ما حقيقة حالات الإعياء الغامضة في أسوان المصرية؟ وما علاقة السودان؟
تاريخ النشر: 23rd, September 2024 GMT
القاهرة- مع بدايات فصل الخريف من كل عام، تنشط الدعاية لمحافظة أسوان جنوبي مصر كمقصد سياحي دافئ خلال موسم الشتاء. لكن الأمور اختلفت هذه السنة، حيث ارتبط اسم المدينة بمرض مجهول تسبب في ازدحام المستشفيات بعشرات المصابين.
وقبل نحو أسبوعين، شهدت منصات التواصل الاجتماعي استغاثات بعض أهالي قرى أسوان بسبب كثرة الحالات التي تعاني أعراضا تشبه النزلات المعوية مثل القيء والإسهال والغثيان.
ولجأ المرضى لمستشفيات المحافظة الجنوبية التي رفعت درجة الاستعداد القصوى لتقديم الرعاية الطبية اللازمة للحالات الطارئة.
وتبلغ مساحة أسوان نحو 63 كيلومترا مربعا، ويقطنها نحو 1.6 مليون نسمة، يمثلون نحو 1.5% من سكان مصر.
الرواية الرسميةقللت تصريحات المسؤولين الرسميين من خطورة الوضع بأسوان، ودفعت نحو الطمأنة رغم عدم الجزم بطبيعة المرض وأسبابه حتى الآن. وأعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، الخميس الماضي، تلقي 200 مواطن بأسوان العلاج بالمستشفيات بعد إصابتهم بـ"نزلات معوية" حسب قوله، موضحا تمام شفاء الحالات المرضية عدا 43 حالة مازالت تحتاج الرعاية الطبية.
وأضاف، خلال المؤتمر الصحفي الذي يُعقد بشكل دوري، أن وزارة الصحة أرسلت فرقا طبية لأسوان للكشف عن سبب حالات الإعياء. وقال "هذه الحالات عادة ما تظهر فترات الصيف مع ارتفاع درجات الحرارة بالمدن الجنوبية" وأكد استمرار العمل للتوصل إلى الأسباب.
وبعد يومين، قال وزير الصحة خالد عبد الغفار -في لقاء صحفي- إن أجهزة الطب الوقائي رصدت حالات الإصابة منذ 11 سبتمبر/أيلول الجاري، موضحا أن غالبيتها ترد من منطقتي "أبو الريش" و"دراو". وأكد شفاء 22 حالة من إجمالي 128 لجأت للمستشفيات، لافتا إلى "وجود بعض الحالات بقسم الرعاية المركزة". وأرجع سبب الإصابات إلى "تلوث الطعام أو الشراب" مضيفا أن الوضع الصحي بشكل عام "مُطمئن" وتوقع انتهاء الأزمة خلال أيام.
بدوره، أشار محافظ أسوان إسماعيل كمال إلى أن توقيت الشكوى من الإعياء تزامن مع احتفالات المولد النبوي الشريف والتي "يصاحبها تناول كثير من الحلوى والمشروبات". وتنفي الجهات الرسمية وقوع وفيات، غير أن رواد المنصات الاجتماعية تداولوا أخبارا عن حدوثها.
ونشر موقع "مدى مصر" وثيقة وفاة أحد أهالي أسوان يثبت بها أن السبب هو "توقف تام في الدورة الدموية والتنفسية والقلبية" ناتجة عن "نزلة معوية شديدة أودت إلى جفاف وارتفاع بوظائف الكلى وجلطة بالمخ". ويظهر بالوثيقة الختم الرسمي لمستشفى أسوان الجامعي بتاريخ 19 سبتمبر/أيلول الجاري.
بالمقابل، أكد محافظ أسوان -خلال تصريحات تلفزية- تسجيل 5 حالات وفاة مؤخرا في "أبو الريش" و"دراو" -المرصود بهما حالات الإعياء- مبينا أن أسباب الوفاة هي "قصور في عضلة القلب أو أمراض أخرى غير النزلات المعوية".
