سعيد بن سالم البادي
التغافل يبدو في ظاهره الغباء والغفلة ولكنه في حقيقة الأمر صبر وحكمة وذكاء؛ فالشخص المتغافل يظهر عليه عدم المعرفة بما يدور حوله أو عدم الانتباه لما يقال له ولا يلقي له بالًا أو اهتماماً بالرغم من أنه يبدو مكرًا وخداعًا واضحًا جليًا للآخرين إلا هو الوحيد الذي لا يظهر عليه إدراك ذلك، بينما هو في الحقيقة مدرك لكل الأمر لكن استقبله بكل سعة صدر وهدوء واتزان متجاهلًا كل ما يدور حوله بحكمة ودهاء.
كأن يقدم له أحدهم نصيحة مغلفة بالإخلاص وحسن النية، إلا أن المنصوح يعلم مكنون تلك النصيحة من سياقها وتقلبات والتواءات الناصح وما حقيقتها إلا حسد وحقد وخبث وخداع، لكن المنصوح يتغابى ويتغافل عنه ويتركه يسرد ما لديه ويضع نفسه موضع المُصدق المتقبل للنصيحة وهذا شيء إيجابي من الإنسان الذي يستطيع أن يملك نفسه ولسانه مع علمه وإدراكه لما في الموضوع حتى تبقى عرى العلاقة والوصال مترابطة لأنه حينما يكون المرء مدركًا ما يحوم حوله من الأحداث وما يحاك له من الدسائس والمكائد يستطيع أن يتخذ احتياطاته والوسائل التي تقيه شر ما يحاك له من المكر والدسائس ويعرف كيف يتجنب ذلك فلا يضيره أن يتصنع الغباء والتغافل الذي يقيه أثر الشرين، شر ما يُقال وشر ما قد يكون من الرد الذي لا يُناسب وقد تكون له عواقب وخيمة.
ناهيك عن أنَّ عدم التغافل يجر الإنسان لكثرة الكلام والخوض في المراء الذي نهى عنه قدوة البشرية في أدب الكلام والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا...) والتغافل يسد أبواب المراء وكثرة الكلام الذي لا طائل منه ولا خير فيه إلا فتح أبواب التباغض والتشاحن.
والتغافل من سمات العظماء وشيم الكبار وصفات الأنبياء فهذا نبي الله يوسف عليه السلام يتغافل ويتغاضى عما فعله فيه إخوته وما حاكوه له من عداء فضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك عندما تغافل عن تطاول إخوته عليه ورموه بالسرقة فذكر الله ذلك التطاول في كتابه العزيز، قائلًا سبحانه وتعالى: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77]
ومن أدب التغافل أن يغض الإنسان الطرف ويعفو عن بعض الزلات والأخطاء التي قد تصدرعرضًا من القريب أو الصديق، والبعد عن عدها وإحصائها يعد من الحلم وهي صفة من صفات العقلاء قل من استطاع أن يتصف بها.
إن التغافل عن زلل وأخطاء الآخرين كثيرًا ما يجعل الطرف الآخر مستشعرًا الذنب وفي ذات الوقت يترك باب عودته إلى رشده مواربًا ويبادر بالندم والاعتذار.
وغياب مبدأ التغافل في المجتمع ترتب عليه ظهور الكثير من الخلافات والمشكلات التي لوعاودنا نبشها وتفنيدها مرةً أخرى لوجدنا أنها غارقة في التفاهة والبساطة التي لا تستحق ما أعطيناها من الأهمية السلبية التي أفقدتنا كثير من الإيجابيات المؤثرة في حياتنا اليومية من الصحة والعلاقات والمعاملات المتوجب علينا مراعاتها وأن نحافظ عليها ونحرص على ترسيخها في ما بيننا لننعم بالسعادة والإخاء بعيدًا عن التشاحن والبغضاء التي سببهما البعد عن التغافل الإيجابي الذي يحفظ لنا عرى المحبة والمودة والتراحم والتلاحم بيننا.
وأخيرا فرسالتي لكم لا تبحثوا عن تفسيرات ما يُقال كثيرًا ولو كان خطأ ولو كان يجرح ويحز في النفس ولا تتبعوا عثرات من تحبون ولا غير من تحبون فإن عدم البحث عن التفسيرات وعدم تتبع العثرات راحة للنفس وطمأنينة للقلب وكسب للآخرين وصحة للجسم وملأ الصحائف بالحسنات فإن الله يعوض الصابرين على ما يجده من الغير سواء قريباً أو بعيدا جبال من الحسنات فاذكروا حسنات بعضكم وتجاوزوا عن الأخطاء والعثرات فإنَّ الكلام الجميل كالمفاتيح يفتح به الإنسان قلوب من حوله.
هنيئا لمن يتغاضى ويلتمس الأعذار ويزرع الخير وطوبى لمن يحصد ثمرة الخير والبركة في الحياة الدنيا وفي المال والأولاد للقائمين على فعل الخير والناطقين به ومحسني الظن بالآخرين والسعد والفلاح والنجاح للخارجين من هذه الحياة الفانية بحسن المعشر وطيب الذكرى.
