كما يستطيع المتخصصون في إعادة بناء الوجوه، تقديم خدمات جليلة إلى العدالة باستعادة وجوه ضحايا الجرائم، التي حرص الجناة على تشويهها لإخفاء جرائمهم، فإنهم بالمثل استطاعوا تقديم خدمة مماثلة للحضارة المصرية، باستعادة وجوه ملوك الفراعنة التي طمسها الزمن، لخلق اتصال بصري بين الأجيال الحديثة وهذه الشخصيات التاريخية.

وبينما يكتفي أغلب هؤلاء باستعادة وجه الملك المصري القديم، سواء كان شابا أو كهلا، فإن أستاذة الأشعة بجامعة القاهرة د.سحر سليم، تعاونت مع فريق بحثي من جامعة ليفربول، ونجحوا في تقديم العمل الأكثر نضجا، إذ نشروا دراسة جديدة في دورية "ديجيتال أبليكيشنز أوف أركيولوجي آند كالشرال هيراتج" تظهر بالرسوم المتحركة كيف تغير وجه الفرعون الأشهر رمسيس الثاني من سن الشباب إلى الشيخوخة.

وسبق لسليم وفريق جامعة ليفربول، نشر دراسة العام الماضي في "مجلة العلوم الأثرية"، قدمت وجه رمسيس الثاني في مرحلتي الشباب والشيخوخة، ولكن الدراسة الجديدة خلقت مزيدا من الاتصال مع الشخصية التاريخية، إذ أعادت الرسوم المتحركة التي تظهر رمسيس الثاني وهو يتقدم في العمر من منتصف العمر إلى الشيخوخة بطريقة لم يسبق لها مثيل من قبل، مما يسمح للمشاهدين برؤية وجهه يتغير مع تعمق التجاعيد وتغير لون البشرة مع مرور الوقت، وهذه قفزة كبيرة إلى الأمام في جعل التاريخ أكثر تفاعلية.

وتقول سليم للجزيرة نت: "ما فعلناه في هذه الدراسة، يبدو وكأنه آلة زمنية، تمنح المشاهد فرصة التفاعل مع الماضي بطريقة لم تحدث من قبل، فمشاهدة ملك من الملوك العظام مثل رمسيس الثاني وهو يتقدم في العمر، من شأنه أن يعطي نظرة قوية وعاطفية تجاه الملك الذي قاد معركة من أهم معارك التاريخ القديم، وهي معركة قادش".

واستطاعت سليم بحكم عملها على مومياء رمسيس الثاني وإخضاعها للكثير من الدراسات، توفير بيانات أنثروبولوجية، كما راجع الأعضاء الآخرون بالفريق البحثي السجلات التاريخية، والتي تشمل الأعمال الفنية والكتابات، مما منحهم رؤى حول كيفية تصوير المصريين لأنفسهم والآخرين، وساعدهم ذلك على تقديم عمل علمي ناضج يضفي مصداقية كبيرة على الصور التي تم إنتاجها، بحيث تعكس لون البشرة والتجاعيد وملامح الوجه.

فحص الرأس بالتصوير المقطعي المحوسب و تقنية الفوتوغرامتري يوفران بيانات شديدة الأهمية تجعل إعادة بناء الوجه أكثر واقعية (سحر سليم) الكثير من الخطوات للعمل

ووفق ما جاء في الدراسة، فإن هذا العمل اعتمد على عدة خطوات، تبدأ بتنظيف نموذج الوجه الأصغر سنا، ولفهم هذه الخطوة، تخيل أنك تعمل على منحوتة من الطين لوجه شخص ما، ولكن السطح خشن ومليء بالنتوءات، مما يجعل من الصعب إضافة تفاصيل مثل التجاعيد أو الجلد الناعم، واستخدم الباحثون أداة ( أوتوديسك مايا)، لتنعيم هذه النتوءات، مما يجعل نموذج رمسيس الثاني الأصغر سنا أسهل في العمل معه. بعد ذلك أخذ الباحثون هذا الوجه الأصغر سنا الأملس والمنظف وأدخلوه في برنامج نحت جديد يسمى (زبراش)، ثم أحضروا نموذجا ثانيًا لرمسيس الثاني الأكبر سنا ووضعوه بجوار النموذج الأصغر سنا.