المياه ملوثه ف اسوان وفي حالات كتير دخلت المستشفي منهم نزله معويه ومنهم فشل كلوي ومنهم بيقولو ماتو
وللاسف محدش بيتكلم محدش بيقول حاجه محدش بيفهمنا
— ????Mady???? (@mady1mousa) September 20, 2024
تشكيكنقلت صحف محلية شهادات أهالي بأسوان تتضمن تشكيكا في جودة مياه الشرب، خاصة ما يتعلق بالتوازن بين المياه الموجودة بأحواض التنقية داخل محطات المياه وكميات الكلور التي تتم إضافتها للقضاء على الميكروبات.
في حين اضطرت شركة الصناعات الكيميائية المصرية (كيما) -وتقع جنوبي شرقي أسوان- للدفاع عن عمليات التخلص من مخلفاتها الصناعية بعدما واجهت اتهامات بتلويث مياه النهر بإلقائها فيه. وبحسب بيانها، فإنها تخضع للمتابعة الدورية من الجهات الرقابية بخصوص البرامج اللازمة لمعالجات الصرف الصناعي.
ودافع المسؤولون الرسميون بأسوان عن سلامة مياه الشرب، وأكد مدير عام الصحة أن فرضية حدوث تلوث بالمياه تعني التسبب في تسمم الآلاف وليس حالات على نطاق ضيق كما هو الحال على أرض الواقع. كما أكد مدير شركة مياه الشرب والصرف الصحي مطابقة العينات التي تم سحبها من محطات الشرب والمنازل للمواصفات القياسية. وزار محافظ أسوان منطقة أبو الريش، أمس الأحد، حيث التقى بعض الأهالي داخل منازلهم وشرب المياه للتأكيد على سلامتها.
وبرز الإعلان عن تفشي وباء الكوليرا في السودان، في أغسطس/آب الماضي، كمبرر للتكهن بكون السودانيين الوافدين إلى أسوان "هم سبب نقل العدوى". ووفق أحدث رصد رسمي بالسودان، ارتفعت حالات الوفاة بالكوليرا إلى 388، بينما بلغت الإصابات بها 12 ألفا و896 حالة.
وحتى 26 أغسطس/آب الماضي، وصل عدد اللاجئين السودانيين المسجلين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في القاهرة إلى نحو 470 ألفا، أما المقيمون بمصر دون صفة لاجئ فيزيد عددهم عن 5 ملايين، وفق تصريحات مسؤولين مصريين. وأكد محافظ أسوان أن التحاليل، التي أجريت للمرضى داخل المستشفيات وتمت مراجعتها بالمعامل المركزية لوزارة الصحة، أثبتت عدم إصابتهم بالكوليرا.
ما علاقة السودان؟تظل الجارة الجنوبية داخل دائرة الشك حيال ما يحدث في أسوان، ففي أغسطس/آب الماضي، تعرضت مناطق شمالي السودان لأمطار غزيرة وسيول في مدينة أبو حمد، مما أدى لوقوع وفيات وإصابات، وتعرضت المنازل والأراضي الزراعية لأضرار بالغة، كما طالت الأمطار مناطق التنقيب عن الذهب وسبكه.
ونشر أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة عباس شراقي -على فيسبوك- تحذيرا من تداعيات السيول بتلك المنطقة التي تعد إحدى أكبر المناطق التعدينية بالسودان. وتوقع أن تجرف السيول الكثير من مخلفات المناجم بما فيها العناصر الثقيلة كالرصاص والزنك والكبريت، والسيانيد المستخدم في فصل الذهب عن باقي المعادن مما يزيد من تلوث المنطقة التي تبتعد عن أسوان بنحو 500 كيلومتر.
وقال المرشح السابق لمجلس النواب عن محافظة أسوان محمد دين حسن إن الوضع صار أكثر استقرارا داخل مستشفيات المحافظة، مؤكدا أن الحالات المرضية تعاني من أعراض واحدة وهي القيء والإسهال.
