(نجـــــــوم في الحــــرب)
سلسلة حوارات يجريها:
محمــد جمــال قنـــدول
الناطق الرسمي لـ(الكتلة الديمقراطية) د. محمد زكريا أمين الإعلام بالعدل والمساواة لـ(الكرامة):
قيادي بـ(قحت) حاول إقناعي بالمغادرة لأن الحرب (قاب قوسين)..
لو عادت عقارب الساعة ما شاركنا فى تغيير 2019 …
(….) هذا ما قاله وطلبه الفريق أول كباشي قبل الحرب بثلاثة ايام.

.
تعرضت السيارة التي يقودها سائقي الخاص لاطلاق نار وهذا ما حدث(….)
حاولنا تحرير (الحرية والتغيير) من (4 طويلة) ولكن؟!
(لجنة التفكيك) اصبحت ذراعًا باطشًا بسلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية
في هذه المنطقة كنا نسير بين الجثث (….)
(….) هنا عايشنا معاركًا ضاريةً وشرسة
قد تسكتُ حرب الرصاص ولكن (….)؟!
ربما وضعتهم الأقدار في قلب النيران، أو جعلتهم يبتعدون عنها بأجسادهم بعد اندلاع الحرب، ولكنّ قلوبهم وعقولهم ظلت معلقةً بالوطن ومسار المعركة الميدانية، يقاتلون أو يفكرون ويخططون ويبدعون مساندين للقوات المسلحة.
ووسط كل هذا اللهيب والدمار والمصير المجهول لبلاد أحرقها التآمر، التقيتهم بمرارات الحزن والوجع والقلق على وطن يخافون أن يضيع.
ثقتي في أُسطورة الإنسان السوداني الذي واجه الظروف في أعتى درجات قسوتها جعلني استمع لحكاياتهم مع يوميات الحرب وطريقة تعاملهم مع تفاصيل اندلاعها منذ البداية، حيث كان التداعي معهم في هذه المساحة التي تتفقد أحوال نجوم في “السياسة، والفن، والأدب والرياضة”، فكانت حصيلةً من الاعترافات بين الأمل والرجاء ومحاولات الإبحار في دروبٍ ومساراتٍ جديدة.
وضيف مساحتنا لهذا اليوم هو الناطق الرسمي لـ (الكتلة الديمقراطية) د. محمد زكريا أمين الإعلام بحركة العدل والمساواة، فماذا قال في إفاداته:
أول يوم الحرب أين كنت؟
في منزلي بالخرطوم بحري، وكنا نتأهبُ للخروج متوجهين إلى مسكن د. جبريل إبراهيم، وذلك في إطار جهود للتوسط لنزع فتيل الأزمة وقتها بين الجيش والميليشيا، كانت تقوم بها قيادات الكفاح المسلح، وبالتالي قبل الخروج اندلعت الحرب وأصبح التحرك صعبًا، وقبلها بثلاثةِ أيامٍ تناولنا إفطار رمضان في منزل الفريق أول ركن شمس الدين كباشي شخصي مع د. عشر وبابكر عبد الرحمن القيادي بالحزب الاتحادي الأصل ونور الدائم طه من حركة تحرير السودان، وانضم لاحقًا بعد الإفطار مبارك أردول، وكان حديث الفريق كباشي واضحًا بأنّ التقارير جميعها تفيدُ بتحركاتٍ للميليشيا وقتها، وعلينا نحن كقوى سياسية أن نتحرك لإدراك ما يمكن إدراكه، وذكر نصًا(تحركوا من هذه اللحظة). ومنذ وقتها ونحن كنا في عملٍ دؤوبٍ وحَراكٍ نشطٍ جدًا، وفي صبيحة السبت انفجرت الأوضاع لم يكن مدهشًا بالنسبة لنا.
يعني خيار الحرب كان متوقعًا؟
نعم، من واقع التوتر، وهنالك أيضًا شواهد أخرى بالإضافة إلى التوتر الماثل عسكريًا آنذاك مثل: مغادرة بعض قيادات القوى السياسية للخرطوم، وتحديدًا صبيحة يوم الجمعة.
أنت تقصد قيادات “قحت”؟
تحديدًا لا أُريد ذكر أسماءٍ، ولكن هنالك قيادي من مجموعة المركزي ذهب بسيارتي وسائقي الخاص للمطار، وحاول إقناعي أن أرافقه لأنّ الحرب قاب قوسين أو أدنى.
على مدار ثلاثة أيامٍ تحركتم لنزع فتيل الأزمة كما ذكرت، أذكر لنا بعضًا من تفاصيل تلك الأيام التي سبقت الحرب، هل التقيتم المتمرد “حميدتي”؟
نعم.. انعقدت عدة لقاءاتٍ مع “حميدتي” وقتها، شارك فيها من جانب قوى الكفاح المسلح د. جبريل، والحاكم مناوي، والسيد نائب رئيس مجلس السيادة عقار وعدد من قيادات الصف الأول من (الكتلة الديمقراطية).
