ما وراء قصائد زاهر الغافري
تاريخ النشر: 22nd, September 2024 GMT
سالي علي
في عالم الأدب يوجد شاعر بارع يتميز بقدرته على صياغة قصائد النثر بشكلٍ مميز وفريد، إنه زاهر الغافري الشاعر الذي يتميز بقدرته على التعبير عن مشاعره وأفكاره بطريقة جذابة ومؤثرة دون الالتزام بقواعد الشعر التقليدية فهو يجمع بين جمال اللغة وعمق التعبير، مما يخلق تجربة أدبية تأسر القلوب وتثير التأمل.
ومن خلال قصائده النثرية، استطاع أن يلمس أوتار الإنسانية بصدق وصداقة، محاكياً تجارب الحياة والمشاعر بكل ما تحمله من تعقيد وجمال.
وباستخدام لغة متقنة وصور مُعبرة، ينجح في تسليط الضوء على جوانب مختلفة من الحياة والإنسانية، مما يجعل قصائده تمتزج بين الواقعية والخيال بطريقة تلهم وتبعث الأمل.
وعند هذه النقطة بالتحديد سنبدأ بتحليل العوامل الأساسية لنجاح قصائد زاهر الغافري ووصولها لقلب كل قارئ.
يقول الغافري بإحدى قصائده:
حصانٌ في مطبخي
عندما فتحتُ بابَ المطبخ
رأيتُه، رأيتُ الغريبَ
واقفاً على حوافرهِ
لمْ يكنْ إلاهاً لكنه قريب الشبه
ببياضهٍ وغرّتهِ في الجبين
حاولتُ أن أكلمَهُ، نظرَ في عينيَّ ثم
استدارَ ونظرَ الى النافذة
كانت الساعةُ الثالثة بعد منتصف الليل
الوقت الذي تستيقظُ فيه الشياطين كما يُقال
كان جميلاً الى الحد أنّ الشياطينَ ستهرب
منهُ من النظرةِ الأُولى
كان يلفّهُ الصمت بحيث تنسى نفسكَ
أنك تنظرُ الى كائنٍ متوحّدٍ مع نفسِهِ
قلتُ لنفسي ربما كان هذا هو الشِعر
ربما كان هو الموت، الملاك
الذي سيأخذني إلى التلالِ والينابيع
هذه القصيدة تحمل معاني عميقة وصورًا قوية، فيبدو لنا أنه يتصور وجود حصان في المطبخ، وهو موقف غير اعتيادي ومذهل، حيث يصف بياضه وجماله بطريقة تلهم الدهشة والتأمل، ويظهر تفاعل الشاعر مع هذا المشهد، حيث يحاول التفاهم مع الحصان لكن يتلون الصمت حوله. وبالنسبة للجزء الذي يتحدث عن ساعة الليل والشياطين، يبدو أنه يُضيف جوا غامضاً للقصيدة، حيث يصف اللحظة بجمال مخيف يثير الدهشة والتوتر. لتنتهي القصيدة بإشارة منه إلى الموت والملاك، مما يُعزز الطابع الفلسفي والروحاني في تفكير الشاعر.
لذا.. يمكننا رؤية القصيدة كتصوير لرحلة الانغماس الداخلي والتفكير في الحياة والموت، كما يبدو لنا بأن الغافري يسعى لاستحضار مشهد فريد ومثير للاهتمام، حيث يضع حصانًا في سياق غير تقليدي وغير مألوف كالمطبخ، والحصان يمثّل رمزية قد تكون مفتوحة للتأويل ولا تقتصر على معنى واحد.
وربما يرمز الحصان إلى الجمال الطبيعي الخالي من التحجر والروتين اليومي الذي نعيشه، لذا نجد كيف قد تكون تفاصيل الوصف للحصان تمثل الجمال والسكون والقوة التي قد نجدها في الطبيعة والتي يمكن أن تذكرنا بأهمية التواجد في اللحظة الحاضرة.
كما إن القصيدة تناولت مفهوم العزلة والوحدة؛ حيث صور الحصان الذي يقف وحيدا في المطبخ بمشهد منعزل فيثير بنفس المتلقي الشعور بالوحدة والانفصال عن العالم الخارجي. إلى جانب ذلك، تعكس القصيدة أفكار عن المجهول والغموض؛ حيث يُقدم الغافري مشهد غريب ومثير للتساؤل دون توضيح واضح للمعنى.
