استعراض كتاب: “الدين والصراع في السودان”
تاريخ النشر: 23rd, September 2024 GMT
Review of the book: “Religion and Conflict in Sudan”
Gabriel Warburg غابرييل واربورغ
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لاستعراض المؤرخ غابرييل واربورغ لكتاب "الدين والصراع في السودان"، الذي حوى أوراقاً قدمت في مايو من عام 1999م لمؤتمر عالمي في جامعة ييل الأمريكية. حرر الكتاب المؤرخان يوسف فضل حسن وريتشارد غريي، وصدر في نيروبي عن دار نشر Paulines Publications Africa عام 2002م.
وُلِدَ الكاتب في برلين بألمانيا عام 1927م، وهاجر مع عائلته وعمره سبع سنوات إلى فلسطين وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (1961 - 1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، والتي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 - 1916م"، تحت إشراف المؤرخ البريطاني بيتر هولت. ثم عمل بعد ذلك أستاذا في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر الرجل الكثير من الكتب والمقالات المحكمة عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها كتاب بعنوان "الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان"، وكتاب آخر عن "الطوائف الدينية في السودان والسياسة منذ عهد المهدية"، وعدة مقالات عن الإخوان المسلمين وأنصار المهدي والحزب الشيوعي السوداني، وعهد جعفر نميري، وموضوعات متفرقة أخرى.
المترجم
************ ************ ***********
يحتوي هذا الكتاب عن "الدين والصراع في السودان" على فصول كتبها أربعة عشر من الخبراء، كان معظمهم قد أجرى أبحاثاً عن السودان من قبل. وكانوا قد قدموا مساهماتهم تلك في مؤتمر دولي عقد بجامعة ييل الأمريكية في شهر مايو من عام 1999م. وشملت المساهمات التالي: 1/ يوسف فضل حسن: دور الدين في النزاع بين الشمال والجنوب في السودان
2/ ريكس. ش. أوفاهي: إنهم عبيد، ولكنهم ذهبوا أحراراً
3/ محمد إبراهيم خليل: حقوق الإنسان وأسلمة النظام القضائي في السودان
4/ أوكولادا م. تير: خليط من أنظمة القضاء المدني والشريعة والعرف في إطار صراع عرقي: حالة السودان
5/ عبد السلام سيد أحمد: الحرب غير المقدسة: جهاد وصراع في السودان
6/ عزة أنيس: الحدود المتحركة: أشكال المقاومة والتضامن النسوي في السودان الإسلامي
7/ هنود ابيا كادوف: الدين والنزاع في جبال النوبة
8/ ريتشارد غريي: بعض الأفكار حول دور / مشاركات المسيحيين
9/ اسكوبس سيكوات بوغو: تجارب كوكو الدينية في السودان وفي المنفى الأوغندي بين عامي 1900 و1972م
10/ شارون الين هيتشينسون: شظايا روحية من حرب لم تُنْتَهَ
11/ مارك آر. نيكل: التحول للمسيحية عند بور جينق Jieng Bor
12/ بيتر وودوارد: الدين والسياسة في جنوب السودان: البعد الأوغندي
13/ ليليان كريغ هاريس: البحث عن السلام في السودان: العوائق، والتسامح والحوار
(ذكر كاتب الاستعراض في البدء أن 14 من الخبراء قد ساهموا في هذا الكتاب! المترجم)
وذكر محررا الكتاب أن اهتمامها الرئيسي موجه نحو المكونات الدينية والإيدلوجية للصراع في السودان، الذي "يهدد بتدمير البلاد" (ص 13). وكان ذلك الصراع قد اِسْتَمَرَّ (مع بعض الفترات التي ساد فيها السلام) من أغسطس عام 1955م قبيل نيل السودان لاستقلاله في 1/1/1956م، إلا أن جذوره تمتد إلى تاريخ وجغرافية المنطقة التي تقدم فيها الإسلام منذ القرن العاشر الميلادي، على حساب المسيحية. والواقع أن مملكة النوبة المسيحية لم تعد قائمة في منتصف القرن الخامس عشر، وحل محلها المسلمون الذين اعتنقوا الإسلام، الذين أسسوا سلطنات الفونج والفور وتقلي. وكان ما يُعرف اليوم بشمال السودان قد اعتنق الإسلام قبل فترة طويلة من الغزو المصري للسودان في عامي 1820 و1821م، وحتى قبل فترة أطول من بدء النزاع الحالي. وكانت هناك فترة وجيزة من عام 1972 إلى عام 1983، عندما بدا أنه يمكن إيجاد نهاية لذلك النزاع، ولكن "برزت إلى الواجهة في سبتمبر 1983م مسألة دينية عندما أصدر الرئيس نميري مرسوماً بسن الشريعة الإسلامية كقانون للدولة" (ص 23). (المعروف أن الحركة الشعبية لتحرير السودان كانت قد بدأت تمردها / ثورتها في مايو 1983م. المترجم).