وعلى الرغم من أن النموذجين (الوجه الأصغر والأكبر سنا) بديا مختلفين، فإن الباحثين أرادوا أن يكون لهما نفس البنية الأساسية في الأسفل، مثل مطابقة الهياكل العظمية في الداخل، لذا، باستخدام برنامج (زبراش)، جعلوا الوجوه الأصغر والأكبر سنا تشترك في نفس الأساس. بعد ذلك، قاموا بالتكبير وبدؤوا في إضافة تفاصيل صغيرة للجلد مثل التجاعيد والمسام وملمس الجلد، لجعله يبدو واقعيا.

وبمجرد الانتهاء من التفاصيل، بدأ الباحثون في طلاء الجلد، وبالنسبة لرمسيس الأصغر سنا، استخدموا لونا بنيا عسليا، بناء على شكل المومياء اليوم. وبعد طلاء الوجه الأصغر سنا، انتقلوا إلى الوجه الأكبر سنا، وأضافوا بقع الشيخوخة الداكنة وعلامات أخرى تميز جلد الشخص الأكبر مثل جعله يبدو أكثر خشونة قليلا.

وبمجرد الانتهاء من الطلاء والنحت، قاموا بالتبديل ذهابا وإيابا بين النموذجين الأصغر والأكبر سنا، مع التأكد من أن كليهما يبدو جيدا، ثم قاموا بحفظ كل شيء حتى يتمكنوا من استخدام النماذج لاحقا، مثل إظهار شكل رمسيس الثاني في نقاط مختلفة من حياته، أو حتى عمل رسوم متحركة تتحول بين وجهه الأصغر والأكبر سنا.

د.سحر سليم أمام مومياء رمسيس الثاني في متحف الحضارة بالقاهرة، ويظهر في الخلفية التابوت الخشبي للملك، وهو ضمن مقتنيات المعرض المتنقل حول العالم (سحر سليم) النسخة الأكثر واقعية

ومع هذه الخطوات التي تمزج بين الفن والمقاييس العلمية، تؤكد سليم أنهم لا يدعون وصولهم إلى نسخة طبق الأصل من رمسيس الثاني، لكنهم يستطيعون الجزم بأنهم نفذوا عملية إعادة بناء أكثر التزاما بالمنهج العلمي، مما جعلها تنتج نسخا أكثر مصداقية وأقرب إلى الواقعية تميزهم عن محاولات سابقة أقدم عليها آخرون لم يتوفر لهم نفس البيانات التي استخدموها في دراستهم.

وظهرت مؤخرا محاولات غير علمية لتشكيل وجوه المصريين القدماء بشكل خاطئ، وطالت للأسف بعضا من الملوك في مصر القديمة، وهي تجارب تعتمد على استخدام بعض من صور المومياوات المنشورة في الإنترنت، والتي لا تعطي بالطبع المعلومات الكافية لعمل صور ثلاثية الأبعاد، وذلك بدلا من استخدام الطرق العلمية الدقيقة مثل الاستعانة بفحص الأشعة المقطعية أو تقنية الفوتوغرامتري والتي يتم خلالها تصوير الرأس بعشرات من الصور من مختلف الاتجاهات.

وتقول سليم: "كانت النتيجة الحتمية لمثل هذه التجارب إعطاء تصور خاطئ لشكل و لملامح وجوه المصريين القدماء لتكون أقرب لملامح أفارقة جنوب الصحراء، وهذا على الرغم من أن المعلومات التاريخية والأثرية الموثقة بالنقوش على جدران المعابد والمقابر والتماثيل تثبت المميزات الشكلية للمصريين القدماء والتي ميزتهم عن باقي الشعوب المحيطة بهم".

وتوضح سليم أن "عملهم الجديد مع مومياء الثاني يؤسس للمنهج العلمي الذي يمكن بشكل واضح تمييزه عن هذه المحاولات غير العلمية، فعلى سبيل المثال، فإن التصوير المقطعي المحوسب الذي أجريته لمومياء رمسيس الثاني، من شأنه أن يقدم، ليس فقط تفاصيل خارجية للشكل، لكنه يوفر معلومات عن بنية العظم والعضلات، كما أن فحص المومياء يعطي بيانات عن شكل الشعر ولونه، وكذلك لون الجلد، ويمنحنا هذا الكم من المعلومات القدرة على إجراء عملية إعادة بناء للوجه أكثر واقعية من المحاولات الأخرى".

