انقسم الناس (وعلى عادتنا أن ننقسم) على الجزيرة في ظل هجمة شرسة من اليمين المتطرّف الإسرائيلي عليها، والتي تمثّلت بإجراءات رسمية طالت إغلاق مكاتبها في الداخل ثم تبع ذلك في مقرّها الرئيس في رام الله. ومن المعلوم كم هو حجم التجاوز القانوني والإسفاف الإعلامي لسلطات الاحتلال في هذا الاعتداء الصارخ على الإعلام بشكل عام والجزيرة بشكل خاص، هذا الاعتداء بلغ القتل وإسالة الدماء لقرابة 140 صحافيا في هذا العدوان، كان للجزيرة من هذه الدماء نصيب الأسد.
وهنا لا يمكن أن نفترض إجماع الناس سلبا أو إيجابا على وسيلة إعلامية مهما بلغت، ولكن اعتماد الأبيض والأسود، وهذا الفرز الحاد بين منكر ومعترض ومخوّن بالكليّة أو العكس المؤيّد مطلقا، أزاح النقاش عن موضوعيته التي يمكن أن تفتح مجالا رحبا للنظر فيما أبدعت وتألقت به الجزيرة وفيما أخفقت أو فشلت، أو إن جاز التعبير فيما أساءت. وهنا يمكن النظر إلى المشهد متكاملا واستيعاب وجهات النظر، بعيدا عن تلك العدمية التي تنفي جملة وتفصيلا أو تقبل دون أية تحفّظات.
لا يمكن أن نفترض إجماع الناس سلبا أو إيجابا على وسيلة إعلامية مهما بلغت، ولكن اعتماد الأبيض والأسود، وهذا الفرز الحاد بين منكر ومعترض ومخوّن بالكليّة أو العكس المؤيّد مطلقا، أزاح النقاش عن موضوعيته التي يمكن أن تفتح مجالا رحبا للنظر فيما أبدعت وتألقت به الجزيرة وفيما أخفقت أو فشلت
بداية لا بدّ من الاعتراف بأنّ الجزيرة قد أحدثت نقلة نوعية في الإعلام العربي من حيث المساحة الحرّة المطروحة وحالة التنوّع والتعدد الذي تظهره شاشتها، إذ كانت الشاشة العربية على الغالب تحمل صورة من يقف وراءها دون أية مراعاة لأن هناك في المجتمع من يختلف معه، يعني ذلك حجب صورة وصوت المعارضة بشكل كامل أو شبه كامل، حيث الهامش الذي يسمح به الظهور بمظهر الانفتاح نوعا ما، جاءت الجزيرة فوسّعت هذا الانفتاح والتعدّد بشكل كبير ولافت ميّزها عن غيرها كثيرا.
الجزيرة شقّت طريقا مغايرا أتاح للرأي الآخر فرصة كان ممنوعا منها منذ نشأت الإعلام العربي إلى أن جاءت الجزيرة، ولا أقول ذلك على إطلاقه دون أيّ استثناء وإنما بصورة نسبيّة، أصبحنا نرى على الجزيرة استضافة شخصيات متنوّعة وكثيرة لم نكن نراها من قبل، وكذلك تنوّعت برامجها وتوسّعت لتطال كثيرا من المواضيع كمّا ونوعا لم تكن يتطرّق لها أحد من قبل إلّا بطريقة الرأي الواحد على قاعدة "إن أريكم إلا ما أرى" أو "ما في أعور إلا أعور الحكومة" (الدير).
وصل الناس ما قبل الجزيرة إلى حالة من السأم والملل بل والقرف في رسم المشهد السياسي؛ من شاشات تصرّ على ذات الوجوه وذات الشخصيّات الكاريكاتيرية المفصّلة على المقاس الرسمي العربي، تروّج بصفاقة وبلادة وتتماهى بما يريده سيّدها ووليّ نعمتها ومن له الفضل في إبرازها على شاشاته، جاءت الجزيرة وفتحت نمطا آخر تتيح لشخصيات حرّة ومتحرّرة من الرواية الرسميّة، فارتقت بذلك الجزيرة وارتفعت مكانتها وصارت مهوى أفئدة الناس المتعطّشة للحريّة والانعتاق من ذاك المشهد المملّ البائس المقيت.
إصرار الجزيرة على إتاحة مساحة واسعة لزعامة الكيان والناطقين الرسميين على شاشتها فيه علامة استفهام ومشكلة كبيرة، وهنا لا نقول عدم نقل ما يجري هناك وما يصرّح به قادتهم، وإنما كيفية النقل وأن لا تكون الجزيرة بوقا حرفيا لهم ولدعايتهم وحربهم النفسية
أعتقد أن ما أحدثته الجزيرة في هذا المجال يتفق عليه كثيرون، ولكن هناك ما يعترض عليه كثيرون أيضا، ولا أريد أن أستخدم كلمة إجماع لأن المسألة لا تعتمد مؤشرات قياس علمية دقيقة. مما لا شكّ فيه أن إصرار الجزيرة على إتاحة مساحة واسعة لزعامة الكيان والناطقين الرسميين على شاشتها فيه علامة استفهام ومشكلة كبيرة، وهنا لا نقول عدم نقل ما يجري هناك وما يصرّح به قادتهم، وإنما كيفية النقل وأن لا تكون الجزيرة بوقا حرفيا لهم ولدعايتهم وحربهم النفسية، يكفي نقل جوهر تصريحاتهم دون أن ننقلها بكل ما تحمل من ضرر وخبل وأحيانا إمعان في الكذب والتضليل.