القوات المسلحة في اللقاءات التي انعقدت كانت واضحةً في موقفها تجاه ما يسمى بعملية الإصلاح الأمني والمؤسسي والآجال التي يجب الالتزام بها لدمج الدعم السريع في القوات المسلحة، بينما قيادات التمرد وقتها كانت تمارس نوعًا من التهرب والمراوغة، وكذلك كان هنالك تبادل أدوار بين “حميدتي” وشقيقه كل طرف يرسلنا للآخر، وكنا نجتهد الالتقاء بالطرف الأول يعني باختصار (كان بضيعوا زمن) حتى اتفقنا أخيرًا على لقاءٍ مشترك يوم السبت يجمع بين البرهان و”حميدتي” ولكن سبق ذلك تمرد الميليشيا.
كيف مر اليوم الأول للحرب عليك؟
أنا أسكن “حلة حمد” بجوار الديار القطرية، والساعات الأولى قذيفة عشوائية أصابت العقار المجاور، وأدى إلى اشتعال العمارة، فاضطررت أن آخذ أُسرتي وأُغادر إلى منطقة الكدرو.
الرحلة ما بين حلة حمد والكدرو؟
شعرتُ بالبؤس والإحباط، وأننا كنُخبٍ سياسية جزءًا مما آلت إليه الأوضاع بالبلاد ونتحمل المسؤولية الأخلاقية، وفي المسار من حلة حمد ومرورًا بالمحطة الوسطى وشارع المعونة، كنا نسير وسط الجثث.
في تلك اللحظات وأنت تنظر إلى أطفالك، ماذا جال في خاطرك؟
الخوف وقتها لم يكن على الأسرة الصغيرة والوالدة، وإنما على الوطن ككل، وأنا أنتمي لحركة مسلحة ضاقت مآسي الحرب، وبالتالي أعلم أنّ الحرب ستكون لها آثارها المخيفة على الإنسان والحيوان، وكانت قراءتي من ذلك الوقت أنّ الحرب قد تبدأ ولكن النهايات غير معلومة.
كم مكثت في الكدرو؟
أكثر من شهرٍ.
ثم أين كانت الوجهة؟
في البدايةِ، رفضت الإخلاء رغم أنني أحمل الجنسية البريطانية، والوضع الصحي للوالدة أجبرني بعض مضي شهر لاصطحابها لإجراء عملية في القاهرة، وفور الاطمئنان على صحتها ذهبت للمملكة واديت عمرة ، لأنّ الإحساس بأنّ النخب وقيادات العمل السياسي يتحملون الوزر الذي حاق بالأمة السودانية.
مأساة عايشتها أيام الحرب؟
كثيرٌ جدًا من المآسي مرت أيام الحرب منها: بعض الأهل وأفراد الأُسرة من الخرطوم كانوا يقصدون الوصول إلينا بالكدرو، وتعرضوا لإطلاق رصاص من الميليشيا بكبري كوبر، وقبيل صعود عربتهم من الخرطوم لكوبر حملوا أحد المارة الواقفين على الطريق، وحينما صعدوا لكوبر تعرضت السيارة التي يقودها سائقي الخاص الذي يقل بعض أفراد الأُسرة للرصاص، وشاءت إرادة المولى أن يتوفى الشخص الذي حملوه من الكبري وجاؤوا بالجثمان حتى البيت في الكدرو، وعايشنا كذلك معارك شرسةً ضاريةً دارت رَحاها في محيط العمارة التي أقطن بها بالكدرو، الأطفال كانوا يختبئون تحت الأسِرة، وزجاج النوافذ يتهشم، والسيارات أمام المنزل حُرقت.
حسرةٌ شديدة؟
لو كان هنالك من ندمٍ، أنا سعيدٌ بأن التغيير الذي حدث 2019، قاد لتوقيع اتفاق السلام الذي أوقف الدماء، ولكن في ذات الوقت هذا التغيير والفشل في إدارته من قبل الفاعلين السياسيين، أدى لوقوع الحرب، ولو عادت عقارب الزمن للوراء لما شاركنا في هذا التغيير بهذا الشكل.
حكومة حمدوك ضخمت الميليشيا؟
مجمل فترة الانتقال الممارسة السياسية شابها روح التشفي والانتصار للذات، لم يكن هنالك وعي بالمخاطر المحدقة بالبلاد، وانفتحت القوى السياسية بشكل كبير على الخارج (المجتمع الدولي)، لكي يتدخل بالشأن السوداني، وهذا التدخل واحدٌ من أسباب تقاطع المصالح ونشوب الحرب.
هذه حربٌ مختلفة عن سابقاتها؟