وأوضح -للجزيرة نت- انتشار كثير من الشائعات بخصوص أسباب حالات الإعياء، مستبعدا أن يكون للوافدين السودانيين أي دور في نقل الكوليرا كونهم ينتشرون بأنحاء مصر ومن غير المنطقي أن ينقلوا العدوى لمناطق محددة فقط بأسوان. كما استبعد أن يكون المرضى تناولوا مأكولات ملوثة أدت للإعياء كون المسافة بين منطقتي "أبو الريش" و"دراو" تبلغ حوالي 30 كيلومترا.
ورجح حسن أن تكون السيول التي تعرضت لها منطقة أبو حمد السودانية هي السبب وراء ما يحدث في مدينته، وأردف "السيانيد المستخدم في تصفية معدن الذهب هو مادة قاتلة، وقد جرفت الأمطار الغزيرة الشهر الماضي أحواضه إلى نهر النيل حسبما نقل لي شهود عيان بالمدينة السودانية". وقال "ربما تكون المرشحات المسؤولة عن نقل مياه النيل لمحطة أبو الريش لتنقية المياه تتضمن عيوبا فنية، وهو ما أدى لتسرب كميات ضئيلة جدا من السيانيد للمياه وبالتالي وصل صنابير المنازل مما أدى لحالات الإعياء".
وبحسب شهود عيان تواصلت معهم الجزيرة نت، فإن مناطق أخرى بمحافظة أسوان أصبحت تعاني مؤخرا من تلوث مياه الشرب التي تخرج من الصنابير بلون داكن، ومن تلك المناطق قرية النقادية بمركز إدفو وهي تبعد عن مدينة أسوان نحو 100 كيلومتر.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات حالات الإعیاء محافظ أسوان میاه الشرب أبو الریش
إقرأ أيضاً:
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (12 – 20)
"لن يستطيعَ أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِك، ما لمْ تَكُنْ منحنياً"
مارتن لوثر كينج
النور حمد
وجدت مصر ضالتها في البرهان
منذ الغزو المصري الخديوي للسودان في الربع الأول من القرن التاسع عشر، لم تجد مصر حاكمًا سودانيًا أتاح لها نهب موارد السودان كما فعل الفريق عبد الفتاح البرهان. وسنأتي لاحقًا إلى ذكر ذلك بشيء من التفصيل. وعمومًا، إن نهب موارد السودان ظل منذ العصور الغابرة هو الهم الأكبر المسيطر على العقلية المصرية. وقد سبق أن ذكرت كيف أن للجغرافيا وفقر مصر من الموارد دورٌ في هذا الهوس المصري بالسودان وبموارده؛ من أراضٍ خصبةٍ شاسعةٍ، ومن مواردَ طبيعيةٍ ثرةٍ؛ نباتيةٍ وحيوانيةٍ ومعدنية. يُضاف إلى ما تقدَّم، أن السودان يمثل خطرًا على حصة مصر من مياه النيل، الأمر الذي يفرض على مصر التحكُّم في نموِّه بمختلف الطرق. وكما سلف القول، فإن الفريق البرهان منذ أن اعتلى قمة السلطة، رئيسًا لمجلس السيادة للفترة الانتقالية، كانت خطته ألا تكمل الفترة الانتفالية مدتها. وألا تجري انتخابات تقود إلى أن يتولى المدنيون زمام الحكم، وفقًا لنهج التبادل الديمقراطي السلمي للسلطة. وبالفعل، أطاح الفريق البرهان بالوثيقة الدستورية وبحكومة الفترة الانتقالية، بالانقلاب الذي نفذه في 25 أكتوبر 2021، التي ترأس وزارتها الدكتور عبد الله حمدوك. وقد انقلب الفريق البرهان على حكومة حمدوك، بعد أن وضع في سبيلها كل العراقيل الممكنة، كما سبق أن ذكرنا. خطة البرهان، وقد أثبتتها الأحداث التي ظلت تجري منذ وصوله إلى قمة هرم السلطة وإلى اليوم، هي أن يحكم منفردا. وهذا يجعله في مواجهة قوتين هما: قوى الثورة، من جهة، والإسلامويون من الجهة الأخرى.