وهناك صنف ثالث هو من يحمل على الجزيرة ويُحمّلها مسئولية القصف الإسرائيلي والدمار لأن بعض محلّليها العسكريين أظهروا أن الحرب بين جيشين وأن المقاومة في حالة حرب، وبالتالي يحق للمحتل أن يضرب بكلّ قوّته في المقابل، مثلما حمّل شمعون بيرس في إحدى مقابلاته الجزيرة مسئولية قتل الأطفال لأنها تنقل صورهم عبر شاشاتها، وأعفى بذلك جنوده الذين يطلقون الرصاص. هذا غير معقول، وقد ردّ أحد الموضوعيين بأن الجزيرة لم تكن موجودة عندما احتُلت فلسطين عام 48 وأن تحميل الجزيرة مسئولية جرائم الاحتلال فيه إسفاف كبير.
بقي أن أقول لكلٍّ الحق في إبداء تحفّظاته واختلافه مع الجزيرة، ولكن دون إنكار فضلها وما أحدثته في العقل الإعلامي العربي من فضل كبير.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الجزيرة الإسرائيلي الإعلامي فلسطين إسرائيل فلسطين الجزيرة الإعلام مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة صحافة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة یمکن أن
إقرأ أيضاً:
إعلانات الجزيرة الممولة.. نموذج للتأثير القسري على “يوتيوب”
محمد محسن الجوهري
أصبحت مشاهدة مقاطع “يوتيوب” تجربة مزعجة للكثيرين بسبب كثافة الإعلانات الممولة، لكن يبقى للمستخدم خيار حظر بعض الإعلانات أو الإبلاغ عنها إن لم يرغب في رؤيتها مجددًا. غير أن بعض الإعلانات، وعلى رأسها تلك الخاصة بمنصة الجزيرة 360، تبدو عصية على الحظر. فمهما حاولت تجاوزها، تبقى ماثلة أمامك بإصرار، لتطرح تساؤلات مشروعة حول آليات الانتشار والظهور التي تتحكم بها شركات التكنولوجيا العالمية.
هذا النموذج من الحضور الإعلامي القسري يكشف كثيرًا من الخفايا حول طبيعة التمويل الضخم لبعض المؤسسات الإعلامية، والدور الذي يلعبه المال في فرض خطاب معين على الجمهور، بغض النظر عن طبيعة هذا الخطاب أو صدقيته. فحين تتمكن مؤسسة إعلامية من احتلال صدارة التوصيات على المنصات العالمية، أو من فرض نفسها على شاشات المستخدمين دون خيار للرفض، فنحن أمام نموذج من الاستحواذ الإعلامي لا يقل خطرًا عن أشكال الاستبداد التقليدية.
وبالرجوع إلى قناة “الجزيرة” القطرية، نجد أن ما تملكه من أدوات ليس المحتوى بقدر ما هو المال السياسي الضخم الذي يُستخدم لتوجيه الرأي العام العربي والإقليمي. إذ لطالما اتُّهِمت القناة بلعب أدوار تتجاوز الإعلام إلى صناعة التأزيم، وتعزيز الانقسامات الداخلية بين مكونات المجتمعات العربية. ويكفي أن نراجع أرشيف تغطيتها للأحداث في سورية، أو العراق، أو ليبيا، لندرك كيف يمكن للإعلام الممول أن يُسهم في إذكاء النعرات الطائفية والعرقية، بل وحتى في تبرير الاقتتال الداخلي.
فعلى سبيل المثال، خلال السنوات الأولى للأزمة السورية، ركّزت تغطيات الجزيرة على تأجيج السرديات الطائفية، وسعت لتصوير الصراع وكأنه حرب بين مذهبين، بدلًا من عرضه كأزمة سياسية واجتماعية مركبة. وقد أشار كثير من الباحثين في الإعلام إلى خطورة هذا النوع من الخطاب، الذي يسهم في ترسيخ الكراهية بدلًا من فتح باب الفهم والحوار.
ولا يقتصر التأثير على الإعلانات وحدها، بل يمتد ليشمل نتائج البحث على محركات مثل “غوغل”، حيث تلعب الأموال دورًا جوهريًا في تحسين ترتيب الصفحات، وتمكين مؤسسات معينة من الظهور أولًا، حتى لو لم تكن الأكثر موضوعية أو مهنية. هذا التلاعب بخوارزميات الانتشار يُعد نوعًا من “الرقابة الناعمة”، حيث لا يُمنع المحتوى المنافس بشكل مباشر، بل يُدفن تحت سيل من المحتوى الممول والمهيمن.
إن خطورة هذا الوضع تكمن في أن التمويل الضخم لا يستخدم فقط لأغراض تجارية، بل بات يُستخدم كسلاح سياسي ناعم، يُعيد تشكيل وعي الجماهير، ويوجه النقاشات العامة نحو ما يخدم مصالح مموليه. وهذه الظاهرة باتت تستحق دراسة متعمقة من قبل خبراء الإعلام، وصانعي السياسات، للحفاظ على الحد الأدنى من التوازن والعدالة في الفضاء الرقمي.
إن التمويل الضخم لا يصنع فقط إعلامًا مهيمنًا، بل يصنع واقعًا إعلاميًا جديدًا تتحكم فيه القنوات الكبرى بالرأي العام، وتُحاصر الأصوات البديلة والمستقلة، في ظل تواطؤ خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وسياسات المنصات التجارية.
وحين يغيب التوازن، وتُفرض قناة ما على الجمهور رغمًا عنه، فإننا نكون أمام أزمة حرية إعلام حقيقية. فالمشكلة لا تكمن في وجود إعلام ممول، بل في غياب الحياد الرقمي، وضعف آليات حماية المستخدم من الإعلام القسري.