(الكفاح المسلح) طوال نضالها ضد النظام السابق، كانت تقاتل وفق قواعد الاشتباك والاحترام للقانون الدولي والإنساني، أما هذه الحرب التي نعانيها الآن، يقودها التمرد ضد الدولة بلا ضوابط أو مراعاةٍ لأي قيمٍ، فهي حربٌ موجهةٌ ضد الإنسان السوداني، والوطن ومقدراته، لا تحمل مشروعًا سياسيًا أو هدف، ويقيني أنّ المتسبب فيها الدوائر الإقليمية والدولية، وأنّ قيادة الدعم السريع لو حاولت أن تختار سبيلًا غير الحرب لتمت تصفيتها من الخارج، وأستشهدُ بجون قرنق الذي دعمته الإمبريالية العالمية، وعقب توقيع اتفاق سلام “نيفاشا”، أراد أن يتخلى عن مشروع فصل جنوب السودان ليحكم السودان كله، هذا الأمر تعارض مع مخططات الدوائر الإمبريالية والغربية، وتخلصوا منه، وإذا كان آل دقلو حاولوا كذلك طريقًا غير الحرب لكان تم التخلص منهم بسيناريو أو بآخر، وعمدت لاستبدالهم بآخرين يعملون على تنفيذ أجنداتهم في تفكيك الدولة وإضعاف جيشها الوطني.
عادة فقدتها مع الحرب؟
فقدنا كل ما هو جميل في السودان، من زياراتٍ واجتماعيات الأهل.
بعد عامٍ وأشهر من الحرب، ماذا أنت قائلٌ؟
لايزال الأملُ يحدونا بأن يعُم السلام السودان، وإني على يقينٍ من حدوث ذلك، فقط يقلقني ومهمومٌ كثيرًا بتداعيات الحرب وإفرازاتها على النسيج السوداني، وقد تسكت الحرب بالرصاص ولكن، قد تكون هناك حروبٌ أخرى بأسلحة الكراهية وعدم قبول الآخر، وهذا أكبر تحدٍ بعد الحرب.
ماذا خسرت في الحرب؟
كل ما تم خسارته ماديًا قابلٌ للتعويض، ولكن خسرنا الطمأنينة، وخسرنا الرحابة والطيبة بين السودانيين، وأخشى ألا نجدها بعد الحرب.
الثقة بين المواطن والقوى السياسية تكاد تكون انعدمت؟
هذا طبيعي جراء فشل النخب السياسية في إدارة شأن الدولة، وحياتنا السياسية تحتاج إلى تصحيحٍ، ونحتاج إلى التوافق على عِقدٍ اجتماعيٍ جديد، يؤطر الممارسة السياسية ويجعلنا نتفق على خطوطٍ حمراء مثل: وحدة البلاد، وعدم الخضوع للخارج، وإعلاء الحرية والقيمة الوطنية بالداخل.
بعد التغيير كما ذكرت، كان الاعتماد على المجتمع الدولي، هنالك اتهامات للمكونات السياسية بالعمالة؟
هي تهمةٌ قاسية، ولكن أخشى أنّها تحمل كثير من الصحة، والقوى السياسية لفترة الانتقال تعاملت مع اليمين السوداني بتشفي وانتقام، هذا أدى إلى صراعاتٍ بين قوًى وطنية راشدة حاولت تصحيح مسار الانتقال برفض الممارسات الشائهة على سبيل المثال لا الحصر، ما عرف بلجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو التي أصبحت بقدرة قادر ذراعًا باطشًا يمتلك السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية حتى، في سقوط مريع أيضًا حاولنا تصحيح الأوضاع داخل التحالف الحاكم (الحرية والتغيير) بتحريره من محاولات الاختطاف بواسطة قلةٌ من القوى المدنية تعارفنا على تسميتها (4 طويلة) حتى نصل لقرارٍ مؤسسيٍ داخل (الحرية والتغيير) لبرنامجٍ وطنيٍ، ولكن هذه المحاولات تم رفضها من قبل مجموعات الاختطاف، فأنتج ذلك الوضع التشظي وسط القوى المدنية لمجموعات منها “المركزي” و”الكتلة الديمقراطية” وأخرى.
(تقدم) بعد الحرب، هل بالإمكان أن نقول بإنّها انتهت سياسيًا؟
توقعت جراء مأساة حرب أبريل أن تقوم القوى السياسية بمراجعاتٍ حقيقيةٍ، وأنّ الموت والدمار الذي حاق بالبلاد يمكن أن يشكل صدمةً تنتشلُ قيادات المجلس المركزي من ممارساتهم السابقة في الإقصاء والاختطاف وعدم قبول الآخر، جاءت (تقدم) في محاولة للقفز على كل التعقيدات والتشوهات التي صاحبت المجلس المركزي دون معالجة حقيقةً، وكانت أكبر سقطاتها تحالفها مع الميليشيا التي قتلت الأبرياء وأعني هنا التوقيع الذي جرى بأديس في ٢ يناير مطلع هذا العام.
ما هي العبر والفوائد المستفادة من الحرب؟
الحرب كُلها شرٌ، وإن كانت من عِبرةٍ، فانّ الوطن غالٍ، وأن نعمل لأجل إعلاء قيم التسامح والقبول بالأخر، وأن ننتبه جيدًا للتحديات الأمنية وقضايا المهاجرين الذين فتحنا لهم أبواب الوطن دون رقابةٍ، وكذلك ألا تنساق المجموعات الشبابية والوطنية خلف دعوات التغيير المستجلبة من الخارج.

