عندما تتبرج الحقيقة تقشعرّ الأبدان
تاريخ النشر: 23rd, September 2024 GMT
خالد فضل
(1)
ليرحم الله عمّنا الحاج مضوي محمد أحمد، الذي نال عضوية مؤتمر الخريجين بشهادة الوعي التي هي أرفع من شهادات المدارس! سأله محرر في صحيفة الرأي الآخر ذات يوم على أخريات السنوات في القرن الماضي عن رأيه في جلطة؛ مما كانت تفعله (الحكومة) آنذاك؛ حكومة الإنقاذ طبعا. فأجاب بسؤال للمحرر: يا ولدي لو كان ما تصف هي (حكومة) بالله عليك كدي وريني (العصابة) تكون شنو؟ سؤال الحاج مضوي لخّص الحقيقة المرّة، وهي تقدل عارية لا يستر جسدها مزعة من لباس، ولأنها أنثى، تبرز مفاتنها، تقشعرّ أبدان من جبلوا على (المغتغت ده) تاني وين تلقا.
القدس عروس عروبتكم، أهلا
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم، وتنافختم شرفا
وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض
فما أشرفكم!
أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة؟
(2)
د. عائشة البصري، التي عملت ناطقة رسمية باسم البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة للسلام في دارفور (يوناميد)، أشارت في مقابلة مؤخرا مع راديو دبنقا إلى حقيقة جوهرية وعارية تماما، وهي أنّ الأزمة في السودان؛ كما في عدة بلدان عربية أخرى، ليست في وقف العنف، وإنما في بناء الدولة نفسه، المشكلة هي فشل دول ما بعد الاستقلال في بناء الدولة الوطنية، إذ لا توجد دولة مؤسسات تقوم على المواطنة، وتحترم تعدد الإثنيات والأديان والثقافات، دولة تقوم على احترام وسيادة حكم القانون، ودولة مدنية طبعا.
هذا هو الجوهر الذي تحوم حوله عصبية بعض كبار من يوسمون بالمثقفين السودانيين، ولا ينفذون إليه عندما يبررون موقفهم من الحرب الطاحنة الدائرة في بلادنا منذ الاستقلال في الحقيقة؛ وما حرب 15 أبريل 2023 سوى تجلي للأزمة التاريخية، لهذا فإن النظر إليها بمعزل عن تأسيسها السابق يعتبر من خطل الرأي في تقديري.
مثلا، هلا تمعنّا ببصيرة في مداولات الجمعية التأسيسية في أواخر الستينات عندما تم طرح دستور الدولة الإسلامية لأول مرّة في واحدة من أهم مؤسسات الدولة الحديثة (البرلمان) عندما سأل العضو المرحوم فيليب عباس غبوش عن إمكانية تولي غير المسلم للرئاسة في ظل الدستور المقترح، وكانت إجابة الراحل د. حسن عبدالله الترابي _الفقيه الدستوري البارع_ (لا) فصيحة.
ما المرجو لبناء الدولة إذا كانت بعض وظائفها، بل أهمها وهو رأسها مما لا يجوز تقلده لبعض مواطني تلك الدولة بحجة أن دستورها يخص بالوظائف أصحاب دين معين؟ لم يبق أمام المعتقدين في الأديان الأخرى سوى سبيلين اثنين، إمّا الخنوع والرضا بالدرجة الدنيا من حقوق المواطنة في وطنهم المفترض، أو جمع الوليدات ولملمة (البقج) والسياحة في أرض الله الواسعة بحثا عن وطن بديل!! وفي كلتا الحالتين ينهار بناء الدولة.
(3)
وهو ما حدث في السودان فعلا لا قولا، لدرجة وصول الحال بمؤسسات الدولة _التي يجب أن تحترم سيادة حكم القانون_ ترفض الانصياع لقرارات المحكمة حارسة (القانون) والمفتي الرسمي فيه، النموذج قرار حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين للبرلمان في الستينيات من القرن الماضي.
