال مقاومة مشروعها العسكرية والمدنية بالإرهاب، حيث بات "الإرهاب" صناعة صهيونية تبنته الدول الغربية، وشكل العقيدة الأمريكية الإمبريالية مع نهاية الحرب الباردة وحلول عصر الأحادية القطبية، وأصبح مصطلح "الإرهاب" يكافئ "الإسلام" وهوية الإرهابي تقتصر على العرب والمسلمين والفلسطينيين.
فمنذ اللحظات الأولى لعملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أصبحت مفردة "الإرهاب" الأكثر تداولا على ألسنة قادة كيان الاحتلال الصهيوني وداعميهم الغربيين، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وسرعان ما ترددت كلمة "الإرهاب" على ألسنة رعاة المستعمرة الصهيونية من الإمبرياليين الغربيين وفي طليعتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، وأصبحت مقولة "حماس هي داعش" سلعة رائجة، لكن الحقيقة التي بدت واضحة لكافة الأحرار في العالم أن "حماس" حركة تحرر وطني تناهض كيان استعماري استيطاني صهيوني قام على الإبادة والتطهير العرقي والإرهاب، وهو لم يتوقف عن استخدام الإرهاب في قمع مقاومة الشعب الفلسطيني.
الحالة الفلسطينية ووضعية غزة تشير إلى أمر مختلف تماما، ففد احتلت إسرائيل غزة إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية، خلال حرب حزيران/ يونيو عام 1967، وعلى الرغم من قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242، رفضت إسرائيل الانسحاب من هذه المناطق إن الإصرار الغربي والإسرائيلي على وصف هجوم حماس بالإرهابي يتجاهل حقيقة التاريخ وطبيعة الاحتلال الإسرائيلي، وهو مغالطة تستند إلى الغطرسة والتفوقية العرقية، إذ يعتبر الهجوم إرهابيا يقابَل بحق الدفاع عن النفس من الناحية المنطقية في حالات الحياة الطبيعية بين دولتين مستقلتين حسب ميثاق الأمم المتحدة (1945) الذي صمم لاستبعاد العدوان العسكري، والذي يميل إلى التسبب في خرق السلم والأمن الدوليين، لكن الحالة الفلسطينية ووضعية غزة تشير إلى أمر مختلف تماما، ففد احتلت إسرائيل غزة إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية، خلال حرب حزيران/ يونيو عام 1967، وعلى الرغم من قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242، رفضت إسرائيل الانسحاب من هذه المناطق.
وفي حالة غزة على وجه التحديد، واصلت إسرائيل ممارسة السيطرة الفعلية على غزة، مع أنها أعلنت رسميا عن انسحاب قواتها وإخلاء أربع مستوطنات يهودية غير شرعية في عام 2005، ويرجع ذلك إلى أن "خطة فك الارتباط" نصت صراحة على أن إسرائيل ستواصل السيطرة على غزة جوا وبحرا وبرا، بينما ستحتفظ بسيطرتها على المعابر الحدودية وكذلك المرافق والخدمات العامة، مثل إمدادات المياه والكهرباء. ومن ثم استمرت غزة في المعاناة من العدوان الإسرائيلي في شكل احتلال بحكم الأمر الواقع كما اعترفت به الأمم المتحدة وهيئات حقوق الإنسان الدولية أو الإنسانية، مثل منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر الدولي، وقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارين على التوالي في عامي 1970 و1974 بعدم شرعية الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
عندما صرح الأمين العام للأمم المتحدة أن هجوم السابع من أكتوبر لم يأت من فراغ، فإنه كان يشير بطريقة دبلوماسية إلى تفسير مختلف، فالهجوم العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية يقيادة حماس ضد إسرائيل لا يشكل هجوما إرهابيا مسلحا أو عملا من أعمال العدوان العسكري كما هو محدد في القانون الدولي، وذلك لأن الدولة الخاضعة للاحتلال العسكري تتمتع بحق الدفاع عن النفس كما هو مذكور في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تمنح "الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس فرديا أو جماعيا إذا وقع هجوم مسلح" ضد دولة. وقد تم الاعتراف بعدم شرعية الاستيلاء على الأراضي بالقوة حتى قبل الحرب العالمية الثانية، وفلسطين دولة رغم أنها تقع تحت الاحتلال العسكري، ومنذ إعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، اعترفت بها حوالي 140 دولة، وهي "دولة مراقبة" في الأمم المتحدة منذ عام 2012.