وعلى الرغم من أن الدين ليس هو السبب الوحيد لذلك النزاع المستمر، إلا أنه "أصبح رمزاً للهوية وتقاسم السلطة"، وبهذا فقد تم اختياره كقضية مركزية تناول عرض جوانبها المختلفة هذا الكتاب. ومع ذلك، يذكر ريتشارد غريي، أحد محرري الكتاب، في خاتمة مقاله، أن الأوراق المنشورة فيه تشير إلى أن "العوامل الدينية كانت ذات أهمية ضئيلة في خلق النزاعات ... بيد أنها اُسْتُخْدِمَتْ لإضفاء الشرعية على العنف (ص 195). وعلاوةً على ذلك، ووفقاً لغريي، فإن هذه المقالات "إن أخذناها مجتمعةً... فإنها توضح بشكل حاسم سطحية وصف هذا النزاع بشكل أساسي من حيث أنه حملة صليبية أو جهاد" (ص 195).
وأبان بوضوح اثنان من كتاب فصول هذا المؤلف هما عبد السلام سيد أحمد وهنود ابيا كادوف، في وصفها للمشهد السوداني المعاصر بأن نظام الجبهة الإسلامية القومية الذي استلم السلطة عبر انقلاب عسكري في يونو 1989م كان قد استخدم "الجهاد" لتعبئة مناصريه ليقوموا بحشد الدعم في صراعها من أجل السلطة. إن وجهة نظر الجبهة الإسلامية القومية نفسها بشأن شرعية الجهاد، على الرغم من صراحتها عموماً، غائبة للأسف عن المجموعة، على الرغم من محاولة المؤلفين الحصول على ردها (ص 196)1.