للنجاح في هذه اللعبة الخطرة المركبة، اهتم الفريق البرهان، أولاً، بالحرب على قوى الثورة. وأصبح عليه أن يلعب على التناقض بين حليفيه المتمثلين في الإسلامويين، والنظام. فمن جهةٍ، وافق فتون البرهان وجنونه بالسلطة ما يريده النظام المصري وهو وجود جنرال على قمة السلطة في السودان يكون خاضعًا بالمطلق *لإرادة* المصرية. ومن الجهة الأخرى يحتاج البرهان العون الدبلوماسي والعسكري المصري، لكي يبقى في السلطة. ولكي يجد العون الدبلوماسي والعسكري المصري عليه أن يقدم شيئًا في مقابل ذلك، وهو فتح الباب على مصراعيه للنظام المصري، ولمجموعات المصالح الخاصة المصرية الملتفة حول النظام المصري، لنهب موارد السودان؛ بلا قيد أو شرط، وبأقل الأسعار، بل وبلا مقابل أحيانا. وكذلك، الخضوع الكامل لمصر فيما يتعلق برؤيتها حول مياه النيل. وأيضًا، أن يصبح مخلب قطٍّ لمصر في تسبيب الغلاغل والمتاعب لإثيوبيا، ولغيرها من دول حوض النيل. وقد قام البرهان بكل أولئك كما أُرادت منه مصر، منذ أن أصبح رئيسًا لمجلس السيادة.
في فترة سيطرة البرهان على السلطة في السودان، ظلَّت مصر تشتري مختلف موارد السودان بالعملة السودانية المحلية. ولم نعرف أبدًا أن دولةً ما في العالم رضيت أن تبيع لدولةٍ أخرى مواردها بالعملة المحلية للبلد البائع. بل تردَّد كثيرًا أن العملة التي يشتري بها المصريون الموارد السودانية عملةٌ مزيفةٌ تجري طباعتها في القاهرة. وقد وردت في شهادات سودانيين مقيمين في القاهرة أن هناك من عرض عليهم حزمًا كبيرةً من الأوراقٍ النقدية السودانية، نظير مبالغ زهيدةٍ للغاية بالجنيه المصري. خلاصة القول، إن شراء موارد السودان بعملته المحلية، المُبرِّئة للذمة والمزيَّفة، يعني أن موارد السودان تذهب إلى مصر مجانا. أما فيما يخص ملف مياه النيل وتسبيب الغلاغل لإثيوبيا فقد اصطف البرهان وراء مصر اصطفافًا كاملاً، بل ومنح مصر قاعدةً مروي الجوية في شمال السودان لتصبح منصةً عسكرية متقدمةً لتهديد الجارة إثيوبيا.
يعرف البرهان أن نظام السيسي قد سحق حركة الإخوان المسلمين في مصر، ونكَّل بهم شر تنكيل. وهو يعرف أن نظام السيسي يقف ضد الإخوان المسلمين حيثما كانوا، ولكنه استثنى إخوان السودان لخدمة هدف تكتيكي مرحلي، هو مساعدة الفريق البرهان للبقاء في السلطة حتى تثبت فيها قدماه، ثم يجري التخلص منهم عقب ذلك. أيضًا، يعرف الفريق البرهان أن مصر تعرف أنه عمل ضابطًا في الجيش السوداني في خدمة الحركة الإسلامية السودانية، وذراعهاالمؤتمر الوطني لعقود طويلة. ولذلك، لكي يجعل الفريق البرهان نظام السيسي ينخرط في دعمه سياسيًّا وعسكريًا بالطريقة التي ظهرت في هذه الحرب، لابد أن يكون الفريق البرهان قد قدَّم للنظام المصري، في لقاءاته العديدة بالفريق عبد الفتاح السيسي وجهاز مخابراته، تطميناتٍ فيما يخص حلفه مع الإسلامويين. وغالبًا ما تكون هذه التطمينات أنَّ حلفه مع الإسلامويين حلفٌ تكتيكيٌّ قصيرٌ الأمد، من أجل خدمة مرحلةٍ بعينها. فحزب المؤتمر الوطني وما تسمى الحركة الإسلامية السودانية يتشاركان مع الفريق البرهان الحرص على هزيمة الثورة. لكنهما يختلفان معه في أنهما يريدان العودة إلى الحكم من جديد. ولذلك، هم يتعاملون مع الفريق البرهان بحذر وشكٍّ كبيرين لمعرفتهم برغبته في الحكم منفردًا وبعلاقته الوطيدة بمصر. وقد بان في مراتٍ عديدةٍ أن الفريق البرهان والإسلامويين يتربصان ببعضهما. فلكل واحدٍ منهما خطته الجاهزة للانقضاض على الآخر، عندما تصل الأمور نقطة مفترق الطرق.
