روسيا وتاريخ النبوءات حول مستقبلها
تاريخ النشر: 12th, August 2023 GMT
روت المؤرخة الراحلة هيلين كارير دونكوص أنها سألت ميخائيل غورباتشوف: لماذا لم تطلب تعهدا كتابيا؟ لقد وافقت على إعادة توحيد ألمانيا واشترطت موافقتك بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) أبعد من حدود ألمانيا الشرقية، وحصلت على تعهد الأمريكيين بذلك، إذن لماذا لم تطلب تسجيل هذا التعهد كتابيا؟ فأجابها غورباتشوف: كنت أظن يا سيدتي أني أتعامل مع أشخاص حسني التربية حافظين للعهود!
هذا هو السياق الذي تنزّل فيه هيلين كارير دونكوص، أشهر الباحثين الفرنسيين المختصين في التاريخ الروسي، تطورات موقف بوتين من الدول الغربية بدء من الرغبة في التعاون والصداقة، مرورا بغزو جورجيا (موطن آبائها) فضم شبه جزيرة القرم ثم غزو أوكرانيا.
كانت هيلين كارير دونكوص، التي رحلت عن هذه الدنيا السبت الماضي مناهزة الرابعة والتسعين من العمر، سليلة أسرة أرستقراطية جورجية هربت من حكم البلاشفة واستقرت في فرنسا منذ عام 1921. وقد صارت معروفة لدى الجمهور الفرنكوفوني الواسع منذ السبعينيات بفضل إطلالاتها الكثيرة في البرامج التلفزية الجادة. والملاحظ أن من الآثار الجانبية التي خلفها الغزو الروسي لأوكرانيا أنه أعاد لمهنة المؤرخ والباحث المختص في الشأن الروسي ألقا إعلاميا كان الظن أنه قد مضى بلا رجعة. إذ المعروف أن هذه المهنة، التي شاعت تسميتها بالسوفييتولوجيا أو الكرملينولوجيا، قد كانت مطلوبة إعلاميا في الغرب طيلة عقود الحرب الباردة وأن انهيار الاتحاد السوفييتي تركها فريسة أزمة وجودية سرعان ما أعقبها الاندثار. إلا أن تقلبات الزمن السياسي هذه لم تنل من هيلين كارير دونكوص، فظلت متألقة إعلاميا على مر الأزمان. كما أن من حسن الموافقات أن اختيارها لعضوية الأكاديمية الفرنسية قد وقع عام 1990، تزامنا مع بداية نهاية الحقبة السوفييتية. وبعدها بعقد واحد، صارت هي أول امرأة تنتخب لمنصب الأمين الدائم للأكاديمية.
التاريخ السوفييتي مأساة لا بالنسبة للمواطنين الذين كابدوا عذاباته فحسب، بل وحتى للغربيين الذين عجزوا عن قراءته وفهمه! ولا تزال هذه الصعوبة مستمرة إلى اليوم كانت هيلين كارير دونكوص اسما مألوفا لنا لمّا كنا تلاميذ في الثانوية أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. إذ قبل أن يتاح لدارسي التاريخ منا اكتشاف ريتشارد بايبس، وستروب تالبوت، وآن أبلبوم وغيرهم من كبار الباحثين الأمريكيين المختصين في التاريخ الروسي، لم نكن نعرف إلا اسما واحدا: هيلين كارير دونكوص. فقد ذاع صيتها بعد رواج كتابها المرجعي «الإمبراطورية المتشظّية» الذي كان أشد ما يدهش فيه أنه انطوى على نبوءة (صعبة التصديق آنذاك) بقرب تفكك الاتحاد السوفييتي!
والواقع أن محاولة قراءة روسيا السوفييتية، التي وصفها تشرشل بأنها «معضلة يلفّها لغز مدسوس في باطن أحجية» قد كانت بالغة الصعوبة. ولهذا عدّ المؤرخ الأمريكي مارتن ماليا التاريخ السوفييتي مأساة لا بالنسبة للمواطنين الذين كابدوا عذاباته فحسب، بل وحتى للغربيين الذين عجزوا عن قراءته وفهمه! ولا تزال هذه الصعوبة مستمرة إلى اليوم، بدليل أن الخبراء الغربيين لا يزالون يتلاومون على أنهم أخطأوا تقدير نيّات بوتين فلم يتوقعوا غزوه لأوكرانيا.