إن حق المقاومة لأي شعب يقع تحت الاحتلال العسكري مشروع من الناحية القانونية وهو حق ثابت للشعب الفلسطيني، وقد تقرر أن حق الشعب في تحرير وطنه من خلال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي هو حق طبيعي كحق الإنسان في الحياة. وعلى النقيض من ذلك، لا تتمتع القوة المحتلة بحق الدفاع عن النفس ضد أولئك الذين هم تحت الاحتلال العسكري، ولذلك فإن ادعاء إسرائيل ممارسة حق الدفاع عن النفس ضد الهجوم العسكري للفصائل الفلسطينية المسلحة في جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يُعدّ الاحتلال العسكري وأعمال العدوان العامة من أبشع الجرائم في القانون الدولي. وفي حالة غزة فإن إسرائيل هي التي ترتكب عدوانا مسلحا على غزة وشعبها، بالإضافة إلى ارتكابها جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فجوهر المشكلة يكمن في استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيةيُعدّ تحريفا صارخا لقواعد ومبادئ القانون الدولي المتعلقة باستخدام القوة، والاحتلال العسكري، وتقرير المصير، وإقامة الدولة، إذ يُعدّ الاحتلال العسكري وأعمال العدوان العامة من أبشع الجرائم في القانون الدولي. وفي حالة غزة فإن إسرائيل هي التي ترتكب عدوانا مسلحا على غزة وشعبها، بالإضافة إلى ارتكابها جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فجوهر المشكلة يكمن في استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
تتجاوز إسرائيل وداعموها الغربيون حقيقة الكيان الاستعماري الصهيوني كقوة محتلة تقوم على الإرهاب في غزة منذ عام 1967، وكان عليها الالنزام القانوني بالامتثال لاتفاقيات لاهاي (1907) واتفاقية جنيف الرابعة (1949) وكذلك للقانون الدولي الخاص بقوانين النزاع المسلح والاحتلال العسكري. فبموجب القواعد ذات الصلة من القانون الدولي، يُحظر على الدولة المحتلة تغيير الوضع الراهن داخل الأراضي المحتلة، وبالتالي يجب عليها تجنب توسيع نطاق قوانينها وأنظمتها لتشمل المنطقة المحتلة، وهي ملزمة بعدم اتخاذ تدابير قانونية وإدارية تضر بسلامة ورفاهية السكان الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، فالقرارات والممارسات التي تهدف إلى حرمان السكان من سبل عيشهم الأساسية محظورة تماما بموجب القواعد القانونية الدولية.
ورغم ذلك تستمر إسرائيل وبدعم غربي في انتهاكٍ التزاماتها القانونية الدولية، بحيث تحوّل هجوم إسرائيل على غزة إلى حالة قتلٍ وإبادة متعمدٍ للفلسطينيين في غزة. وثمة أدلة دامغة على أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية بحقّ الغزيين خلال هجومها الوحشي على غزة جوا وبحرا وبرا، سعيا منها إلى إبادة أكبر عددٍ ممكنٍ من الفلسطينيين. كما أن قطعَ أساسيات الحياة في غزة، وهي الماء والغذاء والدواء والكهرباء، كان مُدبَّرا للتسبب في أكبر عددٍ ممكنٍ من الوفيات. كما خدمت هاتان الاستراتيجيتان الإباديتان هدفَ إسرائيل المتمثل في التطهير العرقي من خلال الترحيل القسري للسكان الفلسطينيين من غزة.
