حليم عباس: السودان عصي على الهزيمة
تاريخ النشر: 23rd, September 2024 GMT
نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرا مطولا حول الدعم الأماراتي المتزايد لمليشيا الدعم السريع.
الدعم الأماراتي للمليشيا معلوم بالضرورة منذ بداية الحرب وتحدثت عنه عدة صحف غربية ومنظمات ومسؤولين في الأمم المتحدة وغيرها. ولكن الجديد في التقرير الأخير هو أن الأمارات ضخمت من دعمها مؤخرا وأصبح تدخلها ودعمها أكثر قوة وأكثر سفورا.
حسب التقرير فإن الأمارات تشارك في الحرب على السودان عبر طائرات بدون طيار تابعة لها بشكل مباشر وتديرها وتتحكم بها الأمارات نفسها وليس المليشيا. تنطلق هذه الطائرات من مدينة أمجرس التشادية التي تضم قاعدة عسكرية تابعة للأمارات وتقوم بالتحليق في الأراضي السودانية وتقديم دعم استخباري للمليشيا. المسيرات الأماراتية تحلق فوق الفاشر لتقديم دعم استخباري مباشر للمليشيا في معركة الفاشر بتوفير المراقبة وتحديد الأهداف كما تعمل أيضا على توجيه قوافل الأسلحة والدعم اللوجستي للمليشيا عبر الصحراء. ويقول خبراء، حسب الصحيفة الأمريكية، أن هذه الطائرات بعد الإقلاع قد يتم توجييها عن بعد من الأراضي الأماراتية.
ذكر التقرير كذلك مواجهة مسئولين أمريكان قادة الأمارات بشأن دعمهم للمليشيا بما في ذلك مواجهة نائبة الرئيس الأمريكي المرشحة الحالية للرئاسة كمالا هاريس لرئيس الأمارات محمد بن زايد. وكان رد بن زايد أنه مدين لحميدتي لمشاركته في حرب اليمن وأنه ينظر إلى مليشيا الدعم السريع كحصن ضد الحركات الإسلامية في المنطقة.
باختصار، الأمارات متمادية في دعمها للمليشيا ومصممة على ذلك. عدوان سافر على التراب السوداني والدولة السودانية والشعب السوداني بتدخل مباشر لم يقتصر على إرسال شحنات الأسلحة وإنما تعدى ذلك إلى إرسال طائرات مسيرة للإسناد الاستخباري في المعارك وفي معركة الفاشر تحديدا. فهذه الحرب هي حرب الأمارات ضد السودان وليست حرب أسرة دقلو. لا تسطيع عائلة واحدة تدعمها بعض قيادات القبائل محاربة دولة بجيشها وشعبها وحركاتها المسلحة؛ فهي مجرد أداة تم توظيفها في هذه الحرب. كذلك كل مجتمعات دارفور التي رمت بأبنائها في هذه الحرب تخوض في الواقع حربا بالوكالة وتقوم بدور لا يختلف كثيرا عن دور المرتزقة الذين تم شراءهم من عدة دول أفريقية وغير أفريقية مع فارق أساسي هو أن هذه القبائل تقاتل بالمجان بدون مقابل.
ويبدو أن الأمارات تشعر بالاستفزاز مع كل هزيمة تتلقاها المليشيا في أرض المعركة ولذلك تضاعف دعمها وتزيد من تدخلها كل مرة. وهذا لن يتوقف.
الفاشر الآن هي رأس الرمح للتصدي لهذا العدوان دفاعا عن النفس أولا ثم دفاعا عن كل السودان. وهم لا يملكون رفاهية الاختيار بين الاستسلام أو الانتصار. الفاشر تقاتل بجيشها وحركاتها المسلحة ومستنفريها لأنها لا تملك خيارات أخرى؛ إما الانتصار أو الانتصار. وستظل بإذن الله هي الصخرة التي يتحطم عندها عدوان الأمارات على الأمة السودانية.
صحيح الأمارات تملك الكثير من الأموال وقد استطاعت بالفعل توجيه ضربات قوية للدولة السودانية. ولكن السودان دولة عظيمة وشعب عظيم. نحن 40 مليون؛ كم يبلغ تعداد سكان الأمارات؟
نحن أيضا لدينا القوة والأمكانيات والموارد ولدينا حلفاء وأصدقاء؛ فالسودان عصي على الهزيمة. وستدفع الأمارات ثمن عدوانها.