وقد اخترت هنا بعض المقالات التي سبق ذكرها لتوضيح الموضوعات الرئيسية التي أتى على ذكرها محررا الكتاب. وأعد "جبال النوبة" مثالاً جيداً لتوضيح التَشَابُك والارتباك فيما يتعلق نزاعات السودان. وقد أكد هنود ابيا كادوف بأن حقيقة أن النوبة لا يدينون بديانة واحدة لم تكن في يوم من الأيام عامل تفرقة في أي واحدة من مجتمعات النوبة في الأجيال السابقة. غير أنه يرى أن ما حاق بالنوبة من نزاعات يمكن أن تُعزى – على الأقل جزئياً – للإسلام2، إذ أن الإسلام السوداني كان قد أدخل عناصر جديدة للصراعات السياسية في المنطقة. و"الإسلام، وخاصة في السودان، مشبع بالمفاهيم العنصرية للعروبة ويرتبط بها بطبيعته (صفحة 107)". ولم يرفع النوبة السلاح فقط بسبب قوانين الشريعة الإسلامية. ولم تتحول الحرب إلى حرب دينية إلا بعد أن أصرت الحكومة على أن الإسلام هو القضية. ويزعم هنود في الواقع أن هناك: " العديد من الأمثلة توضح كيف تم استغلال الدين لأغراض عنصرية في السودان، (خاصةً) عندما أُعْلِنَ الجهاد في تلك المنطقة، "كانت النية الوشيكة هي تكثيف محاولات تعريب وأسلمة قبائل النوبة الوثنية. وكانت الفكرة هي خلق ما يُسمى بـ "الحزام العربي"، أو دق إسفين بين الشمال المستعرب والشمال الأفريقي". و"مِنْ ثَمَّ فإن هذه السياسة هي سياسة عنصرية الطابع... فالجهاد لا يُقَامُ فقط ضد ما يسمى بالكفار من جبال النوبة والجنوب وحدهم، بل وأيضاً ضد المسلمين النوبة (صفحة 108)." وأصدر بعض العلماء وزعماء الطرق الصوفية بمدينة الأبيض في أبريل من عام 1992م فتوى تحض على الجهاد ضد "الكفار". وجاء في الفتوى ما يفيد بأن المتمردين في جبال النوبة وجنوب السودان يتلقون العون والسند من الصهاينة والمسيحيين. بينما كان كثير ممن يسمون بـ "متمردي النوبة" من المسلمين الذين كانوا يعارضون سياسة حكومة الإسلاميين فيما يتعلق بالجهاد الذي يوجه ضدهم. وعلى الرغم من أن هنود يقر بأن النوبة المسلمين المتشددين أدوا دوراً في إدامة الصراع، فإنه يعتبر أن تعصب الحكومة للإسلام بسبب سياساتها العرقية والعنصرية هو المصدر الرئيسي للصراع. ويمكن الاستشهاد بحالات مماثلة من مناطق ومجموعات عرقية أخرى في السودان مثل الزغاوة في دارفور، أو البجا في جبال البحر الأحمر. وفي تلك الحالات أيضاً اُسْتُخْدِمَتْ فكرة الجهاد من قبل النظام الإسلامي من أجل فرض نسخته من الإسلام المستعرب على السكان المسلمين من غير العرب.
وخلص عبد السلام سيد أحمد في مقاله الذي جاء بعنوان:" الحرب غير المقدسة: جهاد وصراع في السودان إلى أن "الحرب الأهلية التي ظلت دوما مكوناً ثابتاً تقريباً في تاريخ السودان بعد نيله للاستقلال، غدت فجأةً مصدراً لكل الحوادث غير العادية، وأقصر الطرق للجنة، التي هي الجائزة الكبرى للمجاهدين" (ص 92). وكان "إعلان الجهاد" بجنوب كردفان وجنوب السودان في أبريل من عام 1992م في ذهن هذا الكاتب وهو يكتب تلك العبارة. وكان هذا، وفقاً لعبد السلام سيد أحمد هو " السجل الوحيد المعروف لاستدعاء سلطة دينية لإضفاء الشرعية على حرب الحكومة ضد الجيش الشعبي لتحرير السودان بشعارات دينية". وغدا عام 1992م هو عام الجهاد في كردفان لتحريرها من الكفار المتمردين"، مع إعلان الرئيس عمر البشير "إماماً للمجاهدين" (ص 88). وكان النظام الحاكم قد أنشأ قوة "الدفاع الشعبي" في نوفمبر من عام 1989م كقوة علمانية تحت سيطرة الجيش النظامي، وسُميت لاحقاً بـ "المجاهدين". وكان هدف النظام الرئيسي هو غرس التعاليم الإسلامية، والذي كان مدفوعاً في المقام الأول من قبل الكوادر السياسية للجبهة الإسلامية القومية. وفي الواقع، يخلص عبد السلام سيد أحمد إلى أن "رفع لواء الجهاد كان بمثابة دافع للحكومة لتوسيع صفوف مقاتليها المحتملين والفعليين وتعزيز قوتهم من خلال غرس قيم الاستشهاد والتضحية فيهم" (ص 96).