أيضًا، ربما توصل النظام المصري عبر اختراقه للنخب العسكرية والأمنية والسياسية التي عملت مع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير إلى قناعةٍ مفادها أن قادة ما تسمى "الحركة الإسلامية في السودان"، ليسوا قادةً مبدئيين بقدر ما هم حارسين لمصالح تخصهم. أي، أنهم ليسوا سوى مجموعة من الأوليغارك الغارقين في حب المال والسلطة حتى أذنيهم. وأنهم في حقيقة أمرهم براغماتيون، وليسوا مبدئيين. وأن ذلك يجعل اصطحابهم في خدمة مرحلة بعينها ثم رميهم جانبًا أو تطويعهم بصورةٍ دائمةٍ خيارًا ممكنا. لكن، في تقديري، أن هذا التصور، إن وُجد، فإنه تصورٌ خاطئ. فما تسمى الحركة الإسلامية في السودان ليست بمفردها وإنما مرتبطة بمنظومة إقليمية معقدة متضاربة الأجندة تشكل تركيا وإيران وقطر. ولذلك بقيت ما تسمى الحركة الإسلامية السودانية، تلعب على عدة حبالٍ. وقد عرفت عبر ما يزيد على الخمسة والثلاثين عامًا من التجربة، كيف تتلون وتخدع، وتنافق، وتلعب على عنصر الوقت وعلى متغيرات الأحداث وعلى تضارب أجندة دول الإقليم.
العلاقة الملتبسة بين البرهان والإسلامويين
من الشواهد على العلاقة الملتبسة بين الفريق البرهان ومجموعة الإسلامويين، ما نراه بين فترةٍ وأخرى من انتقال الأبواق الإعلامية الناطقة باسم الإسلامويين في السودان، بين الإسراف في تمجيد الفريق البرهان ووضعه في مكانة البطل القومي، وبين تحولها، في أحيانٍ أخرى، إلى الهجوم عليه، بل، ومُلصقةً به أسوأ التهم. فقد قال إمام مسجد جبرة في الخرطوم، المتطرف، عبد الحي يوسف، المقيم حاليًّا في تركيا: إن الإسلاميين لا يثقون في البرهان، وأن الفضل في الانتصارات الأخيرة للجيش، حسب زعمه، يعود إلى الإسلاميين وليس إلى الجيش. وأضاف واصفًا البرهان بأنه شخصٌ: "ليس له دين ويحمل النصيب الأوفر في التسبب في هذه الأزمة. فتقوية قوات الدعم السريع عدةً وعتادًا كانت تحت سمعه وبصره". وأضاف أيضًا: أن "البرهان أعجز من أن يقضي على الإسلاميين، فهم موجودون حتي في مكتبه". وينطوي هذا على أن لدى "الإسلاميين" شعورًا قويٍا وربما شواهد على أن البرهان يتربص بهم. وقد حذر عبد الحي يوسف الإسلامويين قائلاً إن البرهان في آخر زيارة له إلى أميركا قبل شهرين من حديثه هذا، التقى مسؤولين أميركيين ولم يصدر بيانٌ عن تفاصيل الاجتماع. وتنطوي هذه على تهمة للبرهان بأنه ربما يخطط مع الأمريكيين للغدر بهم. وعزا عبد الحي يوسف الانتصارات التي تحققت أخيرًا إلى المقاومة الشعبية وليس إلى الجيش، قائلاً: "إن الله ساق هذه الحرب من أجل أن يُعيد للحركة الإسلامية ألقها وقوتها". (راجع: صحيفة سودان تربيون، على الرابط: https://shorturl.at/Em5aa).