ويملك الفريق البحثي من معمل إعادة بناء الوجوه بجامعة ليفربول، سجلا حافلا من النجاحات في الكشف عن العديد من الجرائم، كان أشهرها الجريمة التي هزت الرأي العام في بريطانيا لابن لم يكتف بقتل أمه، بل قام بتشويه جثتها وإلقائها عند سفح تل جبل، لتتمكن الشرطة لاحقا بمساعدة علماء جامعة ليفربول من استعادة وجه الأم القتيلة، ويتعرف عليها أحد أقاربها بعد نشر الصورة، ويقود ذلك الشرطة إلى كشف الجاني، وهو نجلها الذي كان يقيم في منطقة قريبة من مكان العثور على الجثمان.

وتقول سليم: "مثل هذه القصة، وقصص أخرى من نجاحات فريق جامعة ليفربول، شجعتني على التعاون معهم، بعد أن تأكدت أن منهجهم ليس فنيا فحسب، لكنه عمل قائم على العلم".

اعتبارات أخلاقية مهمة

وبينما أعادت الرسوم المتحركة رمسيس الثاني إلى الحياة افتراضيا في هذا العمل، كان الفريق البحثي حريصا على الاعتبارات الأخلاقية، مثل اختيار تحريك الوجه بتعبيرات محايدة لتجنب عدم احترام المتوفى، حيث ركز الرسم المتحرك فقط على عملية الشيخوخة، متجنبا أي حركة قد تفهم على أنها إساءة، مثل جعل الفرعون "يتحدث".

وتقول سليم: "كان هدفنا واضحا، وهو تعميق تقدير الجمهور للتاريخ وحياة الملوك الذين عاشوا منذ آلاف السنين، وجذب جمهور أوسع للتاريخ وإثارة الاهتمام بالحضارات القديمة، لذلك حرصنا على الالتزام بالاعتبارات الأخلاقية".

وفي الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم حاليا للمعرض المتنقل للملك رمسيس الثاني والذي يحمل قطعا أثرية فريدة من بينها التابوت الخشبي للملك رمسيس الثاني، ترى سليم أن عملهم يخلق مزيدا من الاهتمام برمسيس الثاني.

وبدأ المعرض في عام 2021 بزيارة عدة مدن في الولايات المتحدة ثم انتقل الى أستراليا وهو حاليا في ألمانيا، ومن المنتظر زيارته لليابان أوائل العام المقبل.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات جامعة لیفربول رمسیس الثانی الأصغر سنا إعادة بناء سحر سلیم

إقرأ أيضاً:

«مدرسة أبدية».. فيلم وثائقي عن النساجين بمركز رمسيس ويصا واصف بالجيزة

يوم الأربعاء الماضي، ومع دقة عقارب الساعة معلنة السابعة مساءً، انطفأت أنوار المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية، لتعلن بدء عرض الفيلم الوثائقي «مدرسة أبدية» لأول مرة في مصر، للمخرجة نانسي كمال، والذي يدور حول حياة النساجين أو الفنانين في مركز المهندس الراحل رمسيس ويصا واصف بقرية الحرانية بالجيزة.

ويتناول الفيلم العلاقة الإنسانية التي جمعت بين جيلين تعاقبا على المركز، وكيف كان كل من أبنائهما سندًا ودعمًا للآخر، ليظل الحضور في حالة خاصة من التركيز والانسجام طوال 65 دقيقة هي عمر الفيلم، الذي بمجرد انتهاءه اختلطت حرارة الدموع والتصفيق من الجميع في مشهد إنساني مهيب.

بداية فكرة فيلم «مدرسة أبدية»

«زرت المركز زمان أيام الجامعة ومن وقتها كانت الفكرة في دماغي».. قالتها نانسي كمال، مخرجة فيلم «مدرسة أبدية» الوثائقي، موضحة أن اختيار اسم الفيلم جاء تعبيرًا عن استمرار نجاح فكرة المهندس رمسيس ويصا واصف رغم رحيله، ورغم تعاقب أجيال مختلفة على المركز، إلا أنه ترك فكرة راسخة تتلخص في أن كل إنسان إذا نال ما يستحقه من تقدير وحرية يمكنه التحليق في سماء الإبداع دون حدود أو قيود مهما كانت درجة بساطته.

كان المهندس رمسيس ويصا واصف قد وصل قبل نحو 75 عامًا إلى قرية الحرانية بالجيزة، ليجد أغلب أهلها كما هو معتاد في القرى، يعتمدون فقط على النشاط الزراعي للحصول على الرزق اليومي وقوت أولادهم، فقرر تنفيذ تجربة جديدة تعتمد على فكرة مفادها أن منح الحرية للشخص هي بمثابة منحه صك الإبداع، وكانت تجربته التي نوى تنفيذها هي تعليم أهالي القرية فن رسم لوحات النسيج بواسطة الخيط والنول.