وكشف بيتر وودوارد في مقاله المعنون "الدين والسياسة في جنوب السودان: البعد الأوغندي" عن تطور مثير للاهتمام فيما سُمي بـ "النزاع الديني" كان هو التحالف بين حكومة السودان الإسلامية وبين "جيش الرب" المسيحي الذي كان يقوده جوزيف كودي في شمال أوغندا. وقد كانت أوغندا جزءاً من الصراع في السودان منذ بدايته في 1955م. وتوسع بيتر وودوارد في ذكر ما قدمته أوغندا لمتمردي جنوب السودان من مساعدات إبان سنوات السبعينيات وحتى عام 1989م. غير أن الأوغنديين من أنصار الجنرال عيدي أمين استغلوا التعاون عبر الحدود أيضاً، حيث وجدوا ملجأً لهم في جنوب السودان بعد إسقاط الجنرال أمين. ومن عجيب المفارقات في هذه الشراكات الغريبة أن "حركة مسيحية تقاوم الإسلام في جنوب السودان تلقت المساعدة من نوبي مسلم، هو عيدي أمين، وأن السودانيين الجنوبيين ساعدوه في السيطرة على مقاليد الحكم في أوغندا" (ص 170). وفي الواقع، كانت للإثنية والحركتين في كل من جنوب السودان وشمال أوغندا (اللتان كانتا تمثلان "الهامش") أهمية أكبر في تفسير تلك العلاقات الخاصة التي نشأت عبر الحدود. وعلى ضوء هذه الخلفيات، من الأسهل أن نفهم طبيعة التحالف بين حركة "جيش الرب" بقيادة جوزيف كوني والحكومة الإسلامية في الخرطوم. ومنحت الحكومة السودانية "جيش الرب" الأسلحة وفرص ووسائل التدريب في جنوب السودان، بينما عمل "جيش الرب" في شمال أوغندا على منع امدادات ومساعدات الحكومة الأوغندية لحركة تحرير السودان. ومن باب "المماهاة أو التماهي" مع تعاليم ديانة رعاته الجدد أضاف جوزيف كوني وصايا مسيحية جديدة منها قتل من يربي الخنازير، وقطع يد من يعملون في يوم الجمعة (ص 175). وسواءً أكان ينبغي النظر إلى هذا الأمر بسخرية أو تهكم، فتلك مسألة أخرى. وقد خلص بيتر وودوارد إلى أن "السياق السياسي يفسر الكثير من التناقض الديني الواضح... فبالنسبة للأطراف المتحاربة، يشكل الدين على أقل تقدير أداةً لإضفاء الشرعية، وإن كان ذلك غالباً ما يتم وفقاً لشروط متنازع عليها.... ومن الممكن أن تؤدي مثل هذه التحالفات المختلفة ظاهرياً بين الهويات الدينية إلى درجة من السخرية فيما يتصل بجدية الدوافع "الدينية" التي يتبناها أصحاب السلطة" (صفحتي 178 و179).