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الکتلة الدیمقراطیة الحریة والتغییر القوى السیاسیة

إقرأ أيضاً:

"لا أرض أخرى".. عن سؤال الحرية بين ضلوع الاحتلال

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

بعد تتويجه بجائزة الأوسكار، الأسبوع الماضي، أصبح الفيلم الفلسطيني "لا أرض أخرى" للمخرجين باسل عدرا، ويوفال إبراهام، وبلال حمدان، وراشيل سزور، حديث العالم والأوساط السينمائية الغربية، كونه أول فيلم في تاريخ فلسطين ينال هذه الجائزة العريقة؛ لتضاف إلى سلسلة من الجوائز التي حصدها الفيلم (68 جائزة) على مدار عام منذ بدء عرضه في مهرجان برلين السينمائي عام 2024.

ولكن ما أثار حديث الأوساط السينمائية والسياسية أيضًا، هو موجة الإزعاج الأشبه بحجر ألقى في مياه راكدة، التي سببتها رواية عدرا وإبراهام الجريئة والمؤلمة، عن الجرائم البشعة التي يرتكبها الاحتلال في قرية مسافر يطا في الضفة الغربية ومحاولاتهم المتكررة لتهجير سكان المنطقة لبناء المستوطنات. ورغم التعنت في إصدار الفيلم في الولايات المتحدة بسبب رفض الموزعين عرض الفيلم لخوفهم من الرواية المضادة، إلا أن الفيلم نجح في اقتناص الجائزة الأرفع هناك.

يتتبع الفيلم - ذو الإنتاج الفلسطيني النرويجي المشترك - حياة الفلسطينيين في مسافر يطا، وهي منطقة قريبة من الخليل في جنوب الضفة الغربية المحتلة، والتي أعلنها الجيش الإسرائيلي "منطقة عسكرية مغلقة". تحت هذا الادعاء، يتعرض السكان الفلسطينيون باستمرار للمضايقات من قبل الجيش والمستوطنين غير الشرعيين، وتُهدم منازلهم، مما يجعلهم بلا مأوى. يروي الفيلم القصة من خلال عدسة المخرجَين المشاركين، باسل عدرا، الناشط الفلسطيني، ويوفال أبراهام، الصحفي الإسرائيلي.

وُلِد عدرا في عائلة من الناشطين، في قرية أُعلن أنها محظورة على الفلسطينيين، وتحالف سكانها مع مجموعة قانونية إسرائيلية للاحتجاج على طردهم القسري. ويبدأ الفيلم في عام 2022 عندما تحكم المحكمة العليا الإسرائيلية بشكل مشكوك فيه لصالح الإخلاء، بعد معركة قانونية استمرت 22 عامًا، لتبدأ حملة رسمية من التدمير يلتقطها عدرا ورفاقه بتفاصيل دامغة وصادمة وقاسية.

 

رواية في الوقت المناسب!

