لجريدة عمان:
2024-12-27@19:14:46 GMT

الرائحة بين عقلانية الفلاسفة وعاطفة الأدباء

تاريخ النشر: 23rd, September 2024 GMT

أثناء البحث فـي موضوع العطر فـي الأدب قادتني غواية المطالعة إلى قراءة بعض المصادر والمراجع التي اهتمّت بموضوع العطر والرائحة وكيف تعامل معها الإنسان وخاصة نخبة المجتمع، إذ اختلفت نظرة الفلاسفة إلى الروائح عن نظرة الأدباء والفنانين على امتداد التاريخ، وهذه الأحكام جاء من يعارضها من المدارس الفلسفـية لاحقا، ولكن فـي بداية الأمر لم يتسامح أفلاطون مثلا تجاه الروائح فقد «حمل حملة على العطور واعتبرها من اللذة الجسدية فـي زمن كان استعمال المعطرات وقفًا على بائعات الهوى» (بيت فرون، الرائحة: أبجدية الإغواء الغامضة، 2010)، لم يكتف أفلاطون بذلك بل دعا الفضلاء «ألا يهتموا بغير تنمية الخير فـي نفوسهم بالاستماع إلى الموسيقى وتعلم الرياضيات، فما الجسد إلا بكل روائحه إلا مجرد قبر للروح».

كان سقراط أقل حدية من أفلاطون تجاه الرائحة فاعتبرها دلالة على الوضع الاجتماعي للفرد، وقد نهج العديد من الفلاسفة نهج أفلاطون وسقراط فـي ازدراء العطور والروائح بل اعتبروا أن كثرة الاستحمام يعرّض صاحبه للعقم، معللين ذلك أن الجسد مادة تلهي عن الاهتمام بالعقل وهو الروح المتسامية، وأن الشم والروائح غريزة حيوانية لا ينبغي على الإنسان العاقل الالتفات إليها. ولم يخلِّص الثقافة الأوروبية من تلك النظرة المنحطة للروائح إلا فلاسفة التنوير أمثال جان جاك روسو وغوته، الذين أعلوا من شأن الحواس وخاصة الشم، أما الفـيلسوف الألماني فرديريك نيتشه فقد ذهب بعيدا فـي إعادة الاعتبار للجسد وحواسه إذ كتب فـي كتابه (هذا هو الإنسان، ترجمة مجاهد عبدالمنعم) «إن عبقريتي تكمن فـي أنفـي»، وفـي كتابه (غسق الأوثان، ترجمة علي مصباح) يقول نيتشه «هذا الأنف على سبيل المثال، ذلك الذي لم يخصُّه أي فـيلسوف إلى حد الآن بما يستحق من عبارات الإكبار والامتنان لهو إلى حد الآن الأكثر رهافة مما بحوزتنا من الأدوات التي فـي خدمتنا».

أحدثَ علم الكيمياء ثورة فـي صناعة العطور فـي أوروبا التي تفتقر أراضيها إلى الأشجار العطرية التي تزخر بها أسيا وإفريقيا. وهذا ما جعل البعض يطلق فرضية أن الأوروبيين لا يعرفون العطور والروائح الزكية إلا بعد احتكاكهم مع الشرق، وتعرُّفهم على الأديان السماوية التي أعلت من شأن الروائح والطيب، إذ اقترن تصاعد الدخان برفع الدعوات إلى الرب «إن دخان البخور المتصاعد إلى السماء يمثل فـي المسيحية، صورة مجازية دالة على طرد الشر وتسامي الروح مثل الصلاة والدعاء وهي الصورة التي نجدها فـي الآية: لتكن صلاتي كالبخور قدامك. ورفع كفـي كتقدمة السماء» وهذا ما ذكره رضا الأبيض فـي كتابه (كتابة الرائحة: فـي نماذج من الرواية العربية، 2020).