حليم عباس
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
لا النافية للرق: الدبلوماسية السودانية وسماحة جمل الطين
عبد الله علي إبراهيم
(نص من كتابي أوراق إنقاذية: من يخاف الحركة الإسلامية. وهو عن تجربتي عضوا بمؤتمر "الحوار الوطني من أجل السلام" الذي عقدته حكومة الإنقاذ في شتاء 1989. ويحكي عن عرض لي بالسفارة عن السودان في 1991)
طلبني سكرتير السيد العقيد محمد الأمين خليفة عضو مجلس ثورة الإنقاذ الوطني في أوائل 1991 ليقول لي إن العقيد يرغب في لقائي بمكتبه بمبنى البرلمان بأمدرمان. كنت تعرَّفت على العقيد خليفة خلال مشاركتي في المؤتمر الوطني من أجل السلام الذي كلف برئاسته، وقد وجدته دمثاً، حيياً وباله طويل. وهي الصفات التي حببت الرجل إلى فأمطرته باحتجاجاتي المتكررة أشكو فيها ضيماً خاصاً أو عاماً ضمن جماعة من أخيار أعضاء المؤتمر الوطني للسلام.
كنت شكوت له من عادة الحكومة مناداتنا بالإذاعة إلى المشاركة في هذا الأمر أو ذاك من غير استئذان لائق. كما احتججت مع نفر صالح من أعضاء المؤتمر على الحكم بإعدام الدكتور مأمون محمد حسين الذي قاد إضراب نقابة الأطباء ضد الحكومة وهي في عامها الأول لا تزال. وكان من بين النفر الصالح المحتج المرحوم الدكتور عمر بليل؛ مدير جامعة الخرطوم السابق، والتيجاني الكارب المحامي، وعبد الله إدريس الأستاذ بجامعة الخرطوم، والدكتور سيد حريز الأستاذ بنفس الجامعة، والصديق الإسلامي المعروف الدكتور الطيب زين العابدين، وقد أغنانا الطيب عن التطويل في لقائنا مع العقيد خليفة حيث قال له إن الإسلام لا يقتل النقابيين وكفى. وكان العقيد خليفة خلال لقائنا رابط الجأش حفياً مستمعاً.
حسبت أن العقيد إنما يطلبني عن طريق سكرتيره لنقاش مسألة متبقية عن احتجاج أو اقتراح. وكنت قد التمست منه قبل أيام فقط أن يلتقي وفداً من الأساتذة المشرفين على مشروع البحر الأحمر البحثي المشترك بين جامعة بيرغن في النرويج وجامعة الخرطوم. فقد اتفق لمؤتمر أخير لأهل المشروع أن علائم بإقليم البحر الأحمر تشير إلى مجاعة وشيكة. وقد رغبت أن يحمل زملائي الباحثون هذه العلائم والمواقف إلى العقيد خليفة الذي كان وقتها مشرفاً سياسياً على إقليم البحر الأحمر، وقبل العقيد خليفة بحفاوة أن ينظم اللقاء الذي اعتذر عنه الأساتذة.
دارت جملة من المسائل برأسي وأنا في طريقي إلى لقاء العقيد. وحين جلست إليه سألني إن كنت أرغب في التعيين دبلوماسياً بوزارة الخارجية. أخذني العرض لحينٍ لأنني لم أتوقع أن يكون مدار حديثنا في ذلك اليوم. ويبدو أن العقيد هو الذي فوجئ بعد ذلك، وربما شك في أنني أسمع العرض لأول مرة.. ومنه بالتحديد. ومنشأ مفاجأته، في حدسي، ليس لأنني رفضت (وش)، وهي (الوجه)، أي ابتداء، ما يسيل له لعاب الصفوة الجامعية الطموحة من أمثالي، بل لأنني رتبت أسباب رفضي بقوة تتعذر على من سمع العرض بالتعيين لأول مرة.
حين قررت أن استجيب لنداء نظام البشير بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني من أجل السلام 1989، في ملابسات مقاطعة مدججة من القبائل اليسارية التي أنا منها و (باري) (أي بريء) منها، في عبارة سودانية جيدة، كنت قد وطنت نفسي ألا يتسرّب إلى من فضل النظام وعطاياه شيء. قلت في نفسي (الغني الله). وكان نفراً من زملائي في المؤتمر قد بدأ بالفعل ينتقل من قاعة المؤتمر إلى دواوين الحكومة.
وكنت رفضت حتى حضور اليوم الختامي للمؤتمر حتى لا اتسلم نوط جدارة أو جوازاً خاصاً. وليست هذه بطولة وإنما اتعاظ. فالذي رأى كيف تهاوى نخل الصفوة السامق بإغراءات الرئيس نميري. وبمنصبي الوزير والسفير خاصة، يعلم أن ظل الدولة الوريف غالب ومهين وزائل. وقد شاع في معنى هذه الحكمة أن النميري قد فرغ من تأليف كتاب سماه (رجال تحت حذائي). وأولئك الرجال هم رهط الصفوة التي دجنها بالعطايا وأهانها بالفصل العشوائي المكتوم عن طريق نشرة اخبار ما بعد الظهر. وقد راجت آنذاك عبارة أن فلاناً لم يقبل بالمنصب عجباً وخدمة للوطن، وإنما ليضمنه في ترجمته الذاتية ليسع به يروج لكفاءته في التعيين لمناصب الأمم المتحدة ودوائرها البشعة.