تأسيس مركز رمسيس ويصا واصف

فتح رمسيس ويصا منزله الواسع أمام أطفال القرية يلهون فيه كيفما شاءوا، وبدأ يلفت نظرهم إلى الرسم بالخيوط على النول، وبعدما خاض الأطفال التجربة وجدوها ممتعة، فأخبرهم أنه بإمكانهم الاستمتاع بهذا الفن، وفي الوقت ذاته تحقيق ربح جيد، ثم راح بعدها يمنحهم مبلغ مالي مناسب لكل لوحة بسيطة ينجزوها، واضعًا قاعدة واحدة للعمل في المركز وهي «عدم وجود قاعدة»، لتتوالى السنون ويكبر هؤلاء الأطفال حتى يشيخون، ويستقبل المركز جيلًا جديدًا يتعلم على أيدي من سبقوه، وهكذا أصبح كل مَن في هذا المكان أسرة واحدة يجمعها الحب ويميزها الإبداع.

ومع هذا التميز الواضح والنجاح الشديد، أصبح المركز قِبلة كل المهتمين بالفن المقدرين للإبداع، بل ومادة خصبة للقائمين على إنتاج الأعمال الفنية المكتوبة والمصورة في مصر وخارجها، وهو ما وضع تحديات كثيرة أمام المخرجة نانسي كمال قبل خوض تجربة التصوير، وهي البحث عن زاوية جديدة وقوية تتميز بها عمن سبقوها، حتى وجدت ضالتها في تسليط الضوء على العلاقة الإنسانية التي جمعت بين جيلين تعاقبا على المركز.

استمتاع حقيقي خلال تصوير الفيلم

«كنت مستمتعة جدًا خلال تصوير الفيلم، ولمست قد أيه الناس دي فنانين وبسطاء جدًا وبيحبوا شغلهم ومتعلقين به»، وفقًا لـ«نانسي»، وأن الفيلم تضمن مشاهد وحكايات مؤثرة في حياة أبطاله من فناني المركز، كانت سببًا في أن تضج قاعة المسرح الصغير بالتصفيق الحار من جميع الحاضرين بمجرد انتهاء العرض: «الحمد لله اللي حضروا العرض كانوا مستمتعين جدًا لدرجة إنهم محبوش يمشوا بعد انتهاء الفيلم قبل ما ياخدوا صور تذكارية مع أبطال الفيلم ويسلموا عليهم»، وكل ذلك شَكّل مشهدًا ولقاءً أسريًا مميزًا.

لم يكن عرض فيلم «مدرسة أبدية» الوثائقي في دار الأوبرا هو الأول له بشكل عام، بل في مصر فقط؛ إذ سبق عرضه في النمسا قبل سنوات، وجاء عرضه بدار الأوبر ضمن النشاط الثقافي والفكري بالدار برئاسة الدكتورة لمياء زايد، حسب توضيح «نانسي» التي أوضحت أن أبطال الفيلم من الجيل الأول في المركز هم «لطفية شعبان، وعلي سليم»، ومن الجيل الثاني «رضا أحمد، بسيمة محمد، تحية إبراهيم، ثريا حسن، محروس عبده، وصباح علي».

مقالات مشابهة

  • سائح مكسيكي يخطب صديقته أمام معبد رمسيس الثاني
  • «مدرسة أبدية».. فيلم وثائقي عن النساجين بمركز رمسيس ويصا واصف بالجيزة
  • تدشين دورة “العادات الـ7” لكوادر وموظفي بنك بن دول للتمويل الأصغر الإسلامي
  • الزمالك يهزم شبابه برباعية استعدادا للقاء السوبر الأفريقي أمام الأهلي
  • الزمالك يهزم شبابه وديا
  • أمير رمسيس: صورت فيلم «وسط البلد» في شوارع حقيقية
  • فريق بحثي يبني بروفايلا علميا خاصا للخيول العربية المصرية الأصيلة
  • "البحوث الزراعية" ينظم ورشة عمل دولية لبرنامج بحثي حول استدامة الاقتصادات
  • كأول بنك يمني والرابع على مستوى العربي.. بنك الكريمي يحصل على جائزة (SME Financier of the Year) العالمية