إذا كانت بعض كتابات الفلاسفة قد قللت من شأن الرائحة، فإن الأدباء قد اعتنوا واحتفوا بالحواس والروائح والعطور. وخاصة كتّاب الرواية، ففـي منصة معنى الإلكترونية للكاتب السعودي طامي السميري نجد نماذج لأهم الروايات العالمية والعربية التي وظّفت الرائحة والعطر على وجه التحديد فـي سردياتها، فمثلا مارسيل بروست صاحب الرواية الشهيرة «البحث عن الزمن المفقود» يذكر فـيها العطر بقوله «وغاصت فـي عطرٍ من عطور الزعرور» وأيضا «إنها زهرة ذابلة لا عطر لها، فاح شذا دوّار الشمس، وغمرها بهذا العطر الدافئ، معطر برائحة الفانيلا». وفـي رواية «حفلة التيس» للبيروفـي ماريو بارغاس يوسا «راح يعطّر الجوّ، فتعرَّف هو على ذلك العطر الرخيص المُسمَّى «نايس»، الذي يعلنون عنه فـي الإذاعات»، إن توصيف العطور الرخيصة فـي الرواية لا يدلل على القيمة المادية للعطر وإنما إلى تبدل روائحها إلى روائح كريهة. أما الروائي الكولومبي غارسيا ماركيز فقد وظَّف رائحة الكولونيا فـي وصف عادات شخصية بطل رواية «الحب فـي زمن الكوليرا»، «بعد ذلك يستحمّ، ويشذّب لحيته، ويصمغ شاربـه بـمستحضـرٍ مـشبـع بـكـولونيا فارينا غيغينير الأصلية». بالمناسبة تذكر دراسة علمية أن الكولونيا عطر عجيب ومثير لدى النساء أكثر من الرجال.

إن استعراض قيمة الروائح لدى الإنسان وتباين وجهات النظر وتطورها بتطور مراحل الحضارة يتبيّن لنا صراع العقل والقلب فـي تقييم الجمال والرفع من شأن الأذواق والحكم عليها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من شأن

إقرأ أيضاً:

منال الشرقاوي تكتب: Home Alone حكاية ديسمبر التي لا تنتهي

مع اقتراب نهاية العام، يلتف الجميع حول المدفأة – أو دعونا نكون أكثر واقعية، ونبتعد عن كلام الإعلانات – على "الكنبة" في غرفة المعيشة، أمام التلفزيون. الجو بارد، لكنه ليس ببرودة الثلوج الأوروبية التي نراها في الأفلام، بل هو ذلك البرد الذي يجعلك ترتدي كل ملابسك المتكدسة داخل الدولاب، وتلتف تحت البطانية الثقيلة، مع كوب شاي ساخن لا يخلو من ورقة نعناع تطفو برشاقة على السطح.

في هذا الوقت تحديدًا، يعود إلينا ذلك الضيف العزيز، الذي لا يتخلف أبدًا عن موعده. إنه فيلم "Home Alone"، الذي أُنتج جزؤه الأول عام 1990، للمخرج Chris Columbus(كريس كولومبوس)، وبطولة الطفل العبقري Macaulay Culkin
(ماكولي كولكين). إنه ليس مجرد فيلم؛ إنه طقس سنوي يوحي بانتظار العد التنازلي للعام الجديد.

لكن، لماذا نعود إلى هذا الفيلم بالأخص عامًا بعد عام، كأنه طقس سنوي لا يكتمل ديسمبر بدونه؟ هل لأنه يحمل شيئًا منا، من طفولتنا، ومن حكاياتنا التي نتمنى أن تعود؟
العائلة! كلمة بسيطة جدًا لكن معقدة كشبكة عنكبوتية متشابكة. "كيفن مكاليستر" كان في قلب تلك الشبكة، الطفل الذي تمنّى – في لحظة صبيانية – أن تختفي عائلته للأبد. وها قد اختفت بالفعل!

لكن اللحظات الحقيقية لا تأتي حين نمتلك ما نريد، بل حين نكتشف ما نفتقده. وسط المغامرات الطريفة والمصائد العبقرية، هناك لحظة صامتة يتأمل فيها "كيفن" شجرة عيد الميلاد وحيدًا. هنا تحديدًا، يقدم الفيلم لنا سؤالًا؛ هل نستحق أن نعيش كل هذا وحدنا؟!