أمّا مؤسسة الحداثة التي يطوف حول معبدها بعض من يسمون مثقفين؛ وأعني (الجيش)، فإن قائده الراحل برتبة الفريق إبراهيم عبود، تجاوز حدود المؤسسية، وطوى القانون تحت جزمته (البوت)، ورضي أن يكون خارقا للدستور عوضا عن مهمته (حاميا) له، ومن 17 نوفمبر 1958 وحتى تاريخ كتابتي لهذه الكلمة ما يزال المعبد كما هو قائم خارق لكل عهد، يذيع أحد منسوبيه بيانا مهما وهو في حالة زهو، ومع كل بيان من بين شفتين ولسان فوقهما (طربوش) تتناثر طويبات بناء الدولة الحديثة، ويقتلع ساسها ومع ذلك ما تزال ثلة من الذين تخرجوا في المدارس يطوفون حول الهيكل الخاوي، بل ينشرون غيّهم على بقية الشعب؛ وفيهم من لم يتعلم أو تعلم، لكن لم يفلح القلم في إزالة العلم كما تقول حكمة سائدة! يريدون من الناس أن تواصل الطواف حول المؤسسة الضالة باعتبارها مؤسسة حداثوية، فتأمل في شقاء الحداثة! ولك تصور رد قائد الجيش الأمريكي على طلب ترامب بالتدخل وفرض هيبة الدولة؛ لأن سجالا ديمقراطيا مدنيا سلميا قد دار بين المرشحين، وخسر فيه صاحبنا. أو لك تخيل بالإنجليزي (مستر توم) ينعق من على منصة أمام بوابات 10 داوون ستريت، يا شارلمان يبيع البيان؛ وشارلمان هذا اسم مفترض لقائد الجيش الإنجليزي، فيأخذ الشارلمان الإذن من نائبه مستر (جيفيرتي) ممول المنصات تلك وغيرها من جيوب وحسابات وعمارات، ثم يزيين البيان. هذه هي الحداثة في أبهى حللها!!
والدكتورة بت البصري؛ حياها الغمام تشير إلى الحقيقة، بناء الدولة لا يكون إلا مدنيا، ديمقراطيا، يقوم على أسس المواطنة، وسيادة حكم القانون، وكفالة وصيانة حقوق الإنسان فما الذي يطرحه كل داعية للحرب من مؤيدي جيش البرهان أو جيش نائبه حميدتي!! وما المرجو من تشكيل حكومة في بورتسودان من التيار الإسلامي العريض بقيادة الشيخ علي كرتي قدّس الله سره، وتنسيقية القوى الوطنية (تقوم)؛ بناء دولة حداثوية أليس ذلك كذلك!! مثلما ما المرجو من حكومة يكونها الأشاوس _ وهي الصفة التي أطلقتها أخوات نسيبة على عناصر مليشيا الدعم السريع عندما كانت اليد التي يبطش بها نظام الإسلاميين الغابر، وحماية الرئيس المخلوع البشير _ الأشاوس هؤلاء ما هي قصة السلطة التي سيؤسسون حال دان لهم الأمر؟ دولة مؤسسات مدنية؟ أم دولة (الفزع /الغنيمة)، والمقدمات تشير إلى النتائج على كل حال!
(4)
الدولة المدنية القائمة على المؤسسية وسيادة واحترام حكم القانون وأساسها المواطنة؛ هكذا مجردة من أي صفة لاحقة أو سابقة، لا تكون إلا علمانية عدييل، بمعنى أنّ مرجعيتها القانونية هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقات والعهود الدولية المعززة لهذه الحقوق في مختلف أوجه النشاط البشري، فلا مجال للمراوغة باسم قوانين العقوبات التلمودية _مع فائق الاحترام والتقديس المستحق لجميع الأديان والمعتقدات_ بيد أنّ بناء الدولة الوطنية التي توفر الأديان والمعتقدات يتطلب وضعها في مكانها الصحيح، كشؤون خاصة بمعتنقيها فقط، وليس من اختصاص هياكل ومؤسسات الدولة _ وساعتئذ فقط تصبح لهذه المقدسات حرمتها وقداستها، أما المتاجرة باسم الدين، واستغلاله في بناء الدولة الوطنية، فهذا عبث لا طائل من ورائه، ولن يورث البلد سوى التفتيت والعنف والانهيار، وتجربة السودانيين الحاضرة تؤكد الحقيقة العارية التي تقشعر لها الأبدان.