يبدو أنَّ الشاعر يهدف إلى إيجاد تأثير للمشهد الغريب وربما تحفيز المتلقي على التفكير والتأمل في أبعاد جديدة ومختلفة.
وعن قصيدته التي قال بها:
أبو طفول
هذه الأغنيةُ لكَ وحدك، معًا سنتعلّم منها معنى الوصول
إلى فجرِ الينابيع. أراكَ في بيتكَ وقد طردتَ مفاتيحَ الليل
في كأسكَ نارٌ صغيرةٌ لا تنطفئ كأن يدَ الله تهديكَ وردةً من أعلى جبلٍ في أرض عُمان كلها
في الثانية عشرة كنتَ تدخلُ إلى نادي الطيران وتجلس عند نافذةٍ البحر كأنك حارس في ميناء مطرح وحارة الشمال، كأن حبلاً مجدولاُ من الصمت يرفعكَ إلى الطريق في متواليةٍ أبدية
يأتي الموتُ صديقاً، خائناً رأيته ليعذّبَ الآخرين
بدموعٍ كثيرة.
إنها قصيدة تحمل طابعًا شاعريًّا مُميزًا ويحمل في طياتها العديد من الرموز والمعاني. الشاعر يقدم صورًا تعبيرية قوية تدفع المتلقي للتأمل والتفكير.
تبدأ بإشارة إلى الأغنية التي تقدم للشخص بمفرده، الأمر الذي يوحي بتجربة شخصية وعميقة قد تلهم الاكتشاف والتقدم،تستخدم القصيدة صور الطبيعة كالفجر والينابيع للدلالة على التحول والنمو الروحي. ثم يتحول انتباه القصيدة إلى تصوير منزلي حميمي، حيث يُعرض شخص يبدو أنه يعيش تجربة داخلية عميقة، يحاول فتح آفاق جديدة والتفكير في أطرافه المختلفة.
يتسم النص بالغموض؛ حيث تظهر معارضة بين الحياة والموت، الصداقة والخيانة، والألم والعذاب، هذه التناقضات تضيف للقصيدة قوة وعمق، وتحفز المتلقي على التأمل في جوانب متعددة من الحياة والإنسانية.
كما إن الجمل التعبيرية التي استخدمها الشاعر في هذه القصيدة تعكس عمقًا وغموضًا يثيران الفضول ويحفزان على التفكير العميق، استخدامه لصور الطبيعة مثل الفجر والينابيع يضفي جو من الجمال والتجدد، مما يضفي على القصيدة طابعًا رمزيًا وروحانيًا.
إضافة إلى ذلك، التناقضات التي يظهرها الشاعر بين الصداقة والخيانة وبين الألم والعذاب، تضفي على القصيدة عمقًا إضافيًا وتشكل تحديًا للمتلقي في تفسير المعاني المختلفة وفهم الحياة بشكل أعمق.
لذا.. يمكن القول إن الجمل التعبيرية التي استخدمها الغافري تجسد براعة فنية وقدرة على إيصال الرسالة بطريقة جذابة وملهمة تثير التأمل والتفكير.
أما بالنسبة الصور البيانية المستخدمة في النص السابق فقد تميزت بقوة وجاذبية تجعل القصيدة أكثر إيحاءً وجاذبية، عندما استخدم الشاعر صور الفجر والينابيع، خلق صورًا بصرية تعكس التجدد والبدايات الجديدة. وهذه الصور تضيف طابعًا جماليًّا ورومانسيًّا للنص، وتساهم في نقل الفكرة العامة للقصيدة بشكل ملموس ومرئي.
إضافة إلى ذلك، الصورة البيانية لكأس النار الصغيرة ووردة من أعلى جبل في عُمان تعزز القراءة الرمزية والعاطفية للقصيدة، ما يثير الفضول ويحفز على تفسيرات متعددة واسعة النطاق. وهنا يمكن التنويه لأن الصور البيانية المستخدمة عموماً تضفي على النص بعمق وجاذبية، مما يعزز قوة وجاذبية القصيدة ويجعلها تمتص القارئ في عالم من الجمال والتأمل.