جاءني عرض السفارة وكنت ألقيت قبل أسبوع أو نحوه كلمة في مؤتمر سياسة السودان الخارجية الذي رتبه معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية، التابع لجامعة الخرطوم، تطرقت فيها إلى أسلوب حكومة السيد الصادق المهدي (1986-1989)، ووزارة الخارجية في الاستجابة للاتهام الذي راج عالمياً عن عودة ممارسات الرق للسودان في سياق الحرب الأهلية بين الحركة القومية الجنوبية والدولة السودانية. وقد ذاع هذا الاتهام بعد صدور كتاب "مذبحة الضعين والرق في السودان" (1987) للدكتورين بلدو وعشاري من هيئة التدريس بجامعة الخرطوم. وقد أحرج هذا الصيت السيء الحكومة السودانية إحراجاً لم يسبق لها إطلاقاً. وقاد هذا الصيت إلى تراجع بعض الحكومات الأوروبية عن حسن نيتها أو عونها للحكومة الوليدة. واستعصمت الحكومة بإزاء شبهة النخاسة الجديدة بإنكار وقوع الرق جملة وتفصيلاً. وألقت بالدكتور عشاري في غيهب السجن ونسبت كل قول عن الرق في السودان إلى نسيج مؤامرة بسيطة صهيونية إمبريالية أو صليبية ... وهلم جراً. ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتابي "الثقافة والديمقراطية في السودان" (القاهرة 1996). اتيح لي خلال هذه المحنة أن أقرأ رسائل بعثاتنا الدبلوماسية إلى وزارة الخارجية فإذا هي كورس مشفق منزعج يدفع الافتراء عن السودان، ويقرأ خبايا خبث نفوس أهل العالم. وغير خاف أن الدبلوماسية السودانية قد وضعت بإزاء مأزق دقيق لم يتأسس في سياسة العالم من فصل عنصري، أو محنة صهيونية، أو نضال شعبي في جزائر الواق واق، أو في اقتصاد العالمين من بنك دولي وقروض وعالم ثالث وعالم جنوب وعالم شمال. بل تأسس هذا الحرج في أكثر التخوم بعداً عن الدبلوماسية السودانية وقرباً منها في نفس الوقت: في ثقافة وممارسات جفاة الأعراب والزنج السودانيين من بدو وحضر، وقد أخرجت أثقالها الاجتماعية، وقال الإنسان مالها. ولأن الدبلوماسية السودانية كانت قد خشيت العالم وازدرت الجفاة من السودانيين، فقد اشترطت في تعيين الدبلوماسيين التخرج بمؤهلات في الاقتصاد والسياسة الدولية. وحرمت على خريجي كليات العلوم الاجتماعية والثقافية مجرد التقديم للعمل كدبلوماسيين بها. والعلوم الاجتماعية والثقافية هي التي لا يصح فهم الرق بدون معارفها ومناهجها.
كان إنكار ممارسة الرق بداهة من قبل الحكومة والدبلوماسية السودانية ولايزال لؤماً وجهلاً. كان لؤماً من جهة، لأن الحكومة آنذاك (1987) لم تحفل أبداً بالتحقيق عما أشيع عن الرق. بل بلغت الدولة آنذاك دركاً من اللوم سحيقاً حين أسقط البرلمان مشروع قرار بتكوين لجنة برلمانية تحقق في المزاعم عن تجدد الرق في السودان. وكان جهلاً، من جهة أخرى، لأن الدبلوماسية السودانية خلت من ذوي التأهيل المناسب للنصح والخوض في هذا الشأن المحرج. بل ولم تنم الدبلوماسية عادة استشارة ذوي الخبرة من خارجها لنصحها بشأن متاعبها في الساحة العالمية.
قلت للعقيد خليفة: لن تنصلح وزارة الخارجية بتعيين طائفة أخرى من الرجال والنساء وتسريح طائفة قديمة من الرجال والنساء. فأزمة عملنا الخارجي مؤسسية قبل أن تكون في الكادر البشري. و "سمَّعت" له كلمتي التي ألقيتها في مؤتمر علاقات السودان الخارجية. وما أحسب أن العقيد انتظر كل هذا مني، ولكنه ظل كعادته رابط الجأش، حفياً، مستمعاً.
غلاف كتاب "أوراق إنقاذية: من يخاف الحركة الإسلامية؟). وهو غلاف النسخة التي على أمازون لا الورقي. معروض بمعرض الشارقة للكتاب هذه الأيام.
ibrahima@missouri.edu