يصف الناقد جاي لودج، في مراجعته بموقع "فارايتي"، فيلم "لا أرض أخرى"، بأنه جاء في الوقت المناسب (أي بعد أحداث 7 أكتوبر، والغزو الإسرائيلي لقطاع غزة)، ولكن من خلال تصويره الممتد لسنوات للخطر المميت والضغط النفسي الناجم عن العيش تحت وطأة الاحتلال، يؤكد الفيلم أن الوضع كان في نقطة أزمة لفترة طويلة، سواء كان يتصدر عناوين الأخبار الدولية أم لا. 

بدأ المشروع في عام 2019، عندما التقى عدرا بيوفال إبراهام وراشيل سزور ، الصحفيين المقيمين في القدس الذين يغطون عمليات الإخلاء الإسرائيلية للسكان المحليين. وبالتعاون مع حمدان بلال، وهو ناشط آخر من سكان مسافر يطا، شكلا مجموعة لصناعة الأفلام، والتي على الرغم من تكوينها الفلسطيني الإسرائيلي، لا تهتم كثيراً بالجانبين. 

ولكن التجربة الفلسطينية ووجهة النظر الفلسطينية هي محور الفيلم طوال الوقت. كما تم التأكيد بشكل واضح على الهوة بين معرفة عدرا وإبراهام بالصراع.

يبدأ الفيلم في صيف عام 2019، وينقسم إلى فصول موسمية توضح الهجوم الشرس الذي يشنه الجيش الإسرائيلي على مسافر يطا - والذي يحبط باستمرار محاولات القرويين لإعادة بناء ما تم تدميره - وتأثيره التآكلي على روح عدرا، ناهيك عن مجتمعه ككل. 

ينظر عدرا إلى الجرافات وهي تتكدس في المنازل وأقلام الماشية وحتى أقفاص الحمام، مما يفسح المجال لقاعدة تدريب دبابات إسرائيلية مقترحة، ويعرب عن أمله في أن تجذب مقاومة السكان على الأرض انتباه القوى العالمية الكبرى، وتضغط على إسرائيل للتوقف.

ولكن هذا التفاؤل الساذج لا يصمد مع تقدمنا ​​سريعًا إلى شتاء عام 2020، حيث نواجه على الفور أعمال هدم مماثلة. فعندما يواجه أحد سكان القرية، هارون أبو عران، الجنود الذين يصادرون مولده، يطلقون النار عليه في صدره، مما يجعله مشلولًا من الكتفين إلى الأسفل. 

ويقدم فيلم "لا أرض أخرى" مثل هذه اللقطات المروعة برصانة صادقة، ولا يساهم إلا بقليل من التعليق حيث تتحدث الصور عن نفسها.

 ويتتبع صناع الفيلم حالة أبو عران المتدهورة على مدى العامين التاليين، حيث يجد هو ووالدته المنكوبة ملجأ مؤقتًا في كهف، بينما تتعب هي من المراسلين الدوليين الذين يزورون فقط لتوثيق مأساتهم، دون أن يقدموا أي شيء في طريق التغيير أو الإغاثة.

ومع تقدم الفيلم عبر السنوات نحو نهاية عام 2023، ينشأ نمط انتظار رهيب، حيث تصبح عمليات الهدم المفاجئة - حتى في حالة مروعة، لمدرسة أثناء انعقادها، مما أدى إلى إخلاء مذعور - أمرًا روتينيًا. تتوالى جهود إعادة بناء المجتمع، في الغالب ليلاً، وتقابلها الجرافات مرة أخرى. تواجه الاحتجاجات مرارًا وتكرارًا معارضة الشرطة العدائية، وغالبًا ما يلقي عدرا بنفسه في خضم الصراع وسحب الغاز المسيل للدموع. ببطء، يبدأ سكان مسافر يطا في الاعتراف بالهزيمة، حيث يحزم الكثيرون أمتعتهم وينتقلون إلى شقق ضيقة في المدينة، كما يصفها لودج.

إن زيارة توني بلير، بصفته مبعوثاً خاصاً للجنة الرباعية في الشرق الأوسط، تضمن تأجيلاً لواحدة من القرى التي من المقرر أن تهدمها إسرائيل، ولكن عدرا لم يبد أي انبهار. ويقول: "إن هذه قصة عن القوة"، والناس الذين يعيشون بشكل دائم في ظل هذه الأزمة لا يتمتعون بأي قوة. بل إن العلاقات تتوتر بين المخرجين الأربعة، أو هكذا تريدنا بنية الفيلم أن نصدق: يتساءل بلال بصوت عالٍ كيف يمكنه أن يحافظ على صداقته مع أي إسرائيلي في ظل هذه الظروف. ويعلن إبراهام تحالفه، ويصر على أنه يريد إنهاء الاحتلال. فيرد بلال: "كيف يساعدني هذا؟".