لم يقتصر الهجوم على الفريق عبد الفتاح البرهان على إمام مسجد جبرة، عبد الحي يوسف، وحده، وإنما شارك في الهجوم عليه، أيضًا، بل والسخرية منه، في بضع مراتٍ، كلٌّ من الإعلامي، الطاهر حسن التوم، ومهرِّج "السوشال ميديا" الملقب بـ "الانصرافي". بل وتشير بعض حوادث المسيَّرات التي أسقطت قذائفها على بعض اللقاءات الجماهيرية التي حضرها الفريق البرهان، إلى أنها قد كانت رسائل تحذيرية له من دهاقنة ما تسمى "الحركة الإسلامية"، عبر جناحها الداعشي المتطرف المسمى "كتائب البراء". وغرض تلك الرسائل التحذيرية هو ألا يجنح البرهان قط إلى أي حلٍّ تفاوضيٍّ لإيقاف الحرب، يمكن أن يقصي الحركة الإسلامية وحزبها المؤتمر الوطني من المشاركة في الحكم، وهو المطلب الرئيس لثوار ثورة ديسمبر. أو، أن يكتفي بمنحها دورًا هامشيًا في المرحلة المقبلة بناءً على ما يتوصل إليه التفاوض. فإرسال المُسيَّرات وإلقاءها قنابلها على اللقاءات الجماهيرية التي يحضرها البرهان تعني أن الحركة الإسلامية تستطيع أن تصل بهذه المُسيَّرات إلى عقر دار الفريق البرهان. فالحركة الإسلامية لا تريد حلاً تفاوضيًا تفرضه القوى الدولية أو الإقليمية. فهي أصلاً لم تشعل الحرب إلا لكي تقضي نهائيًا على قوات الدعم السريع، وهو السبيل الوحيد في نظرها الذي يمكنها من العودة إلى السلطة بمفردها. ولتتفرغ، من ثم لذبح الثوار المدنيين المطالبين بالتحول الديمقراطي. وهو، كما ذكرنا، السبب الرئيس الذي جعلها تقود الأمور عبر الفترة الانتقالية لتصل إلى نقطة إشعال الحرب الشاملة الجارية حاليا.
في 8 فبراير 2025 تحدث الفريق البرهان من عاصمة حكمه البديلة بورتسودان داعيًا المؤتمر الوطني المحلول للابتعاد عن المزايدات السياسية، مخاطبًا لهم بقوله: أنه لا فرصة لهم في الحكم، مرةً ثانية، على أشلاء السودانيين في هذه المرحلة، وإلا فلن يكون هناك فرق بينهم وبين تنسيقية "قحت"، أو "تقدم"، حسب قول البرهان. وقال إذا أراد المؤتمر الوطني أن يحكم، عليه أن يتنافس في المستقبل مع بقية القوى السياسية. فانبرى في الرد عليه وبسرعة حزب المؤتمر الوطني ببياناتٍ مقتضبةٍ جنحت إلى اللوم والعتاب. أما إعلاميو الإسلامويين والمؤتمر الوطني فقد انتقدوا ما ورد في الخطاب بلهجة بالغة الحدة. وأما قائد ميليشيا لواء البراء الذي يمثل الذراع العسكري المتطرف في المؤتمر الوطني فقد قال: لا ننتظر شكرًا أو تقييمًا من أي شخص، ونرجو من الله أن يتقبل الجهد والجهاد، وسنظل ندافع عن كل شبر في الوطن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفريق البرهان كان قد زار قائد لواء البراء المصباح أبوزيد طلحة، عقب هروبه مباشرة من مباني القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم التي كان محاصرًا فيها لأربعة أشهر عقب اندلاع الحرب. الشاهد، فيما يتعلق بمناقضة البرهان المتكررة لنفسه أنه رجع بعد يومين من خطابه الذي حذر فيه الإسلامويين وحزبهم المؤتمر الوطني بألا يفكروا في العودة إلى السلطة ليقول: الذين حاربوا إلى جانبنا سيكون لهم مكانٌ في السلطة. ومعلومٌ أن الذين حاربوا إلى جانبه هم الإسلامويون وكتائبهم الجهادية المتطرفة.