ربما يكمن جزء من الإجابة في سحر الأفلام التي تبقى معنا رغم مرور الزمن. لأنك حتمًا لاحظت أن هناك أفلامًا تذوب مع الزمن، تختفي كأنها لم تكن أبدًا. لكن "Home Alone" يبقى هنا، شامخًا وسط العديد من الأفلام. كل مرة تشاهده فيها، تشم رائحة طفولتك، تسمع صوت ضحكاتك القديمة، وتلمح وجهك الصغير يطل عليك من شاشة التلفزيون. النوستالجيا ليست مجرد شعور؛ إنها حالة كاملة تتسلل إليك عبر مشهد "كيفن" وهو يتناول عشاءه على ضوء الشموع أو حين يتفنن في نصب الفخاخ للّصوص. نحن لا نشاهد الفيلم فقط؛ نحن نزور طفولتنا. كيفن ليس مجرد طفل في فيلم؛ إنه تجسيد للطفل الذي يسكن فينا جميعًا. إنه جزء منك حين قررت مواجهة خوفك لأول مرة، أو عندما ضحكت من قلبك رغم الخوف. في كل مرة ينجح فيها "كيفن" في خداع اللصوص، نشعر جميعًا وكأننا نحن من حققنا الانتصار.

هذا الفيلم يذكرك بشيء بسيط لكن عميق؛ أحيانًا، لا تحتاج إلى أن تكون كبيرًا لتواجه العالم. تحتاج فقط إلى القليل من الشجاعة.. والكثير من الذكاء!
العالم يتغير. الأفلام تتغير. وحتى نحن نتغير. لكن هناك أشياء لا تتزحزح عن مكانها، كأنها مسمار قديم في خشب شباك متهالك، ثابت رغم تشقق الإطار، لكنه ما زال يحمى من تسلل الأتربة.
وربما تكون هذه التفاصيل الصغيرة هي ما تجعلنا نتمسك ببعض الطقوس السنوية التي تمنحنا إحساسًا بالألفة والدفء وسط كل هذا التغيير. ومع اقتراب نهاية كل عام، نعود إلى تلك العادات المحببة التي تملأ أيامنا بشيء من الأمان. إنه ليس مجرد فيلم نراه على الشاشة، بل هو ذكرى مشتركة نصنعها كل عام، توقيع صغير يودع سنة قديمة ويستقبل سنة جديدة. ووسط كل ذلك، هناك شيء مؤكد؛ لا يمكن أن ينتهي ديسمبر دون زيارة سريعة لمنزل عائلة "مكاليستر".

كل عام ينتهي، وكل عام يبدأ. وبين النهاية والبداية هناك لحظة صغيرة، لحظة كافية لتشاهد فيها فيلمًا.
"Home Alone"ليس مجرد فيلم تشاهده في ليلة شتوية باردة؛ إنه دفء خفي يأتي إليك من الشاشة، يربت على كتفك، ويهمس لك:
كل شيء سيكون على ما يرام... عام جديد، بداية جديدة، ولا تنسَ أن تضحك حتى وإن كنت وحدك.
كل عام وأنت بخير.. وكل عام و"كيفن مكاليستر" صديقك السنوي المفضل.

مقالات مشابهة

  • منال الشرقاوي تكتب: Home Alone حكاية ديسمبر التي لا تنتهي
  • أعمال هاني حوراني.. ملامح الإنسان التي تتقاطع مع ملامح المدينة
  • عمليات بغداد تصدر تعليمات وتحذيرات للمواطنين بعد العواصف التي داهمت البلاد
  • غياب المجلس التشريعي نتج عنه هذه المتاهة التي نحن فيها !!..
  • جيش الاحتلال انسحب من البلدات التي دخلها في ريف درعا
  • إسرائيل تقتل 5 صحافيين في غزة في قصف سيارتكم التي تحمل رمز الصحافة
  • وزير الخارجية يشيد بالعلاقات التي تربط بين مصر وتونس
  • وزارة الثقافة توجه دعوة إلى المالية بشأن منحة الأدباء والفنانين والصحفيين
  • مؤتمر أدبي لتكريم كبار الأدباء  بمشاركة 50 مبدعا
  • السوداني: العراق تمكن من مواجهة التحديات التي حصلت في المنطقة