ويصف لودج صناعة الفيلم بأنها كانت مُحكمة ومدروسة، مع مونتاج سريع (من قبل المخرجين أنفسهم) يلتقط إحساس الوقت الذي يمر ويعود إلى نفسه في نفس الوقت. 

والتأثير المذهل للتسلسلات المكثفة من المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية في الفيلم - والتي يتم تصويرها غالبًا بكاميرات الهواتف المحمولة، مما أثار ذهول المسئولين العسكريين، والتي كانت عنيفة بما يكفي لصدمة العديد من الجالسين على الحياد بشأن القضية ودفعهم إلى الوعي الغاضب - متوازن مع مشاهد أكثر هدوءاً وملاحظة لعدرا وعائلته وجيرانه وهم يحاولون عيش حياة يومية على أرض يتم سحبها من تحت أقدامهم باستمرار. يتلاشى الأمل في أن يتمكن الجيل القادم من الاحتفاظ بأرض أجدادهم؛ وإذا فعلوا ذلك، فمن المرجح أن يرثوا معها نشاط عدرا.

وتشير أدريان هورتون في مقالها بموقع "الجارديان" بأن الأدلة التي قدمها المخرجون ـ عدرا، والصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام، وصانع الأفلام والمزارع الفلسطيني حمدان بلال، والمصورة السينمائية والمحررة الإسرائيلية راشيل سزور ـ واضحة ومباشرة، وغير مبالغ فيها، ومثيرة للغضب الشديد. ولا يوجد ما يقال غير ما قيل بالفعل عن قضية السيادة الفلسطينية، وجرائم الحرب التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية، والوضوح الأخلاقي الذي يتسم به أولئك الذين ينادون بإنهاء العنف والاحتلال.

 إن فيلم "لا أرض أخرى"، إذا ما وصل إلى دور العرض سيضمن أن الناس لا يستطيعون إنكار ذلك؛ وأن هناك نموذجاً للتعايش والأمان المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ وأنه لا يوجد ما يبرر حملة التدمير العشوائي واليأس في الضفة الغربية، تماماً كما حدث في غزة والآن في لبنان.

وترى هورتون أن الفيلم يقدم لنا بإيجاز تفاصيل الحياة اليومية الريفية للمجتمعات الزراعية في الغالب في مسافر يطا، وهي مجموعة من 20 قرية فلسطينية في الحافة الجنوبية الجبلية للضفة الغربية، والنضال الجيلي للحفاظ عليها ضد الاحتلال الإسرائيلي المتزايد العنف. 

والفيلم صريح وإن كان موجزًا ​​للغاية في عرض الحقائق: في عام 1980، أعلنت الحكومة الإسرائيلية مسافر يطا "منطقة مغلقة" للتدريب العسكري، على الرغم من أن الوثائق الحكومية تكشف أن الغرض الحقيقي كان تهجير القرويين الفلسطينيين لصالح المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية.

حيث يواصل عدرا عمله في تسجيل التوغلات الإسرائيلية في قرى مسافر يطا، ونشر مشاهد لا يمكن إنكارها للاحتلال على وسائل التواصل الاجتماعي: جرافات تسحق منازل العائلات بينما يبكي الأطفال، وحفار يدمر عمداً مرحاض إحدى العائلات، ومسئولون يسرقون مولداً كهربائياً لعائلة أخرى، وشرطة تملأ الآبار بالإسمنت.

جنود قوات الدفاع الإسرائيلي - السود والعرب والبيض، ذكوراً وإناثاً - الذين لا يظهرون أي تلميح إلى الضعف، ينفذون عمليات هدم المنازل ببرودة النظام القانوني. العائلات مجبرة على التجمع في الكهوف بينما يحاولون إعادة بناء الهياكل البدائية في الليل. تقول امرأة مسنة بعد تدمير منزلها: "ليس لدينا أرض أخرى، ولهذا السبب نعاني من أجلها". وفي وقت لاحق، أطلق جنود إسرائيليون النار على ابن المرأة وأصابوه بالشلل، في واحدة من عدة أعمال عنف جسدي التقطها صناع الفيلم.