إحدى المفارقات الصارخة أن دولة استعمار استيطاني قامت على الإرهاب، تصف المقاومة لاحتلالها بالإرهاب، فالإرهاب الصهيوني موثق بصورة جلية دون لبس، فقد مارس الكيان الصهيوني الإرهاب على أساس يومي تقريبا منذ العام 1937، في الوقت نفسه الذي كان فيه البلطجية النازيون يرهبون اليهود الأوروبيين، حيث نفذت العصابات الصهيونية المشكّلة من الغرباء اليهود "حملات محسوبة من الإرهاب" ضد الفلسطينيين الأصليين، وفي هذه الحملة، قد تعرض الفلسطينيون للذبح والتشويه والترويع بلا رحمة جراء التفجيرات المتكررة أو الهجمات بالبنادق الرشاشة والقنابل اليدوية على المقاهي الفلسطينية وعلى "المارة العرضيين"، وعلى السيارات والحافلات الفلسطينية وقطارات الركاب ودور الأيتام والمدارس والمتاجر والأسواق والأحياء العربية. وأغارت العصابات اليهودية على القرى العربية، وزرعت الألغام الأرضية، وأعدمت بدم بارد على غرار النازية القرويين المحاصرين، وضاعفت عصابة الإرغون العسكرية القومية الإرهاب من خلال التهديد بـقطع الأيدي العربية التي ترتفع ضد القضية اليهودية.
لقد استُخدم مصطلح "الإرهاب اليهودي"، أو "الإرهاب الصهيوني"، قبل سنة 1948، للإشارة إلى الأعمال الإرهابية التي ارتكبتها عصابات صهيونية مسلحة، واستهدفت السكان العرب الفلسطينيين، كما استهدفت سلطات الانتداب البريطاني. فمنذ الثورة الفلسطينية الكبرى في سنوات 1936-1939 وحتى تأسيس دولة إسرائيل، استُخدم الإرهاب الصهيوني بصفته استراتيجية عسكرية لتسريع إنشاء دولة يهودية مستقلة، وتم شن هجمات كثيرة على الفلسطينيين، بهدف ترويعهم ودفعهم إلى الانتقال والهجرة خارج البلاد، وعلى مراكز الجيش والشرطة البريطانيين، كما نُظمت عمليات اغتيال وتفجيرات لأسواق وسفن وفنادق. وقد وقف على رأس هذه العصابات الصهيونية زعماء أصبحوا، في السنوات اللاحقة، رؤساء لحكومات إسرائيل، مثل دافيد بن غوريون ومناحم بيغن وإسحاق شامير.
تكشف المسألة الفلسطينية وحالة حماس عن ذاتية مصطلح "الإرهاب" وغير موضوعيه، إذ يشكل مصطلح "الإرهاب" دالا مبنيا سياسيا، لا تجمعه بالضرورة علاقة تناسب طبيعية بالمدلول، ويرتبط بإرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، وهو خطاب أدائي للسلطة السيادية في علاقات القوة، يرتبط بالمصالح الجيوسياسية كتوظيف سياسي، إذ تستخدم الولايات المتحدة مصطلح "الدولة الراعية للإرهاب"، ضد الكيانات السياسية المعارضة للتوجهات الأمريكية، وهوية الإرهابي رهن التسمية وليس الفعل في سياق خطابي تحدده المصالح القومية، وفي الوقت الذي يصعب من الناحية النقدية وصف حماس بالإرهابية، يمكن بسهولة وصف إسرائيل دولة إرهابية. وكانت بوليفيا قد أدرجت فعلا الكيان الإسرائيلي على قائمتها للدول الإرهابية.