وقد أعجبتني بعض الأبيات المنسوبة للإمام الشافعي رحمة الله عليه تناسب هذا السياق يقول فيها:
قالوا سَكَتَّ وَقَد خُوصِمتَ قُلتُ لَهُم // إِنَّ الجَوابَ لِبابِ الشَرِّ مِفتاح
والصمَّتُ عَن جاهِلٍ أَوأَحمَقٍ شَرَفٌ // وَفيهِ أَيضًا لِصَونِ العِرضِ إِصلاحُ
أَما تَرى الأُسدَ تُخشى وَهِيَ صامِتَةٌ // وَالكَلبُ يخسى لَعَمري وَهوَ نَبّاح
وأخيرًا.. فقد قيل إن التجاهل وقت الغضب ذكاء والتجاهل وقت المصاعب إصرار والتجاهل وقت الإساءة تعقل والتجاهل وقت النصيحة البناءة غرور فلننتبه متى نتجاهل.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الكلام الصادق في رثاء الزميل صادق
بقلم : فراس الغضبان الحمداني ..
ويرحل عنا عزيزاً آخر وينضم لتلك القافلة الطويلة من الأحبة الذين غادروا عالمنا إلى عالم الأبدية حيث الرحمة والتسامح والمغفرة والراحة التي لا تنقطع وحيث لا مكان للهموم والأوجاع والأحزان والعذابات التي تعودناها في هذه الدنيا الفانية والزائلة والمنتهية ومتاعها القليل . رحل صادق فرج التميمي وهو يصارع المرض الممل والمرهق وترك أحزاناً من خلفه تطوق نفوساً أحبته من الأبناء والبنات المعانيات والصحاب وزملاء الدرب من الكتاب والصحفيين الذين مارسوا عملهم الصحفي والإعلامي على مدى عقود من الزمن كانت صعبة ومعقدة في ظل دكتاتوريات مترامية وحروب وحصارات وجوع وآلام تتوالى وتسجل حضورها اليومي في كل زاوية من الزوايا الضيقة في الأمكنة المتعددة التي كان يزورها ويغادرها ويتأملها واحدة واحدة إلى أن غادر تلك الأمكنة جميعها إلى مكان لا عودة منه ولكنه مكان لا مثيل له لأنه رحمة مطلقة وراحة كاملة . أمثالي الذين جربوا الفقد يفهمون لغة الرثاء ويجيدون الحديث فيها ويتعمقون كثيراً في توصيف الأوجاع فمن ترحل رفيقة دربه بمرض عضال ويرحل بعدها إبنه الشاب وهو في مقتبل العمر يستطيع أن يتجرد من الرغبات الدنيوية ويزهد في كل شيء حتى النوم والطعام والشراب ويأنف من الصراعات والمنافسات والجري خلف المكاسب المادية الزائلة . ومثلي الذي فقد الأحبة واحداً بعد واحدا يفهم جيداً ما يعني رحيل صادق فرج التميمي المولع والتأمل والكتابة والتأريخ والسيجار الذي لا يفارق يديه ولا يتوانى عن تقبيل شفتيه بحرقة التبغ المتوقد بين الفضاء المحيط بتلكم الشفتين الذابلتين وما يحيط بهما من فضاء مملوء بغبار من التردد والتيه والحزن الذي يبدو أبديا لا متناهياً يرافقه إلى لحظة الفراق والوداع الذي لم نحضر فيه عن قرب . عرفت صادق فرج التميمي منذ عقود فهو من الصحفيين والكتاب الأفذاذ الذين برعوا في فن الصحافة والتدوين مثلما برع في الحزن والخسارات المتتالية وفقدان الراحة والإستمرار في المعاناة التي تتحرش به من حين إلى آخر وتتجبر عليه وتتوغل معه في خلواته وتسمعه كلمات قاسية وتخبره في إذنيه إنها معه حتى يلفظ أنفاسه ويغادر الحياة لأنها في حينه لن تتمكن من الوصول إليه فهو في كنف الله صانع الخير والرحمة الكاملة التي لا تنتهي ولا تنقطع ولا تذوب في متاهات دنيوية كالتي نعيش ونكابد نحن هنا في عالمنا القبيح الذي كلما زدنا في تجميله تجبر في قبحه وبشاعته وطوقنا بإنانيته التي تسحبنا معها لنعيش تجربة ذات مليون بعد ومليون حزن ومليون ضياع وتيه ومكابدات وأشجان ولواعج . نودعك ياصادق فرج ولكننا لن ننساك فأمثالك يصعب نسيانهم وتجاوزهم في الذاكرة بل هم فيها يتجذرون ويعيشون كما ينبغي أن يعيشوا أعزاء ولهم كامل التقدير والتأثير والسيطرة على الروح . نودعك يا أبا هبة كما نودع العظماء حين يرحلون والورود حين تذبل بعد أن تفوح بعطرها وينتشر في المكان ويملأ النفوس بنشوة الإرتياح والسكون . Fialhmdany19572021@gmail.com فراس الغضبان الحمداني