ففي مشهد مبكر، تم تصويره في عام 2019، يعبر عدرا ومجتمعه عن أملهم في أن تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا كافية على إسرائيل لوقف الطرد، وهي فكرة معقولة بما فيه الكفاية لكنها تبدو الآن غريبة ومحزنة. إن إدانة للتواطؤ الغربي لا تقل إدانة عن أي شيء قيل بعبارات أكثر صراحة في الاحتجاجات العديدة في الخارج.

ولكن من وجهة نظر هورتون، ما خلقه صناع "لا أرض أخرى" هو حالة واضحة ونموذج في خصوصيته. تتخلل مشاهد الاحتجاج محادثات متوترة وطبيعية بشكل ملحوظ بين عدرا وإبراهام حول الشكوك المتبادلة والتعقيدات وضرورة الروابط الفلسطينية الإسرائيلية التي تظهر ثقة جذابة تم اكتسابها بشق الأنفس؛ يستكشف الفيلم بمهارة اختلال التوازن في القوة بين عدرا، المكبل في تحركاته، وإبراهام، الذي يستطيع القيادة بعيدًا في الليل.

 

حرية الاحتلال المشروطة

تصف لوفيا جياركي في مقالها بموقع "هوليوود ريبورتر"، أنه من بين اللحظات المدمرة العديدة في الفيلم الوثائقي المذهل "لا أرض أخرى" الذي أنتج بواسطة مجموعة من المخرجين الفلسطينيين والإسرائيليين، مشهد هدم الجرافات للمدرسة الوحيدة في مسافر يطا، وهي قرية ريفية في الضفة الغربية المحتلة. فقبل أن تهدم الآلات الجدران مباشرة، هربت مجموعة من أطفال المدارس، الذين احتجزهم الجيش الإسرائيلي داخل المبنى، عبر النوافذ المفتوحة. 

لقد بنى أهالي مسافر يطا هذه المدرسة معًا على الرغم من المحاولات العديدة لمنعهم. وفي وقت سابق من الفيلم، يروي عدرا كيف وضعت والدته خطة للالتفاف على عداوة قوات الدفاع الإسرائيلية. فقد أمرت النساء والأطفال بالعمل في موقع البناء أثناء النهار، بينما يتولى الرجال العمل في الليل. كان الظلام يمنحهم الأمان ويحميهم من الجيش.

وعندما انتهى أهل البلدة من المشروع ــ وهي عملية بطيئة وشاقة - اكتسب المشروع اهتماما دوليا. فسافر توني بلير، رئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك، إلى مسافر يطا وتجول حول الهيكل الذي أقيم حديثا. وبعد زيارته، أوقفت إسرائيل خططها لهدم المباني في المنطقة. 

ويقول عدرا بعد مشاركة هذه الذكرى: "هذه قصة عن القوة". وينطبق هذا على مواضيع متعددة، كالنضال من أجل بناء المدرسة، واحتلال مسافر يطا والضفة الغربية، ومستقبل الفلسطينيين الذين يعيشون تحت القبضة الحديدية لما يعتبر على نطاق واسع نظاما للفصل العنصري . 

وتري جياركي أن "لا أرض أخرى" يركز على المعارك القانونية التي استمرت لعقود من الزمن، والظلم المزمن والإذلال اليومي الذي يواجهه الفلسطينيون في الضفة الغربية. ويُظهِر الفيلم تأثير 75 عامًا من الاحتلال، بدءًا من نقاط التفتيش والتصاريح إلى القوانين والسياسات العنصرية. والفيلم الوثائقي، مثل المدرسة في مسافر يطا، متواضع المظهر لكنه يعكس روحًا راديكالية.

تتخلل الفيلم لقطات من الترهيب العسكري وعنف المستوطنين الإسرائيليين، والتي صورها عدرا وأبراهام والعضوان الآخران في مجموعتهما، المصور حمدان بلال والمصورة السينمائية والمحررة راشيل سزور. يتم ربط هذه العناصر معًا بلغة بصرية غير مزخرفة. فكما ترى جياركي أن الفيلم يعمل ضمن المنطق القائل بأن الأدلة البصرية ستحفز الجمهور على الاعتراف بالوحشية التي يواجهها الفلسطينيون. 

يقيس عدرا حياته بلحظات المقاومة وليس بالسنوات. ومن خلال التعليق الصوتي، نتعرف على أن المحامي الشاب ينحدر من عائلة من الناشطين. لقد ورث نضالًا، وفي فيلم "لا أرض أخرى"، نرى كيف يجب على عدرا التفاوض على حاضر محدد بنفس المعارك التي خاضها والداه. يقضي أيامه في تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات؛ وتوثيق الانتهاكات التي يرتكبها جيش الدفاع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين؛ وفي وقت لاحق، عندما تحظى قصة مسافر يطا بمزيد من الاهتمام، يجلس لإجراء مقابلات مع الصحافة الدولية.