ومع اقشعرار الأبدان المرجو تحريك العقول قليلا لتجاوز الغلالة التي تحجب الرؤية عن جوهر الحقيقة عوضا عن محاولة لف غلالة جديدة لمزيد من الغتغتة والدسديس؛ كما يقول ثوار ديسمبر! ومن الدلالات الروغان بأن الجماعات الإسلامية لا تمثل الإسلام، من الذي يمثله يا فالح إذا؟ بالنسبة لي الإجابة واضحة وضوح الحقيقة العارية، دولة المواطنة والمؤسسية القائمة على هدى ومبادئ حقوق الإنسان كما في العهود الدولية.
في الدنمارك مثلا، كانت زوجة رئيس الوزراء تعمل مدرسة في إحدى المدارس الحكومية طبعا _ التعليم العام هناك حق إلزامي ومجاني_ قرر مدير المدرسة أنّها يجب أن تخضع لمجلس تحقيق مهني لشكوك حول قدراتها في المهنة، من حقها إحضار أي شخص تختاره ليكون حاضرا وشاهدا لسير عملية التحقيق الإداري، بالطبع كان الشخص هو زوجها، فلم تفرش له البسط الحمراء، ولم يستقبله وزير التربية والتعليم بحسب البرتكول؛ لأنه لم يكن في مهمة رسمية، بل مهمة شخصية. بنهاية التحقيق المحضور والمشهود من جانب زوجها؛ وليس رئيس الوزراء في هذه الحالة، تقرر فصلها من الخدمة، ذهبت إلى تربيتها في مكتب المعلمين لجمع حاجاتها، وودعت زميلاتها وزملاءها، وخرجت إلى غير رجعة. هذه هي روح الدين وتعاليمه الجوهرية لا تحتاج إلى تأسيس مليشيات تدافع عنه بقتل الناس وقصفهم وذبحهم (شخ) من الأضان للأضان كما قال صديقنا محمد محمد خير الشاعر الرقيق _ رد الله غربته_ ولذلك ليس غريبا أن تكون الدنمارك في المرتبة الأولى في تطبيق معايير إسلامية الدول بدون أن تهتف جحافل البراء (فليعد للدين مجده، أو ترق كل الدماء)، المسألة في تقديري سهلة وميسورة، تجاهل كل من يزعم تديين الدولة، وجعله وحيدا يتلفت حتى يثوب إلى رشده، أو يرتكب جناية تأخذه الشرطة إلى التحقيق ليجد هناك معايير حقوق الإنسان كاملة غير منقوصة، فيعرف أن ما كان يهرف به مجرد أوهام، أما الحقيقة فهنا.
الوسومخالد فضلالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: خالد فضل حقوق الإنسان بناء الدولة حکم القانون
إقرأ أيضاً:
افرام: ستتغيّر مقاربة الملف اللبنانيّ بعد الانتخابات الأميركيّة
توقّع رئيس المجلس التنفيذيّ ل"مشروع وطن الإنسان" النائب نعمة افرام أن" تتغيّر طريقة مقاربة الملفّ اللبنانيّ بعد الانتخابات الأميركيّة، وأن تنتهي الحرب في عهد الرئيس الجديد المنتخب أسرع ممّا كانت ستنتهي عليه في السابق".