وها نحن نعود لتأكيد أحد محرري هذا الكتاب (ريتشارد غريي) أن الدين في حد ذاته per se لا يمكن أن يُلَامُ في هذا النزاع. غير أن الدين (يمكن) أن يؤدي دوراً في إطالة أمد الصراع، أو شرعنته، خاصة إن كانت لذلك الصراع جذوراً تمتد بعيداً في التاريخ، وكانت له – منذ البداية - أسباباً مختلطة شملت أسباباً تتعلق بالتنوع العرقي أو الثقافي والإثني. وأقتطف هنا بعض ما ذكره دوغلاس جونسون في مقال له صدر في أبريل من عام 2003م في نشرة جمعية الدراسات السودانية بعنوان "جذور حرب السودان الأهلية" من أن "عدم المساواة بين وسط السودان ومناطقه الطرفية، والوضع الملتبس لسكان تلك المناطق الطرفية، الذين هم ليسوا جزءاً من التراث الإسلامي في وسط السودان .... وقد جعل النظام الإسلامي كل ذلك في حال أسوأ مما كان عليه .... لقد كان ذلك النظام يفرق بين بصورة واضحة بين مواطني السودان؛ فلبعضهم حقوق قانونية كاملة، لا يتمتع بها البعض الآخرون ... ودانت مجموعة من المواطنين بالولاء الشخصي للإمام بحسبانه "قائداً وطنيا"، وضاعف من استغلال المناطق الريفية عبر المصارف الإسلامية الحديثة ومؤسسات التنمية" (ص 20). لذا ليس هناك من عجب إن اشتكى محررا الكتاب (ريتشارد غريي ويوسف فضل حسن)، وهما من الباحثين المجيدين في هذا الموضوع، من تعقيد طبيعة الصراعات التي يسعى الكتاب لمعالجتها، وأن يزعما أن ليس بمقدور الدين وحده أن يحل تلك الصراعات، رغماً عن رضا ورغبة الأطراف المتنازعة في ذلك.
ملاحظات من المترجم
1/ لم يتضح لي المقصود تماماً ما عناه كاتب الاستعراض بتلك الجملة.
2/ لعل المقصود هنا هو "للمسلمين" وليس "للإسلام".
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الصراع فی السودان فی جنوب السودان على الرغم من جبال النوبة هذا الکتاب جیش الرب من عام إلى أن
إقرأ أيضاً:
السودان والإمارات.. هل تغير “دولة ممزقة” تاريخ الحروب؟
لعقود طويلة، كانت حروب الوكالة ـ ولا تزال ـ حيزا غامضا تتحرك في فضائه الدول لتحقيق أهدافها الاستراتيجية من دون الانخراط المباشر في أعمال عسكرية واسعة النطاق، لكن هذا الحيز الرمادي ـ ثمة احتمالات ولو ضعيفة ـ قد يتقلّص، إذ تعيد دعوى قضائية جديدة النقاش حول إمكانية تجريم المشاركة ـ ولو عن بُعد ـ في جرائم الحرب.
السودان ضد الإمارات
يقاضي السودان دولة الإمارات أمام محكمة العدل الدولية بتهمة تأجيج نزاع داخلي، من دون أن تنشر الدولة الخليجية قواتها على الأراضي السودانية.
يزعم السودان أن الإمارات متواطئة ـ بتقديم دعم مالي وسياسي وعسكري ـ في "إبادة جماعية" ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع بحق قبيلة المساليت في غرب دارفور، نوفمبر 2023.
القضية "غير مسبوقة في نطاق القانون الدولي"، يقول لموقع "الحرة" عبدالخالق الشايب، وهو مستشار قانوني وباحث في جامعة هارفارد.
وإذا قضت المحكمة لصالح السودان، فيسكون الحكم ـ بدوره ـ "سابقة قانونية" تُحمّل فيها دولة المسؤولية القانونية عن حرب بالوكالة، خاضتها عن بُعد.
وسيوفر الحكم أساسا لمساءلة الدول عن حروب الوكالة، وإعادة تقييم مبدأ عدم التدخل في سياق الحروب غير المباشرة.
يقول خبراء قانون لموقع "الحرة"، إن قضية السودان ـ إذا نجحت ـ ستؤدي إلى إعادة النظر في أدق التحفظات المتعلقة بالمادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، خصوصا عندما تكون هناك ادعاءات بارتكاب إبادة جماعية.
وقد تفقد الدول ـ نتيجة لذلك ـ القدرة على حماية نفسها من اختصاص المحكمة في مثل هذه القضايا.