انكشاف خضوع البرهان للمتطرفين
تناقلت عديد المواقع الإلكترونية تسريباتٍ نشرتها كاتبة العمود بصحيفة الجريدة، صباح محمد الحسن، ذكرت فيها أن إجتماعًا عاصفًا جمع الأمين العام لما تسمى "الحركة الإسلامية"، علي كرتي، وقائد الجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان. تقول التسريبات أن علي كرتي هدد الفريق البرهان في ذلك الاجتماع بأنه، في حال انصياع الفريق البرهان للضغوط الدولية والإقليمية، سوف يكشف عن الكثير من الوثائق السرية المفصلية المتعلقة بالحرب الحالية وبإنقلاب أكتوبر 2021، وبعملية فض الإعتصام. وذكرت الصحفية أن مصادر سياسية خارجية رفيعة كشفت عن ورقةٍ جديدةٍ على طاولة الحل للأزمة السودانية. وأن تلك الورقة وضعها تحالفٌ دوليٌّ ضم دول الوساطة بالتعاون مع دولٍ إقليميةٍ، من بينها دولٌ حليفةٌ للمؤسسة العسكرية. وذكرت أن تلك الورقة تتضمن خطةً عاجلةً، قد لايتجاوز مدى وضعها موضع التنفيذ شهرًا. وتهدف الخطة للقضاء على ما أسمته "المد الإسلامي الإخواني بالسودان" وأقتلاعه من جذوره، عبر عدة آليات قالت أنها متاحة. وتقول الصحفية أن تلك المصادر رجَّحت أن قناعة تلك الدول جاءت لسببين: أولهما أن قائد الجيش السوداني أخلَّ بإتفاق سبقت موافقته عليه. وهو السيطرة على القيادة العامة التي كان من المقرر أن يؤكد الفريق البرهان عقب انسحاب قوات الدعم السريع منها، ذهابه إلى التفاوض. لكن، كما هو واضحٌ الآن، فقد مر أكثر من شهر من نشر تلك التسريبات، ولم يتغير شيءٌ في المشهد السوداني.
أيضًا، أضافت الصحفية قائلةً: إن تلك المصادر ذكرت أن البرهان كان في نيته تنفيذ الاتفاق. حيث لمَّح إلى ذلك في خطابه الأخير في مباني القيادة العامة، في حين صرح به بوضوح أكثر، نائبه مالك عقار. إلا أن القيادات الإسلامية حاصرت البرهان ومنعته من تنفيذ الخطوة. وبعد الإجتماع وعدول البرهان عن رأيه خرج قائد كتيبة البراء ليعلن ألا تفاوض مطلقًا مع قوات الدعم السريع. الأمر الذي كشف لتلك الدول أن قادة الكتائب الإسلامية هم الذين يقررون بدلاً عن الفريق البرهان، وأثبتوا عمليًا أنهم الطرف الأقوى. وتخلص الصحفية إلى القول إن إزاحة البرهان الذي أصبح عقبةً، ضرورةٌ ينبغي أن تسبق التفاوض المنتظر. وتقول الكاتبة: إن الذي دفع تلك الدول لقرار إقتلاع الإسلاميين، إضافةً إلى ما تقدم، ووفقًا لتك المصادر، هو الجرائم الأخيرة التي قامت بها كتائب البراء بن مالك ومليشيا درع السودان. وزعمت الكاتبة إن تلك الجرائم قد نسفت الدعم الدولي المؤسسة العسكرية السودانية، وباعدت بينها وبين الدول التي فضلت الوقوف إلى جانبها، بإعتبارها تمثل الجهة الرسمية بالبلاد. خاصةً أن الفريق البرهان والمؤسسة العسكرية وقفوا متفرجين وعاجزين. ولم يفعلوا شيئًا أمام الجرائم الوحشية التي إرتكبتها تلك الكتائب والمليشيات بإسم الجيش. (راجع: موقع أخبار السودان، على الرابط: https://shorturl.at/kSwME).
(يتواصل)
elnourh@gmail.com