وأضاف:" مبدأ الرئيس ترامب في ما يتعلّق بالحروب والنزاعات المندلعة في العالم يشبه شعار الجيش الروماني قديماً: "من يريد السلام يحضّر للحرب". فهو يطرح السلام من منطلق القوّة والجرأة، أي أنّ باستطاعته إشعال الحرب إلاّ أنّه وفي الوقت عينه يدعو الآخرين إلى القبول بالسلام. ولأميركا مصلحة في وقف الحرب الدّائرة في الشّرق الأوسط، لأنّها في أقلّ تقدير تسبّب لها نزيفاً ماليّاً هائلاً لجهة التسليح، ونظراً إلى حجم العجز الهائل في الاقتصاد الأميركيّ وكلفة خدمة الدين".
واعتبر أنّه "لا تزال هناك فرصة للموفد الرئاسيّ الأميركيّ أموس هوكستين في الفترة الإنتقاليّة بأن يتمكّن بمحاولة أخيرة من الوصول إلى وقف لإطلاق النار وتنفيذ الـ1701 بكامل مندرجاته وبشكل واضح مع سلطة موسّعة لقوّات اليونيفيل والجيش اللبنانيّ، وإيجاد حلّ للمشاكل الحدوديّة العالقة والنقاط المتنازع عليها، ولسوريا دور مهم إذ عليها تقديم دليل على أنّ مزارع شبعا لبنانيّة".
أضاف:" يجب أن نخرج من الصراع وأن لا نكون وقوداً لمشاريع لسنا معنيّين مباشرة بها واللبنانيّ لا يجب أن يموت عن غير لبنان. واليوم هناك نفس جديد في العالم كلّه تُفتح معه صفحة مهمّة ترتكز على مبدأ "Win-Win" حيث تستفيد جميع الأطراف. فخلق القيمة المضافة وتوزيعها أصبح الأولويّة بما يعود بالنفع على الجميع. لذلك، يجب أن ننصرف سريعاً إلى تطبيق القرار 1701 بحذافيره وبكلّ مندرجاته والتأكيد للمجتمع الدولي أنّ الجيش هو من يحمي حدودنا، ونبادر إلى بناء الدولة وإلّا نكون أشبه بـ"مشاع" فـ"الرزق السايب يعلّم الناس الحرام".
وعن المرحلة المقبلة قال: "ستكون صعبة وفيها ضغط كبير خصوصاً في ما يتعلّق بأزمة النازحين واحتمال عدم قدرة نسبة كبيرة منهم بعد أشهر على دفع الإيجارات وتأمين المساكن. ووحدها المؤسّسات الشرعيّة تحمينا والجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة مدعوّة للتصرّف سريعاً وبحكمة في حلّ أيّ من النزاعات بين النّازحين والمضيفين، لأنّ "القلة تولّد النقار" ولا نريد أن نصل إلى مشاكل داخليّة".
وعمّا حصل في البترون قال:" لا يختلف عمّا يحصل في لبنان أجمع من خرق لأنّنا شرّعنا أبوابنا، وقد حان الوقت لإعادة إقفالها من خلال فصل الساحات، ووقف إطلاق النار، والالتزام بالـ 1701 ومندرجاته، والعودة الى خيمة الدولة الشرعيّة والانصراف إلى بناء دولة المؤسّسات القويّة".
وختم طالباً أن" يكون مشروعنا المشترك في لبنان هو بناء مؤسّسات الدولة اللبنانية بعيداً من الطائفيّة والمحاصصة السياسيّة "والنفس يجب أن يتغيّر"، وانتخاب الرئيس القادم هو التزام من قبل كلّ نائب وكتلة نيابيّة بهذا المشروع. فللأسف مؤسّسات الدولة تحوّلت إلى غنائم حرب بفعل المحسوبيات وطريقة التوظيف والمحاصصة، وهذا يجب أن ينتهي، وعنوان المرحلة المقبلة يجب أن يكون عنوانها الاقتصاد وتأمين الحماية الاجتماعيّة والاستقرار والنموّ".