ومن تداعيات القضية ـ إذا قررت محكمة العدل الدولية البت فيها ـ إعادة تفسير اتفاقية الإبادة الجماعية لتشمل حالات التورط غير المباشر أو التواطؤ في جرائم الحرب.
حروب الوكالة
في حديث مع موقع "الحرة"، تقول ريبيكا هاملتون، أستاذة القانون الدولي في الجامعة الأميركية في واشنطن، إن مفهوم الحرب بالوكالة يتبدى عندما تتصرف دولة كراع وتدعم طرفا آخر في ارتكاب أفعال خاطئة.
ورغم أن حروب الوكالة تبدو ظاهرة حديثة، فلها تاريخ طويل ومعقّد.
تُعرّف بأنها صراعات تقوم فيها قوة كبرى ـ عالمية أو إقليمية ـ بتحريض طرف معين أو دعمه أو توجيهه، بينما تظل هي بعيدة، أو منخرطة بشكل محدود في القتال على الأرض.
تختلف حروب الوكالة عن الحروب التقليدية في أن الأخيرة تتحمل فيها الدول العبء الأكبر في القتال الفعلي، وعن التحالفات التي تساهم فيها القوى الكبرى والصغرى حسب قدراتها.
وتُعرف حروب الوكالة أيضا بأنها تدخّل طرف ثالث في حرب قائمة. وتشير الموسوعة البريطانية إلى أن الأطراف الثالثة لا تشارك في القتال المباشر بشكل كبير، ما يتيح لها المنافسة على النفوذ والموارد باستخدام المساعدات العسكرية والتدريب والدعم الاقتصادي والعمليات العسكرية المحدودة من خلال وكلاء.
من الإمبراطورية البيزنطية إلى سوريا
يعود تاريخ الحروب بالوكالة إلى عصور قديمة، فقد استخدمت الإمبراطورية البيزنطية استراتيجيات لإشعال النزاعات بين الجماعات المتنافسة في الدول المجاورة، ودعمت الأقوى بينها.
وخلال الحرب العالمية الأولى، دعمت بريطانيا وفرنسا الثورة العربية ضد الدولة العثمانية بطريقة مشابهة. وكانت الحرب الأهلية الإسبانية ساحة صراع بالوكالة بين الجمهوريين المدعومين من الاتحاد السوفيتي والقوميين المدعومين من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
وخلال الحرب الباردة، أصبحت الحروب بالوكالة وسيلة مقبولة للتنافس على النفوذ العالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تجنبا لاحتمال نشوب حرب نووية كارثية.
ومن أبرز الأمثلة: الحرب الكورية، حرب فيتنام، الغزو السوفيتي لأفغانستان، والحرب الأهلية في أنغولا. استمرت هذه الحروب حتى القرن الحادي والعشرين. وتُعد الحرب في اليمن مثالا واضحا لحروب الوكالة، حيث تدعم إيران الحوثيين بينما تدعم السعودية وحلفاؤها الحكومة اليمنية.
وأظهر الصراع في سورية قبل سقوط نظام بشار الأسد مثالا صارخا لحروب الوكالة في عصرنا، من خلال تدخل روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا دعما لفصائل مختلفة.
قضية السودان ضد الإمارات قد تدفع دولا أخرى إلى التفكير باللجوء إلى محكمة العدل الدولية في دعاوى مماثلة، ولكن!
الإبادة الجماعية؟
لا تتعلق دعوى السودان بحروب الوكالة تحديدا، يؤكد الخبراء، بل تستند إلى اتفاقية "منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة المتورطين فيها".
تدّعي الخرطوم أن ميليشيات الدعم السريع ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بينها القتل الجماعي، والاغتصاب، والتهجير القسري للسكان غير العرب، وتزعم أن تلك الجرائم ما كانت لتحدث لولا الدعم الإماراتي، بما في ذلك شحنات الأسلحة عبر مطار أمجاراس في تشاد.