الإرهاب" تسمية مفروضة وغير مفترضة واستراتيجية القوى الغاشمة للهيمنة والسيطرة وترتبط بهوية الفاعل وليس الفعل، وتنفرد الحالة الفلسطينية بالإجماع والتوافق الأمريكي حول هوية "الإرهابيين". فلطالما اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على أن الفلسطينيين هم مرتكبو الأعمال الإرهابية، وليسوا أبدا ضحاياها، فيما اعتبروا أن الإسرائيليين هم دائما ضحايا الإرهاب فـ"الإرهاب" تسمية مفروضة وغير مفترضة واستراتيجية القوى الغاشمة للهيمنة والسيطرة وترتبط بهوية الفاعل وليس الفعل، وتنفرد الحالة الفلسطينية بالإجماع والتوافق الأمريكي حول هوية "الإرهابيين". فلطالما اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على أن الفلسطينيين هم مرتكبو الأعمال الإرهابية، وليسوا أبدا ضحاياها، فيما اعتبروا أن الإسرائيليين هم دائما ضحايا الإرهاب. وقد تحول "الإرهاب" الذي اخترعه الغرب الإمبريالي والاستعمار الصهيوني إلى "مصطلح متداول يطلقه كل فاعل على أعدائه، إلى اتهام متبادل"، استفاد من الخلط والفوضى اللذين واكبا نشأة وتطور استخدام المفهوم ومعلوم أن "من يطلق الأسماء على الأشياء فهو يمتلكها"
إن الإصرار الأمريكي والأوروبي والصهيوني على تصنيف حركة "حماس" منظمة إرهابية يهدف إلى نزع الصفة السياسية عن عملها، ونزع الحصانة الإنسانية عن أعضائها، فوصف مقاومي حماس بالإرهابيين يضع جنود حماس في قائمة "محاربون لا شرعيّون"، بل إن حشر الفلسطيني في هوية جوهرانية إرهابية هي الأصل. ففي الصّحافة الإسرائيليّة والغربية كلّما تعرّض الجيش الإسرائيليّ لمقاومة غير منتظرة من الفلسطينيّين، اعتبرتها الصّحافة دليلا على عملهم الإرهابيّ، فحسب الرؤية الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية لا يحقّ للإرهابيّ أن يقاوم، وهذه المفارقة تقع صميم الفكرة الّتي ينهض عليها برنامج "الحرب ضدّ الإرهاب"، هذه الحرب الغريبة الّتي يضحي فيها العدوّ مجرما بسبب دفاعه عن نفسه أو مقاومته.
خلاصة القول أن إسرائيل ليست دولة إرهابية عدوانية وتوسعية فحسب، بل هي أيضا دولة استعمارية استيطانية، تقوم على محو الشعب لفلسطيني، وجعل فلسطين "موطنا" للمهاجرين اليهود من جميع أنحاء العالم، فلم تقتصر الاستراتيجيات التي تنتهجها الدولة الصهيونية على المضايقات اليومية للفلسطينيين الذين يعيشون تحت وطأة احتلال عسكري وحشي. فقد انخرطت الدولة الصهيونية بشكل روتيني في التطهير العرقي بدم بارد وارتكبت المجازر والقتل العشوائي للفلسطينيين، ومارست انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان.
ولا تقتصر إسرائيل على استهداف الفلسطينيين فحسب، بل إن استراتيجياتها في التوسع الإقليمي والهيمنة وممارسة أقصى درجات العنف تستهدف أيضا العالمين العربي والإسلامي. فإسرائيل دولة شاذة تمارس الاستعمار الاستيطاني وتعتمد استراتيجيات الهيمنة والإرهاب والترهيب تجاه أي جهةٍ تعتبرها "معادية"، وهي تمارس إرهاب الخطف، والتهديد، والعمليات السرية ضد أهدافٍ داخل حدودها وخارجها، كما أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المتبقية في العالم التي تمارس نظام الفصل العنصري.
ومن الغريب أن حدود إسرائيل الإقليمية مجهولة، وهي دولة توسعية لم تكفّ عن انتهاج سياساتٍ عدوانية تجاه جيرانها العرب، رغم أنهم لم يعودوا يُشكلون أي تهديدٍ أو إزعاج لأمنها، وهو ما يكشف عن حقيقة الكيان الاستعماري الصهيوني وطبيعة علاقته كمتراس متقدم للغرب الذي تقوده الولايات المتحدة.
x.com/hasanabuhanya