وفي ذات ليلة كتبت زاهر الغافري نص قصير يصف فيه دهشة الموت حين يكون قريباً إلى هذا الحد فيكتب:
فرحة الموت.. في السويد، في مدينة مالمو، كنت أعرف سيدة مصرية لديها مدرسة خاصة للرقص الشرقي. زرتها ذات يوم فقالت لي "هاتلي الشلة" والمقصود تلميذاتها السويديات في الرقص الشرقي. في بيتها بدأت الموسيقى والرقص. بعد مرور ساعتين ماتت المعلمة، السيدة المصرية على الكنباية، قتلها السرطان".
من خلال الكلمات التي تم نقلها من نص "فرحة الموت" يمكن رؤية نوع من المنظور السوداوي والمأساوي، يصف النص لحظة مأساوية حين نفقد شخص عزيز علينا دون سابق إنذار، وهو ما يجلب الحزن والصدمة. فنشهد كيف يتبلور الحزن والفقدان من خلال اللحظات العابرة من الفرح والاستمتاع بالحياة؛ حيث خُيم الحزن بسرعة في جو الاحتفال والرقص، تلك الوفاة المفاجئة وسرطان المعلمة يضيفان طابعًا مؤثرًا للقصيدة.
بهذه الطريقة، يظهر الغافري استعراض عميق للجانب الظلامي من الحياة؛ حيث يتناول الفراق وكيف يترك انطباعًا قويًا على القارئ ويثير تأملاته في قيمة الحياة وتقدير اللحظات الثمينة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
حسن المطروشي ... معلّقة عمانيّة
تعود معرفتي بالصديق الشاعر حسن المطروشي الذي توّج فائزًا بالمركز الأول في برنامج «المعلّقة» في الشعر الفصيح، إلى قبل أكثر من ربع قرن، عندما استمعت إلى شعره في أمسية أقيمت بنادي (سداب) وأبهرتني ألفاظه التي يبرع في انتقائها، ورسم صور فنية مدهشة، مستدعيًا رموزًا من التاريخ العام والشخصي، ليصبّها في قالب تعبيري جديد، وبعد انتهاء الأمسية، أحببتُ أن أحيي الشاعر، الذي وجدت نفسي مشدودا إلى فضائه الشعري، فانتظرته، عند باب النادي، ولم يطل انتظاري، فقد جاء بصحبة الصديق الشاعر محمد البريكي الذي كان من بين المشاركين، وقد لفت نظري نصّه أيضا، فصافحتهما، وعلى الفور اتفقنا على لقاء قريب، وفيه طلبت الاطلاع على المزيد من شعره، فأهداني نسخة من ديوانه (قَسَم)، وهو الثاني له بعد ديوانه الأول (فاطمة)، وحين قرأت (قَسَم) وجدتُ أن طاقته الشعريّة أكبر منه، فالموضوعات لم تخرج عن السائد، إلّا في التعبير، والبناء المحكم، والانضباط العروضي، وكنتُ حريصًا على توضيح ذلك في لقائنا الجديد، ولكنني لم أكن أعرف كيف ستكون ردّة فعله، وحين التقينا، ودار حديث حول الديوان، قلت له رأيي بصراحة، وفوجئت بردّة فعله، فقد ضحك طويلا، وشاركني الرأي، وعلمت أن المناخ الشعري التقليدي السائد يملي، أحيانًا، على الشاعر مسايرته، فارتحت كثيرا لردّة فعله، وتقبّله الملاحظات، وإن كانت قاسية، هذا التقبل يعني أنه يمتلك ذائقة شعرية ونقدية عالية، وقد لاحظت أنه حين جمع أعماله الشعرية عام 2022م رفع ديوانيه الأول (فاطمة) والثاني( قَسَم) منه، وفي ذلك اللقاء، أسمعني نصوصا جديدة لم يكن قد دفعها للنشر بعد، فعاد انبهاري الأول به، وكانت تلك النصوص عربون صداقة بقيت مستمرّة لليوم، وأذكر أنني كنت يومها مراسلًا لأكثر من مطبوع عربي من بينها: مجلّة (الصدى) الإماراتية، و(الفينيق) الأردنيّة، و(الزمان) اللندنيّة، فأخذت عددًا من تلك النصوص، وبعثتها لتلك المطبوعات، ونشرت، وحين أقيم مهرجان (المربد) الشعري عام 2000م