وبما أن الأغلبية الساحقة من الباحثين والمؤرخين لم يوفقوا في تنبؤاتهم بشأن مستقبل روسيا السوفييتية، فإن الأوساط الأكاديمية والإعلامية الغربية نشطت طيلة التسعينيات في النقاش حول الباحثين والمؤرخين القلائل الذين أحسنوا القراءة وأصابوا في الحكم، وإن بتفاوت في دقة النبوءة. ويبرز من هؤلاء أربعة: الكاتب العسكري الفرنسي ميشال غاردير الذي تنبأ في كتابه «احتضار النظام في روسيا السوفييتية» (1965) بسقوط النظام عام 1970؛ والمنشق السوفييتي أندري أمالريك صاحب كتاب «هل سيبقى الاتحاد السوفييتي قائما حتى 1984؟»؛ وباحث الديموغرافيا الفرنسي إيمانويل طود صاحب كتاب «السقوط النهائي» (1976) وهيلين كارير دونكوص التي فسرت، في كتابها «الإمبراطورية المتشظية» (1978) قرب السقوط بصعود النزعات القومية في الجمهوريات السوفييتية وبتزايد النمو السكاني بين المسلمين في آسيا الوسطى.
ظلت الفتاة التسعينية تتوقد نشاطا فكريا وترأس جلسات الأكاديمية الفرنسية حتى قبل شهر من وفاتها! ومما ذكره الروائي إمانويل كارير عن أمه الأرثوذكسية أنها كانت مواظبة طيلة عمرها على قراءة فيلسوف عنابة وقرطاج، القديس أغسطينوس.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه بوتين روسيا روسيا موسكو بوتين مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
مطرح عبر التاريخ وهجران ..
تقيم وزارة الثقافة والرياضة والشباب ممثلة في المنتدى الأدبي الندوة العلمية «مطرح عبر التاريخ» خلال اليوم وغدًا الأربعاء.
بدأ المنتدى الأدبي سلسلة ندوات الولايات العُمانية عبر التاريخ منذ زمن ليس بالقصير، وأقيم عدد كبير من الندوات خلال السنوات الماضية لعدد من ولايات سلطنة عُمان، ويبدو أن ندوة مطرح عبر التاريخ قد تأخرت، لكن كما يقول المثل أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي.
ولاية مطرح إحدى الولايات العُمانية المهمة جدًا، فهي ولاية تجارية جمعت بين التجارة كعصب حياة لسكان مسقط وسلطنة عُمان ككل وبين السياحة، فلا تكاد تخلو كتب السياح عن ذكر مطرح كمدينة توأم لمدينة مسقط السياسية التاريخية، مدينة تسكن على ضفاف بحر عُمان كتوأمها مسقط، تجاورها وتتقاسم معها خبز الحياة اليومي، فالسياسة العُمانية كانت تصنع في مسقط، أما التجارة العُمانية فعلى الأغلب كانت تديرها مطرح بسوقها المنفتح على الداخل العُماني، ومينائها المنفتح على العالم الخارجي.
كانت الركبان من الداخل تأتي إلى سوق مطرح التاريخي حاملة البضاعة العمانية من تمور وبسور وغيره مما يراد تصديره، كما كانت السفن تأتي إلى ميناء مطرح حاملة الأرز والأقمشة والكماليات وكل ما يحتاجه العمانيون من بضاعة خارجية.
شهدت مطرح فصولًا تاريخيةً مهمةً جدًا، بدورها التجاري النشط، ولا تزال تحتفظ بألقها التجاري عبر سوقها ومحلاتها، ونشاطها التجاري، وتحتفظ بألقها السياحي بآثارها المتنوعة التي يسعى إليها السائح عندما ينزل في مينائها، ميناء السلطان قابوس.
يؤمل الكثير من ندوة مطرح عبر التاريخ، عبر أوراق العمل التي ستطرح، وعبر التوصيات، ويؤمل أن تكون الندوة محط انطلاقة جديدة للاهتمام بمطرح الولاية ومطرح المدينة التاريخية، وخاصة قد سبقت الندوة توجيهات جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- عن إعادة إحياء مطرح.
فالخوف أن تتحول مطرح إلى ولاية غريبة عن نفسها وعن سمتها ولباسها العُماني المعتاد، بعد أن هجرها الكثير من سكانها العُمانيين بسبب توزيع أراضٍ لهم بعيدة عن ولايتهم الأم، فاضطروا للبناء بعيدًا ونقل أسرهم معهم هناك، مما اضطر الكثير من مؤسسات الدولة أن تهجر مطرح، واضطر عدد من المدارس أن تقفل أبوابها لتناقص عدد الطلبة في الولاية كل عام.
لا ندري لِمَ لا تزال وزارة الإسكان لا تفتح هذا الملف المهم جدًا، لتوزع الأراضي السكنية فوق مرتفعات مطرح المنبسطة لسكانها، على الأقل ليعود الجيل الجديد من أبناء مطرح إلى أعشاشه الأصلية، فمطرح لا تستحق الهجران وتركها للغربة والنسيان، بل تستحق إعادة الأحياء كما وجّه جلالة السلطان المعظم، حفظه الله ورعاه.