"يحاول السودان أن يثبت دور دولة أخرى غير المباشر في ارتكاب قوات عسكرية أو ميلشيا تحارب في السودان إبادة جماعية".
"أساس القضية،" يضيف، "المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها".
رغم أن كلّا من الخرطوم وأبوظبي من الموقعين على الاتفاقية، تعتقد هاملتون أن من غير المحتمل أن يتم البت في هذه القضية، إذ إن "محكمة العدل الدولية تفتقر إلى الاختصاص القضائي للنظر فيها".
"عند توقيعها على اتفاقية الإبادة الجماعية،" تتابع هاميلتون، "أكدت الإمارات أنها لم تمنح محكمة العدل الدولية السلطة للفصل في النزاعات التي قد تنشأ بينها وبين دول أخرى بشأن هذه الاتفاقية".
ويلفت ناصر أمين، وهو محام مختص بالقضايا الدولية، إلى أن النزاع القائم في السودان يُعتبر وفقا لأحكام القانون الدولي الإنساني نزاعا مسلحا داخليا، إلى أن تثبت الخرطوم بأن هناك تدخلا من إحدى الدول لصالح أحد أطراف النزاع داخليا".
"وهذا يحكمه بروتوكول ملحق باتفاقيات جنيف أو بالقانون الدولي الإنساني المذكور في المادة 3 من البروتوكول الثاني لاتفاقيات جنيف المنعقدة عام 1929،" يضيف.
تنص المادة الثالثة على أن أحكام هذه الاتفاقية لا تسمح لأي دولة أن تتدخل في الشأن الداخلي لأي دولة أخرى أو أن تمارس أي أعمال داعمة لأي فصيل متنازع أو متصارع.
"على السودان أن يثبت أمام محكمة العدل الدولية أن هناك خرقا حدث للمادة 3 من البروتوكول"، يوضح.
نقاط القوة والضعف
وتقول ربيكا هاملتون "من المؤسف" أنه من غير المحتمل أن تُرفع هذه القضية، حيث إن محكمة العدل الدولية تفتقر إلى الاختصاص القضائي للنظر فيها.
ويشير الباحث القانوني، عبدالخالق الشايب، إلى أن قضية السودان ضد الإمارات "يبقى التعامل معها متعلقا بوكالات الأمم المتحدة أو مجلس الأمن تحديدا".
لكن هاملتون تقول إن هناك مجموعة من القوانين الدولية التي تحظر حروب الوكالة، لكن "التحدي الحقيقي يكمن في كيفية إنفاذ هذه القوانين".
"سابقة".. حتى لو تعثرت؟
أن تتعثر قضية السودان ضد الإمارات ـ بسبب الاختصاص القضائي ـ أمر وارد، لكنها تبقى، وفق خبراء في القانون، "ذات دلالة رمزية كبيرة".
"بغض النظر عن نتيجتها،" تقول أستاذة القانون الدولي ربيكا هاملتون، لموقع "الحرة"، "تمثل القضية محاولة جريئة من دولة ممزقة بالصراعات لتوسيع مفهوم المساءلة عن ممارسات الحرب الحديثة".
وحتى إن رفضت محكمة العدل الدولية النظر في الدعوى، فإن القضية تضيّق الحيز الرمادي الفاصل بين المسؤولية المباشرة والمسؤولية غير المباشرة عن جرائم الحرب.
في تصريحات لموقع "JUST SECURITY"، يشير خبراء قانون إلى أن صدور حكم لصالح السودان ـ حتى وإن كان ذلك غير مرجح ـ قد يؤدي إلى إعادة تقييم شاملة للمعايير القانونية الدولية المتعلقة بتواطؤ الدول وتدخلها.
قبول الدعوى قد يدفع القانون الدولي إلى مواجهة التكلفة الحقيقية لحروب الوكالة الحديثة — سواء خيضت بجنود على الأرض، أو من خلال دعم مالي وعسكري عن بُعد.
الحرة - واشنطن