يظل الفيلم قريبًا من موضوعاته ويشهد على قدرة مجتمع مسافر يطا على الصمود. ويتطلب الأمر الشجاعة والإقناع لإعادة البناء بعد كل عمل من أعمال التدمير. ولكن إعادة البناء تتطلب أيضاً ثمناً باهظاً، وينقل لنا فيلم "لا أرض أخرى" التأثير العاطفي والعقلي للقمع. والفيلم ليس وثيقة للحلول، ولكنه يضع نفسه في موضع خطوة في الحركة نحو مستقبل يتمتع فيه الفلسطينيون بنفس الحرية التي يتمتع بها الإسرائيليون. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟.

تضع جياركي تصوراتها في المدرسة التي ساعد والدا عدرا في بنائها، وكيف أوقفت الحكومة الإسرائيلية خطط هدمها بعد زيارة واحدة من رئيس الوزراء بلير. وأنا أزن قوة تلك اللحظة في مقابل حقيقة مفادها أن مجلس الشيوخ الأميركي وافق مؤخراً على تقديم 14 مليار دولار كمساعدات لإسرائيل في الوقت الذي يتزايد فيه عدد القتلى الفلسطينيين ويتضور الناس جوعًا.

بغض النظر عن ردود الفعل العنيفة التي صاحبت فوز الفيلم بجائزة الأوسكار من جانب حكومة الاحتلال، يمثل "لا أرض أخرى" إنجازًا كبيرًا للسينما الفلسطينية التي وصلت مرتين من قبل للقائمة النهائية بفضل المخرج هاني أبو أسعد، الذي ترشح للمرة الأولى عام 2005، بفيلم "الجنة الآن"، وتدور أحداثه حول الشابين الفلسطينيين سعيد وخالد يعيشان في مدينة نابلس في فلسطين وهم من أصدقاء الطفولة يخططان للقيام بعملية فدائية في قلب العاصمة الاسرائيلية تل أبيب بعد التنسيق مع أحد المنظمات الفلسطينية، إلا أن الأمور لا تسير كما هو مخطط لها.

وبعد 8 سنوات، وصل أبو أسعد للقائمة النهائية مرة أخرى بفيلم "عمر"، والذي تدور أحداثه حول شابٍ فلسطيني مناضل، يعشق مراوغة الرصاص المتساقط من أعلى الجدار العازل، إلى جانب عشقه المميت لإحدى الفتيات. 

وفي يومٍ ينتقل عمر إلى الجانب الآخر من الجدار حيث يصبح مقاتلًا شرسًا يعمل خبازًا ويُلاحَق في عدة مطاردات حتى يتم ضبطه أثناء تنفيذه إحدى العمليات، حينها تراوده الشكوك بخيانة رفاق دربه له أو شقيق حبيبته وهو الأمر الذي يمزقه تمامًا كما خارطة فلسطين.

مقالات مشابهة

  • الشرعية تلوح مجددا بخيار الحرب وتتحدث عن الضرر الذي جاء من البحر الأحمر
  • كيف أدارت المقاومة حربا نفسية تفوقت على السردية الإسرائيلية؟
  • الإعلام الأمريكي يشيد بالأسلحة الروسية التي تفوق قدرات قوات كييف
  • جون ويندهام.. رائد الخيال العلمي الذي تنبأ بكوارث المستقبل
  • أمين عام الأمن والتعاون في أوروبا يؤكد استعداد المنظمة لدعم إنهاء الصراع بأوكرانيا
  • فلترق كل الدماء ولكن من المستفيد؟
  • "لا أرض أخرى".. عن سؤال الحرية بين ضلوع الاحتلال
  • «مدرسة جميلة» ومربي فاضل هو «ابن» سرحتها الذي غنى بها
  • مدير العلاقات العامة في وزارة الإعلام لـ سانا: ننفي الشائعات التي تنشرها وسائل إعلام إيرانية حول هروب أبناء الطائفة العلوية في دمشق إلى السويداء، ونؤكد أن الخبر ضمن سياق الحرب الإعلامية التي تستهدف سوريا الجديدة ووحدتها
  • رمضان يخفف من قساوة التحديات التي يواجهها رواد الأعمال السودانيون