كان اسمه في مقدّمة الأسماء التي رشّحتها للمشاركة، إلى جانب الصديق البريكي والشاعر الراحل يحيى الإزكي والشاعر السوري هاني نديم، وفي بغداد التي احتضنت فعاليات المهرجان، حقّق المطروشي مع زملائه الحضور الذي كان متوقّعا، وعاد من بغداد بدعوة جديدة لبيت الشعر في الأردن من الشاعر الراحل حبيب الزيّودي -رحمه الله- وكان الزيّودي من المشاركين في المهرجان، ووجد في صوت المطروشي الشعري ما يعزّز المهرجان، ثم شارك المطروشي، في مسابقة مجلة الصدى الإماراتية، ونال المركز الثاني، وفي (دبي) التقى بالفائزين الذين يشكّلون اليوم علامات واضحة في المشهد الشعري العربي، ومن بينهم: جاسم الصحيح وعارف الساعدي، وأحمد بخيت، وعماد جبار، وعامر عاصي، وتوالت مشاركاته خارج سلطنة عمان، ومن بينها مشاركته في ملتقى الشارقة الثالث للشعر العربي، الذي أقيم في الفترة ٦- ٨ أكتوبر ٢٠٠٣م، وأكّد تميّزه، ولم يتوقّف عند ذلك، فقد بذل جهودًا في القراءة، وخاض تجارب حياتية، وزاد احتكاكه بالتجارب الشعرية العربية المتحقّقة، فنضجت تجربته، وأصدر مجموعة من الدواوين من بينها: (وحيدًا .. كقبر أبي)، و(على السفح إيّاه)، و(لَدَيَّ ما أنسى)، و(مكتفيا بالليل)، و(ليس في غرفتي شبح)، و(أحدّق باتّجاه الريح)، وأنجزت عن شعره أطروحة ماجستير بعنوان (الصورة الفنية في شعر حسن المطروشي) للباحث راشد السمري، وأخرى بعنوان (التناص في مجموعة «وحيدا .. كقبر أبي») للباحثة فتحية السيابية، وترجمت أعماله الشعرية إلى عدّة لغات، منها النصوص التي ترجمها الشاعر الفلسطيني نزار سرطاوي إلى الإنجليزيّة، وترجمت مجموعته الشعرية (لديّ ما أنسى) إلى الفرنسية، حيث قامت بترجمتها الشاعرة المغربية عزيزة رحموني، وصدرت ترجمة إسبانية لمختارات من شعره بعنوان (أطلّ عليكم من هذه الكوة) عن وزارة الثقافة بكوستاريكا.
اللافت في شعر المطروشي أنه يستقي رؤاه ولغته ورموزه من التراث العربي كونه تسلّح بثقافة تراثية قبل أن يفتح تجربته على هواء الحداثة:
«ما ليلةُ القدرِ؟
كانَ حمامكِ يهدلُ في مدخلِ الغارِ
حتى دنا مطلعُ الفجرِ
ثم تساءلتُ:
هل بلغتْ هِـجرتي سدرةَ المُـنتهى؟
كانت ظباؤكِ مَـذعورةً .. يا لها !»
يقول الدكتور إبراهيم السعافين: «شعر حسن المطروشي يضرب بجذوره في تراث الشعر العربي، ولكنه لا يقلد ولا يحاكي، بل يهضم ويمثّل، ثم يبدع ويجدّد، ويَمْضي شوطًا بعيدًا في دروب الحداثة، في الرؤية وَفي اللغة، من حيث المعجم والصورة والإيقاع»، ويستعين بالسرد، والحوار، والسؤال موظّفا تقنيّات القصيدة الحديثة في رسم المشهد الشعري:
«بلا شجرٍ أو حَمائمْ
وحيدًا كقبرِ أبي
تتقاسمني الليلَ عينان ِ نضَّـاختان ِ
ويهتفُ بي ناسِـكُ الرمل ِ:
( يا حاديَ العيس ِعـِّرج ... )
ولكنني حائرٌ،
أين ألقي بهذي الهزائمْ ؟
وحتى الغموض الذي نجده في بعض نصوصه سرعان ما يكشف عن رؤى عميقة، وفي ذلك يقول الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين: إن المطروشي يكتب «قصائده بضبابية موحية، والضبابية في الشعر تقدّم منطق الاحتمالات الخصب على منطق اليقين المحدد».
وقد جاء تتويجه بجائزة (المعلّقة) تعزيزا لرحلة مع الكتابة الشعرية التي سلكها سائرا على هذا الطريق الصعب والطويل.